حتى الجنون تدهور! بلاغ لمن يهمهم الأمر - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 11:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حتى الجنون تدهور! بلاغ لمن يهمهم الأمر

نشر فى : الخميس 15 يوليه 2010 - 5:29 م | آخر تحديث : الخميس 15 يوليه 2010 - 5:29 م

 كنت أحلم بإجازة صافية بعيدا عن الهم العام، لكننى فجأة بوغِتُّ بوابل من الرصاص ينهمر عشوائيا من بندقية آلية يصوبها مخلوق مصرى بائس على ضحايا مصريين من زملائه.

واختلط تراب الهم الهائج برشاش الدم المتطاير، ستة قتلى ومثلهم من الجرحى، فاصل جديد من غرائب الجرائم التى باتت تمشط مصر من أقصاها لأقصاها، التى أرَّقتنى وكتبت عنها فى هذه المساحة، فى 20 مايو الماضى تحت عنوان «سفاحون بالصدفة»، محاولا تقصِّى الظروف الاجتماعية التى تُنتِج هؤلاء القتلة، والوقوف بالتأمل النفسى عند لحظة القتل الهائلة التى يهوى فيها هؤلاء المساكين، لعلى أتعرف على كنه هذه الجرائم الغريبة، وموقعها بين التغيرات الأغرب التى ألمت بمجتمعنا.

قضية السائق محمد طه سويلم، مرتكب مذبحة أتوبيس شركة المقاولون العرب، الإنسان المصرى العادى الذى تحول إلى سفاح فى أخريات أيامه، هى جرس إنذار تكرّر رنينه المفزع كثيرا دون أن نعبأ به، وهو تنبيه يُلحُّ على أن هناك تشوُّها فظيعا حدث فى المجتمع المصرى، صحيح أن قاطرة الفساد والاستبداد والفوضى الخارجة عن القضبان هى التى قادت وتقود هذا التشوُّه فى رأيى وفى رأى الشهود العدول.

لكن هذا لايكفى لوقفة مُعمّقة لاتخاذ موقف صحيح من هذا التشوه ومسبباته، وقفة ينبغى أن تكون علمية ومحايدة وجادة، ومناط إجماع كل الفرقاء فى مصر، لأن الظاهرة تُهدد الجميع فى مصر.

منذ فترة قريبة كنت مدعوا لحضور حفل تكريم لأحد أصدقاء العمر الأعزاء، الطبيب النفسى الدكتور حمدى شكرى، فى مبنى مستشفى المنصورة للأمراض النفسية الجديد خارج المدينة، وفى حفل التكريم الذى أقامه المدير الجديد الدكتور نعيم نخلة للمدير السابق موضع التكريم.

عشت لحظات من بهجة استعادة جزء من الزمن الجميل، ويبدو أن كل زمن يمضى فى بلادنا يصير جميلا، وهذا ليس جميلا أبدا، لأنه يعنى أننا نتدهور باطراد من سيئ إلى أسوأ! حتى فى أمراض النفوس والعقول! وهاهى الحكاية:

فى نهاية الحفل، وقفت أتحادث مع الأصدقاء الزملاء الذين تشاركنا فى العمل بقسم الأمراض النفسية بمستشفى المنصورة العام القديم، ورحت أستعيد ذكرى الحالات المثيرة للدهشة التى ناظرناها معا: هياجات هوسية كانت تتدفق علينا مع صعود الصيف، مفعمة بطاقات مذهلة الانفجار من الحركة والتأهب للغناء وتطاير الأفكار وسرعة البديهة والمرح الجنونى.
وفصامات تزخر هلوساتها بألوان خارقة من الصور العجيبة والأصوات وتنهض على منطق مختل لكنه شديد الترابط ولافت فى غرائبيته، وساوس تنطلق من تصورات مبدعة حتى فى جنوحها، واكتئابات ذات نزعات رومانتيكية مغسولة بمطر من صفاء الدموع. غِنى بلاغى فى خطاب المرض النفسى كنا نلاحظه برغم مأساوية المصير وعمق الألم.

كنت مستغرقا بشغف فى تذكُّر عديدين من أصحاب هذه الحالات لم أنس أسماءهم وأسماءهن قط، وكان الأصدقاء والزملاء الدكتور أحمد ضبيع والدكتور حمدى شكرى والدكتور أحمد سيف يكملون لى قصص هؤلاء المرضى والمريضات الذين غادرتهم منذ ثمانية عشر عاما بينما استمر زملائى الأصدقاء فى علاجهم، وإذ بصوت يقول لى «إنسى»، ماذا أنسى؟ كانت صور الأمراض النفسية أو العقلية التى أسردها وعايشناها معا هى مايطلبون منى توديعه.

لماذا؟ وبادروا جميعا بالتأكيد على أن الصور التى عهدناها للأمراض النفسية والعقلية تغيرت جدا عما كنا نراه منذ عشرين أو خمس وعشرين سنة! كيف؟ تساءلت مدهوشا. وفهمت مستغربا أن الهوس الكرنفالى بصخبه ومرحه وتطاير أفكاره وسرعة بديهته وطاقته العارمة التى لاتهدأ لم يعد يظهر، وإن تبدّى يكون نادرا وتشوبه القتامة.

والفصام لم يعد به ذلك الغنى فى التشكيل الذى يطبع ضلالاته وهلوساته التى كانت تبهرنى، وهناك أعراض اختفت تماما من ساحة الأمراض النفسية ! فماذا هناك؟ سألت، وكانت الإجابة أن السائد الآن هو مزيج غير متجانس من الذُهانات المختلطة والاكتئابات وكثرة من حالات «الهلع»!

وجمت مبهوتا، لأن ذلك كان يعنى شيئا خطيرا جدا ضمن الانحدارات التى لحقت بالمجتمع المصرى. فطغيان الاكتئاب والهلع وفقر النسيج البلاغى فى الأمراض النفسية ماهى إلا مؤشرات على تدهور الجنون. حتى الجنون تدهور؟! تساءلت حينها فى داخلى ولم أكف عن التساؤل، وعقدتُ العزم على مناقشة واسعة لهذه الظاهرة وحدودها ودلالاتها مع أساتذة الطب النفسى وزملاء التخصص، لكن زحمة الحياة فى زحامنا المصرى الخانق أجّلت كالمعتاد ما انتويت الاحتشاد له.

عزَّيت نفسى بأن الموضوع وإن كان لايحتمل الإهمال إلا أنه قابل للتأجيل، خاصة أن واقعنا المحتدم بمصائبه لا يكف عن مفاجأتنا بما لا يقبل التأجيل، كمذبحة أتوبيس شركة المقاولون العرب التى تطرح وجوب بحثها كما مثيلاتها من زاوية العلوم النفسية والاجتماعية، لا للفائدة العلمية فقط، بل للمردود العملى الذى صار فى رأيى ضرورة قصوى لحماية المجتمع من سفاحين بــ«الصدفة»، هم ضحايا وجُناة فى الوقت نفسه، ويمكن أن يكونوا على أبواب بيوتنا وفى شوارعنا وداخل وسائل مواصلاتنا، وقريبين منا بأكثر مما نتصور.

لقد أمر النائب العام بمحاكمة سريعة لمرتكب المذبحة الأخيرة، وهو توجُّه حميد للعدالة الناجزة، لكننى أتصور أن هناك شقا غائبا فى كمال هذه العدالة هو حق المجتمع فى معرفة ماذا حدث ويحدث للوصول بالجناة الذين ليس لهم تاريخ إجرامى إلى هذا الدرك من الشذوذ الإجرامى، لهذا ينبغى أن تكون هناك تكليفات للبدء دون إبطاء فى الدراسة النفسية والاجتماعية للجُناة، الذين أعتقد أنهم ضحايا حتما، وهذا لا يعفيهم من تلقِّى العقاب عما اقترفوه، فالقصاص لابد أن يجرى فى مساره القانونى، وصحيح أن كل حكم هو عنوان الحقيقة بمنطق القانون.

لكن هناك حقائق أخرى نفسية واجتماعية من حق الناس أن يقفوا عليها، ببحوث علمية جادة لا أقوال مرسلة مما تلوكه الصحافة ووسائل الإعلام دون سند من معرفة معمقة أو تقصٍّ دقيقٍ أو حتى قليل من التأمل. وبهذا الشأن أُطلِق نداء للنائب العام المحترم المستشار عبدالمجيد محمود الذى أظن أنه يتحمل بنبالة أثقل مهمة ينهض بها مسئول مصرى، ويؤديها بكرامة رجل قانون حقيقى.

وباجتهاد عصيب بين شقى رحى ضغوط السلطة والمتطلبات الأخلاقية للموقع الرفيع، كما أوجه النداء ذاته للجمعية المصرية للطب النفسى وأساتذة التخصص الكبار، وأمانة الطب النفسى بوزارة الصحة ومركز الطب النفسى الشرعى الجديد، كما مركز البحوث الجنائية والاجتماعية.

وأساتذة علم النفس والاجتماع. لهؤلاء جميعا ولمن يعنيهم الأمر، وينبغى أن يعنيهم، أُوجِّه نداء بضرورة تكوين هيئة علمية لدراسة الأبعاد النفسية والاجتماعية فى الجرائم الشاذة التى تتسارع تفجيراتها فى مجتمعنا، فلابد أن نعرف ماذا حدث بالضبط، ليعرف الناس ماذا يفعلون فى المقابل، لوقاية أنفسهم من هجمات خارج التوقع ومُنافية حتى لمنطق الجنون التقليدى والإجرام المعروف.

أطلب من النائب العام المحترم، وآمل أن يتعزز طلبى بمطالبات أخرى ممن ذكرت وممن لم أذكر وتقنعهم الفكرة، ألا يتم تنفيذ حكم الإعدام فى مرتكبى جنايات القتل الشاذة التى روعت المجتمع، كقاتل فتاتى حى الندى وقاتل مديرة الائتمان ببنك مصر وقاتل طفل القرية السياحية بالبحر الأحمر وقاتل الأم وأطفالها الثلاثة ببنى مزار وقاتل زملائه فى أتوبيس شركة المقاولون العرب، وكل من يماثلهم من القتلة.

ألا يتم إعدامهم إلا بعد الحصول منهم على حق المجتمع فى المعرفة النفسية والاجتماعية المدققة لملابسات جرائمهم، ونشر خلاصات مدروسة لما يتم التوصل إليه من أبحاث على الرأى العام، ليعرف الناس، على الأقل، كيف يقون أنفسهم من هكذا مذابح بـ«الصدفة»، وكيف لايسهمون فى صناعة هكذا سفاحين، بـ«الصدفة» أيضا.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .