فى الأمخاخ لا اللحى يا دكتوووور - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 10:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى الأمخاخ لا اللحى يا دكتوووور

نشر فى : الخميس 15 نوفمبر 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 15 نوفمبر 2012 - 8:00 ص

مصر تمر بحالة ابتلاء فى دينها ودنياها، وأحد أبرز مظاهر هذا الابتلاء ما يمارسه ويدعو إليه نفر من المحسوبين على الإسلام، وصفهم كاتب إسلامى كبير بأنهم متطفلون على الإسلام وعبء عليه، ناهيك عما ينشرونه من هرج وهوج، وممارسات تدفع بالأمة إلى منزلق خطير، من العنف والتخلف والتفتت، أما دعاواهم وفتاواهم فهى فى غاية العجب، ومن ذلك ما شاهدته على شاشة إحدى القنوات المسماة بالدينية، وهو منتشر على الانترنت، ومن مواقع انتشاره موقع يسمى «بلاوى الفتاوى»، وقد نفرت من هذه التسمية حينا، لكن مع تفاقم الظاهرة فى وقائع يصح أن تُجمع ليتكون منها «كتاب أسود» لأقاويل وأفاعيل هذا التيار، بت مقتنعا أنها «بلاوى» حقيقية، وإليكم مثال منها:

 

 

مقدم البرنامج ذو الجلباب واللحية المعقولة، والذى تنم ملامحه عن إنسان بسيط يوحى مظهره بالجوهر الطيب، يلتقى برجل ستينى بادى الوقار، بلحية خفيفة، وفى ثياب أفرنجية، يُقدَّم بأنه «فضيلة الأستاذ الدكتور أستاذ علم السموم فى جامعة كاليفورنيا، ومستشار علم التسمم فى المحاكم الجنائية الأمريكية، وصاحب ومدير معامل الطب الجنائى بلوس أنجلوس أمريكا»، ويدعوه المُقدِّم الشيخ للحديث، فيتكلم بهدوء أقرب للبرود، لكنه عبر هذا البرود ينطق عجبا:

 

 

ــ الدكتور: «عايز اتكلم عن إعفاء اللحى بالذات والله بعض الأطباء لقوا نتائج ممتازة فى معالجة الضعف الجنسى بإعفاء اللحى».

 

 

ــ المذيع الشيخ مهللا: «سبحاااان الله».

 

 

الدكتور: «فإعفاء اللحية بينشط التستوستيرون فالناس اللى عندهم ضعف جنسى وعدم قدرة على الانتصاب لما يعفوا اللحية بتزيد كميته وقاسوها بالميكروجرام ولقوا التستوستيرون بيزيد عند الرجل لو هو ترك اللحية.أعفاها».

 

 

ــ المذيع مهللا بحماس أكبر: «سبحاااان الله العظيم».

 

 

فعلا سبحان الله العظيم، أقولها أنا أيضا، ولكن تعجيا وهولاً من أمثال هذا «الدكتور الأستاذ المستشار المدير»، ووزره فيما ادعاه أشد ثقلا من ترحيب وتهليل المذيع الشيخ الذى من الواضح محدودية ثقافته العامة، أما المحاكمة العقلية لديه، فهى مما لم يبد له فى الحوار من أثر، ولعلها تكون ثاوية فى ضميره لكنه أكل العيش الذى يجعله يتلقف كلاما عجيبا ومعيبا كهذا كمعجزة تزيد من نسبة المشاهدة ومن تكاثر تابعى هذا التيار. أما تعجبى مما قاله الدكتور فليس فقط للهدوء البارد الذى يسوق به تدليسة علمية واضحة، بل أيضا من أن التاريخ لا يعيد نفسه بشكل ساخر فقط، ولكن بسخرية تصل أحيانا إلى حد المسخرة. وقبل أن أسرد واقعة تاريخية تتعلق بالتستوستيرون حدثت فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، أُبدى بعض الملاحظات الطبية على حديث «فضيلة الأستاذ الدكتور المستشار المدير».

 

 

 مع حالات العنَّة لدى الرجال يحدث على الأغلب اكتئاب نفسى عميق يهمل فيه المريض مأكله ومظهره ويترك لحيته تنمو دون أن يُخرجه إطلاق اللحية مما يعانيه، وعندما ينجح العلاج النفسى والدوائى فى إخراجه من معاناته ينتعش وتكون عودته لحلاقة ذقنه من علامات هذا الانتعاش، فيقبل على الدنيا حليقا، وحليقا يستعيد ما كان يفتقده ! كما أن نقص التستوستيرون ليس العامل الحاسم فى حدوث العنة النفس جسدية التى من الواضح أن الحديث يدور عنها، فخلال اثنى عشر عاما عملت فيها بالطب النفسى فى مصر وخارجها لم يكن هناك يوم يمر إلا وتكون هناك حالة عنة أناظرها مع زملائى وأساتذتى، ولم يكن التستوستيرون ضمن وسائل العلاج ولا فى حالة واحدة منها، بالرغم من تعدد الأسباب العضوية المحتملة لحدوث العنة، وهو مما يتعلم الطبيب النفسى أن يستبعدها أو يتحسب لها قبل الشروع فى أى علاج نفسى دوائى أو غير دوائى، ثم إن التستوستيرون كثيرا ما يكون مستواه عاديا، بل حتى مرتفعا، وتحدث العنة. فالكلام عن إعفاء اللحية كعلاج لها لا يعدو كونه كلاما فارغا من طبيب «أستاذ دكتور مستشار مدير»!

 

 

فى علاج العنة بكل أنواعها يبدو مثل ذلك الحديث عن إطلاق اللحى كمداواة محض ادعاء، فالعنة ذات السبب العضوى الواضح تُعالَج بوسائل طبية وأحيانا جراحية، والعنة النفس جسدية الشائعة لا يدخل التستوستيرون فى وسائل علاجها، ناهيك عن تخريفة أن إعفاء اللحية يزيد من إفراز التستوستيرون، وإلا كان أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية من الآسيويين الجُرد خفيفى اللحى، بل منعدميها تقريبا، محرومين من هذا الهُرمون، وهذا غير صحيح قطعا. كما أن الطبيب الأمريكى روبرت سابولسكى المُعتبر كمرجع عالمى فى مجال الأمراض النفس الجسدية يقطع بأن انخفاض مستوى التستوستيرون لا يؤثر كثيرا على السلوك الجنسى حتى لو بلغ 10% من المستوى الطبيعى، فالمسألة ليست وقفا على هذا الهُرمون المثير للخزعبلات، الحديثة، والقديمة، وإليكم مثالها القديم:

 

 

فى أعقاب مذابح الحرب العالمية الأولى، ونتيجة موت الكثير من الشباب فى هذه الحرب زادت نسبة الإناث وصار ممكنا أن تستسلم كثيرات من الفتيات للقبول بالزواج من رجال يكبرونهن عمرا بعشرات السنين طالما كانوا قادرين على دعمهن فى الحياة الصعبة فترة ما بعد الحرب. وكان هرمون الذكورة الذى لم يكتسب بعد اسم «التستو ستيرون» بالكاد يبزغ، دون أن تكون هناك معرفة دقيقة بطبيعته ودوره، وتم الربط بين الشيخوخة وقلة إفراز هذا الهرمون، ومن ثم شاعت فرية أن الحَقن بخلاصة الغدة المفرزة لهذا الهرمون تعيد الشباب، وسرعان ما راح الأغنياء يترددون على المصحات السويسرية الراقية ليُحقنوا يوميا فى إلياتهم بمفرزات خِصى استُحصلت من الكلاب والديوك والقرود. بل صار فى الإمكان أن يذهب الشخص بنفسه إلى مستودع خلف المصح، وينتقى تيسا أو ديكا أو قردا ليُحقن بخلاصة «غدته»!

 

 

هذه الصرعة العلاجية أسميت حينها «استعادة الشباب بغدة القرد»، طلبا للاحتشام حتى لا تُسمى غدتا الذكورة بالاسم الصريح لهما، ثم نُسبت للقرد الذى كانتا غدتاه هما الأغلى سعرا والأرفع مقاما والأسخى وعدا بحيوية وتنطيط وظرافة الشباب! وقد اجتذبت الكثيرين من مشاهير العالم المسنين الذين كان بينهم رواد صناعات عالمية كبرى، ورؤساء أمريكيون، وأحد باباوات الفاتيكان، كلهم سجلوا أنفسهم لتلقى هذا العلاج الذى كان ممكنا للبداهة أن تكتشف خباله، من مجرد ملاحظة أن النساء ليس لديهن «غدتان» تضعفان مع العمر، ومع ذلك تلحق بهن الشيخوخة كما تلحق بالرجال. وقد تبين فيما بعد أن التستوستيرون كان يحقن فى هذه الهوجة مع أساس مائى، بينما هو لا يذوب فى الماء، ومن ثم كان غير مجديا حقنه، كما أن زرع قطع صغيرة من «الغدة»، سرعان ما كانت تموت أنسجتها فى جسم متلقيها وتتقرح، فيتصور المهووسون بها أن تقرحاتها دليل نجاح «التطعيم»، فيتلبسهم جنون الشباب، ليقفزوا قفزة أو اثنتين ثم يخمدون، إلى الأبد!

 

 

أما الضربة العلمية القاضية لهوجة «غدة القرد» فجاءت بعد ذلك، عندما تقدم البحث العلمى الطبى وكشف أن هذه الغدة وغيرها لا تفرز هرموناتها من تلقاء نفسها، بل تتحكم فى ذلك غدة مركزية هى الغدة النخامية الواقعة أسفل المخ، وأكثر من ذلك ثبت أن الغدة النخامية نفسها لا تعطى أوامر تشغيل الغدد المحيطية التى من بينها «غدة القرد»، إلا بعد أن تصدر لها الأوامر العليا من المخ. فالمسألة أصلا فى المخ، وليست بين الرجلين!

 

 

يبقى بعد ذلك ملاحظة أن مرتادى هذه القنوات المسماة «دينية» عندما يخوضون فى هذه المسائل فلا حرج عليهم، أما إذا تكلمت بالعلم فيها طبيبة أو تكلم طبيب فهذا «نشر للفاحشة» يتطلب المنع من الظهور فى وسائل الإعلام، ليخلوا الفضاء لهم! وبالعودة إلى فضيلة طبيب السموم الأستاذ الدكتور المستشار المدير، فهو بين أمر من اثنين لا ثالث لهما، إما أنه لا يعلم ومن ثم يرتجل، أو أنه يعلم لكنه يختلق، تملقا لهذا الاتجاه العجيب الغريب وترسانته الإعلامية التى تبث ما تبث، لهوى فى نفسه أو غرض أو تعصب. وفى المقابل، فإن الاحتفاء بمثل هذه التدليسات على اعتبار أنها تحبب الملتحين فى لحاهم أو تستقطب لإعفاء اللحى مزيدا من الناس، لهو أمر يتجاوز الكذب على النفس والناس إلى الكذب على الله، لأن الأمر فى هذه الحال لاييدو أمر تقوى دينية، بل تقوية دنيوية.. للباه!

 

 

لقد التفتُّ إلى هذا الفيديو على الانترنت منذ شهور، لكننى نحيت الكتابة عنه حفاظا على مشاعر ملتحين وسلفيين أعرفهم ومنهم أقارب وأصدقاء أطباء وأساتذة جامعة أعتز بإنسانيتهم وأحترم صدق اختيارهم وإن كنت لا أتفق معهم فيه، لكن تصاعد الأمور فيما يقوم به العوام وأشباه العوام من منتسبى هذا الاتجاه تحت قيادة وتحريض «رموز» سلفية فجة ومريبة، وإعلام «دينى» مسىء للدين والدنيا، كل هذا يُفشى حالة من الهوج والهرج تشعل العنف والفوضى وتُفضى إلى مصير دول صارت خرابات تحت إمرة ذلك الهوس كأفغانستان والصومال، وهذا مما أثق أن من أعتز بمودتهم لا يرضون عنه روحا وعقلا ووطنية.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .