اللعبة والملعوب - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 9:20 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اللعبة والملعوب

نشر فى : الأربعاء 15 يوليه 2009 - 8:36 م | آخر تحديث : الأربعاء 15 يوليه 2009 - 8:36 م

 عندما ضجّت الدنيا بنبأ استنساخ النعجة «دوللى» منذ ثلاث عشرة سنة، شعرت بالانقباض لاطلاعى على ما تضمنه ذلك الاستنساخ من عنف وتجويع وترويع على المستوى الخلوى داخل المعمل، فالمادة الوراثية لدوللى أُخذت من نواة خلية من ضرع النعجة الأم المراد استنساخها، ثم وُضعت فى بويضة مفرغة من نواتها مأخوذة من نعجة ثانية، وبتعريض هذه البويضة المركبة للتجويع بحرمانها من المغذيات، وترويعها بصعقة كهربية، نشطت متحولة إلى جنين تم غرسه فى رحم نعجة ثالثة، حملته هونا على هون ومهانة فى مهانة، إلى أن وُلدت دوللى فى 5 يوليو 1996.

اسم «دوللى» يعنى اللعبة، وهى لعبة قهر معملية لها فى الطبيعة مثيل عجيب يتكرر أمام أعيننا، ويتجسد فى اندفاع كل الكائنات، ومنها البشر، للتناسل والتوالد فى مواجهة أى تهديد بالموت، تجويعا، أو ترويعا، وأقرب دليل إلينا هو معدل المواليد المرتفع فى البيئات الأشد فقرا والأكثر امتلاء بمهددات الحياة، وقد انتبه لهذه الظاهرة على المستوى البشرى الأديب وعالم الاجتماع الأمريكى اللاتينى «خوسيه دى كاسترو»، فربط بين تهديد الحياة وفرط التكاثر فى كتابه «جغرافية الجوع».

هذه المعادلة قد توحى بارتباط الفحولة والخصوبة لدى الكائنات بشروط القهر، لكن الحقيقة تثبت العكس، فالبيض المطروح تحت التهديد معظمه لا يفقس، والمواليد الخارجة للدنيا تحت وطأة الرعب لا تعيش، وإن عاشت تظل ضعيفة أو معوقة.

لهذا مكثت مستريبا فى صمود صحة النعجة دوللى، إلى أن توالت أخبار بؤسها مع مطلع العام 2002، عندما أُصيبت بالتهاب المفاصل كعرض من أعراض شيخوخة مبكرة، بينما كانت لاتزال فى عمر شباب النعاج، مما اضطر الدكتور إيان ويلموت رئيس الفريق البحثى بمعهد روزالين للاستنساخ و«الأب العلمى» للنعجة، إلى الاعتراف بأن «المرض قد يكون ناتجا عن عملية الاستنساخ نفسها لأن هذه العملية تتسبب فى زيادة العيوب الوراثية».

ثم كانت النهاية الحزينة والأليمة لدوللى فى فبراير 2003، عندما اضطر أبوها العلمى وفريقه، إلى اتخاذ قرار بقتل نعجتهم الحبيبة، قتلا رحيما، إشفاقا عليها من معاناة الاحتضار طويلا بالتهاب رئوى متفاقم أُصيبت به ولم تستطع شيخوختها المبكرة أن تقاومه. ثم جرى تحنيطها وعرضها فى المتحف الملكى بالعاصمة الأسكتلندية «أدنبرة»، كأيقونة فخار علمى بريطانى من وجهة نظر علمية عالمية عامة، باردة ومجردة. لكنها بالنسبة لى، وفى قراءة خاصة لما وراء العلم المجرد، لم تكن إلا دليلا دامغا على أن القهر لا ولم ولن يمنح غير الإحباط والخيبة، وأن أى استنساخ قهرى، لن يمنحنا إلا شيوخا تحت جلد الشباب، وقنابل موقوته سرعان ما تتفجر بأسوأ ما تحمله من عيوب وراثية.

وها هو العلم البريطانى بعد ستة أعوام من وفاة دوللى، يمنحنا أمثولة حيوية من جديد، فمنذ أيام أعلن فريق من الباحثين من جامعة نيوكاسل عن تحقيقهم اختراقا علميا يتمثل فى تحويل خلايا جذعية إلى «حيامن» فى المختبر.

وقال البروفوسير كريم نايارنيا قائد الفريق البحثى إن الحيامن المعملية التى حصلوا عليها لكل منها رأس وذيل ويحتوى على 23 كروموسوما إضافة للبروتين اللازم لتنشيط البويضة عند الإخصاب، أى أنها تكاد تكون حيامن كاملة. لكن هذا التفاؤل سرعان ما جوبه باعتراضات علمية تشكك فى أن تكون هذه الحيامن المعملية صالحة للإخصاب، ولو بعد مهلة السنوات الخمس التى حددها نايارنيا لإكمال البحث وتوكيد صلاحية حيامنه. وتعالوا نغوص قليلا فيما وراء الجدل العلمى لهذه الحيامن، وبالمناسبة حيامن هى جمع حيمن، والحيمن نحت لغوى أجازه اللغويون العرب بدلا من اسم «الحيوان المنوى»، سترا لعرى الاسم الفاضح، ولطافة وظرافة تعبير راق لى أن أستخدمه فى هذا الزمن المثقل بالفضائح، الوطنية!

تقول التقصيات المنشورة عن البحث أن حيامن الاختراق الإنجليزى نتجت من خلايا جذعية جنينية مذكرة، أى من أجنة بها كروموسوم الذكورة «Y»، ولا يتعدى عمرها أسبوعين طبقا للمصرح به بحثيا فى إنجلترا. وهى على الأغلب من الأجنة التى لم يقع عليها الاختيار فى عمليات ما يسمى أطفال الأنابيب، تلك الأجنة التى تخص أزواجا لم يتم على الأرجح استئذانهم فى استخدامها لإنتاج هذه الحيامن، بينما يظن هؤلاء الأزواج أن «المُهمَل» من أجنتهم قد تم تدميره تبعا للعرف السائد فى هذه العمليات، ففى عمليات أطفال الأنابيب يؤخذ من الزوجة أكثر من بويضة، وتوضع فى طبق معملى ثم تُسكب عليها حيامن الزوج، فيتم الإخصاب ليتكون أكثر من جنين يختار الطبيب أفضلها ليزرعه فى رحم الزوجة التى كانت عاقرا أو قرينة عقيم، لتحمل ثم تلد مثلها مثل غيرها من النساء. ومن ثم نرى أن مصدر حيامن الاختراق العلمى هذه، هى خلايا جذعية من أجنة مسروقة!

وإضافة للسرقة، فإن هذه الأجنة تم سحقها فى رحلة قاسية بعد حفظها فى صهاريج نتروجين سائل تحت درجة التجمد لفترات ليست بالقليلة مما يرجح حدوث تغيرات سلبية بمورثاتها، ثم قفزت من تحت تحت الصفر إلى درجة جسم الإنسان العادية داخل أطباق بها كوكتيل تغذية صناعى يتضمن حمضا مشتقا من فيتامين أ، وأجرى عليها نايارنيا وفريقه ما أجروا حتى حصلوا منها على خلايا جذعية، ومن هذه الخلايا الجذعية جاءت حيامنهم التى يُقدَّر عمر تجهيزها معمليا بما لا يتجاوز ثلاثة أشهر، بينما الحيامن الطبيعية تظل تنضج على مهل داخل أجساد ذكور البشر لفترات تتراوح بين 15 و16 سنة حتى تصير قادرة على إخصاب بويضات الإناث.

وهكذا تأتينا هذه الحيامن المُخلَّقة، أو المُختلقة، عبر ثلاثية الغصب والسحق والسلق، فهل نأمل منها ومما يماثلها، فى كل ميادين الحياة، أى خير؟

إننى أشعر بالانقباض الغامض ذاته الذى شعرت به يوم دوى انفجار قنبلة «دوللى». وقياسا على ما آلت إليه النعجة اللعبة، أستطيع التنبؤ بمصير هذا «الحيمن» الملعوب! والذى لن يكون إلا بداية لورم أخرق مبثوث فى جسد الحياة، وهناك مؤشرات مسكوت عنها فى مجال الآثار الجانبية لتجارب الخلايا الجذعية بينها السرطان.

بالطبع نتمنى، فى إطار الطموحات الخيرة للبحث العلمى، ألا تكون هناك هذه المثالب وما يتبعها من عواقب، لفتح أبواب أكثر رحمة وأقل عبئا فى علاج الأمراض المزمنة واستبدال الجراحات الخطيرة والمكلفة بوسائل أكثر أمانا وتيسيرا فى المجال الحديث المُسمَّى بالطب «التجديدى»، لكن فى الجانب الآخر، بعيدا عن صرامة وحيادية العلم، أجد نفسى متمنيا أن تخيب هذه التجارب إن لم تخدم سوية وأخلاقية الحياة. ويكفى أن نتخيل طغاة يجددون أعضاءهم التالفة بلا انقطاع عبر تقنيات العلاج بالخلايا الجذعية، فيجثمون على صدور شعوبهم إلى الأبد!

ويكفى أن نتخيل إبادة واسعة لأجنة طبيعية، مستحقة للحياة، وواعدة، لصالح «شبه حيمن»، مُختَلَق، مُلَفَّق، غير شرعى، ليجسد كيانا يتضخم، ولا ينطوى إلا على إضافة ورم جديد إلى الأورام القديمة التى لم تكف عن إرهاق وإزهاق روح الحياة.
تحيا الحياة.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .