سوريا.. «لا رمال وموت» بل مشروع مستقبلى - سمير العيطة - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 2:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سوريا.. «لا رمال وموت» بل مشروع مستقبلى

نشر فى : الإثنين 14 يناير 2019 - 11:55 ص | آخر تحديث : الإثنين 14 يناير 2019 - 11:55 ص

«ليس هناك ثروات فى سوريا، إنها فقط رمال وموت»، حسب الرئيس الأمريكى. لكن الحقيقة تقول شيئا آخر فليس هناك كثير من الرمال فى سوريا سوى على شواطئها، فباديتها ذات طبيعة صخرية وبركانية، تتخللها وديان شقتها أمطار وآثار سدود بعثت فيها الحياة وتدمر فى قلبها واحدة من أهم بلدان المعمورة فى الزمن الرومانى. واليوم لا شك أن وتيرة قتل السوريين فى الصراع العبثى قد خفت كثيرا مما جعل كثر يبدءون بالحديث عن إعادة الإعمار بل يؤسسون سبلا له هنا وهناك.

•••


ما يلفت الانتباه هو الأرقام الضخمة التى يتم تداولها حول كلفة إعادة الإعمار، والتى تتراوح بين مائتين وأربعمائة مليار دولار، دون التمحيص فى ماهية الجزء الأكبر من هذا النوع من الأرقام، ألا وهو القيمة المضافة الاقتصادية التى لم يتم إنتاجها لو بقيت الأمور كما كانت عليه دون الانتفاضة الشعبية ثم الحرب. هذا رقم «خسارة» افتراضى لا علاقة له بالإعمار، ولا يعنى سوى من يراهن أنه لو كان استمر فى إدارة دفة أمور البلد كما كانت لجلب النمو والثراء للناس. هذا كما لو أن انتفاضات الشعوب وحتى مؤامرات الخارج تأتى من فراغ.
أضف أن تعبير «إعادة الإعمار» يتضمن فى فهمه العام أمورا شديدة التباين، بل الاختلاف، لكل منها آلياته وإشكالياته. هناك ما يخص تعمير المساكن فى المدن والقرى، خاصة تلك التى شهدت دمارا كبيرا من جراء الحرب، وهناك من ناحية أخرى ما يتعلق بإعمار النشاط الاقتصادى تشغيلا وإنتاجا، وهناك مسألة تشييد البنى التحتية لخدمة المواطنين والحركة الاقتصادية، إضافة إلى استثمار الثروات الطبيعية.
على صعيد السكن، لا بد من الإشارة إلى أن خريطة الدمار وسيطرة «المعارضة» خلال فترات الصراع فى سوريا تتقاطع فى كثير من جوانبها مع خريطة الدخل المتدنى وتسارع هجرة الريف للحضر والسكن العشوائى والمدن والأرياف التى أهملها كلها النمو الاقتصادى ما قبل الأزمة. وهو ما يطرح سؤالا جوهريا حول إذا ما كان يجب إعادة إعمار ما كان كما كان؟ فهل يعاد تشييد العشوائيات كما كانت؟ فى حين ما زالت المساكن السابقة فى ذهن أهلها الذين هجروها هربا من الحرب وطغيان أربابها هى بيوتهم وديارهم؟
إن الإجابة على سؤال «إلى أين يعود المهجرون واللاجئون؟» ليست فقط تقنية بل أيضا وأساسا فى صلبها انتماء ومواطنة. إنها تتطلب إعادة صياغة التنظيم الإقليمى للبلد والتنظيم العمرانى لكل مدينة وقرية بالإضافة إلى آلية تسمح خاصة بتعويض أولئك ذوى الدخل المتدنى الذين خسروا بيوتهم وممتلكاتهم، وبتمويل إيوائهم فى سكن لائق وانتمائهم إلى بيئة سكانية. لا علاقة لهذه الإشكاليات بالاستثمار بمعنى إنفاق المال للتشييد بغية الربح ولا بالمشاريع المترفة وناطحات سحابها المرتقبة فتلك الاستثمارات مكرسة لفئة أخرى من السكان أكثر ثراء، والذهاب السريع نحوها هو لاستغلال الحرب كفرصة لنهب المال الخاص كما العام. مشاريع كـ«ماروتا» و«باسيليا» المزمعة فى دمشق هى فى الحقيقة تجارة و«بيزنيس» تسمح بخلق أرباح كبيرة على حساب آلام الحرب، وليست إعادة إعمار.
أضف أن الإشكاليات تصبح أكبر وأعقد عندما تخص إعادة الإعمار مركز مدينة تراثية وأثرية عانت دمارا كبيرا كما فى حلب وحمص، لا يمكن أن تنتهى كإسقاط لمشروع «سوليدير» اللبنانى على سوريا تبعد التراث عن أهله. إعادة الإعمار الحقيقية تتطلب وجود مؤسسات ودولة قانون وعدل كى لا تضيع حقوق الناس وكى تنتهى معاناتهم ولا تهدر الأموال التى تصرف على الإسكان عبثا.

•••

 

على صعيد آخر، لا يمكن أن يعود السلم الاجتماعى ويترسخ دون عودة ونمو النشاط الاقتصادى بشكل كبير. وفى الحقيقة كان نمو النشاط الاقتصادى هو المغزى الأول لإعادة الإعمار ما بعد الحرب العالمية الثانية فى أوروبا واليابان والولايات المتحدة. لقد انتهى حينها الإنفاق على الحرب وأغلقت معامل السلاح وأضحى الهاجس هو تشغيل القادرين الناشطين فى أمور أخرى تخلق القيمة وتطلق الدورة الاقتصادية. وربما من حظ سوريا ألا ثروات طبيعية مهمة فى أرضها، وأن ثروتها الأساسية هى أهلها، بناتها وأبناؤها. آفة العراق وليبيا هى اعتمادهما على ريع النفط ما يعيق نموهما فى نشاطات أخرى. وحظ سوريا أنها حتى فى حربها وشرذمة أراضيها ظلت قادرة على تصدير الغذاء وبعض المنتوجات للعراق. إدارة عودة هذا النشاط الاقتصادى والتعامل مع المنافسة والاحتكارات ودرء آثار الريع العقارى أمور تتطلب أيضا وجود مؤسسات ودولة قانون وعدل. أضف أن هذا أيضا ما تتطلبه عودة الطاقات البشرية الأكثر كفاءة التى هجرت مع الحرب وتفعيل دور المرأة السورية بواقع أنها أضحت أغلبية السكان المطلقة.
أما البنى التحتية فهى حقا تتطلب استثمارات كبيرة خاصة وأنها كانت قبل الحرب قاصرة عن تلبية الاحتياجات ومتطلبات القفزة العصرية. ولكن عن أى نوع من أموال الاستثمارات نتحدث؟ هل هى قروض ترهن البلاد لأجيال قادمة؟ أم هى استثمارات خاصة بغية الربح يدفع فى النهاية المستهلك كما السلع والبضائع ريعها؟ أم منحا تأتى كتعويض على ما صرفه «المجتمع الدولى» طوال سنوات الحرب تغذية لصراعاته على الأرض السورية؟ هنا أيضا يتطلب الأمر وجود مؤسسات ودولة قانون وعدل، وإلا ذهبت أموال «الدعم» هدرا كما فى لبنان وديونا ترهن السيادة لا قدرة على تسديدها.

•••

 

هذه السبل كلها لاستعادة الحياة والنشاط الاقتصادى وكرامة المواطنين، ولاستغلال موارد الأرض القليلة وموقع البلاد الجغرافى، يلزمها نشاط استثنائى للمبادرة الخاصة ومساهمة من دول ترغب فى إعادة الاستقرار لسوريا لا الفوضى، ولكنها تستوجب أولا مؤسسات وإدارة رشيدة وقوانين عادلة واحتراما لهذه القوانين.
والسؤال الأساس هو إمكانية ما سيخرج سياسيا من الحرب، بانتصار طرف أو بتوافق أطراف، سلطة قائمة أو «معارضة» أو أمراء حرب، ويكون منه استنهاض مؤسسات الدولة التى هى أيضا أنهكتها الحرب ووضع قوانين تحفظ الحريات العامة كما العدالة والمساواة والحقوق واستنباط مؤسسات متخصصة تحصل على شرعية شعبية تعالج تداعيات الصراع وتتعامل بمسئولية مع مؤسسات المجتمع وباستقلالية عن «الدول الداعمة».
لا يدل الواقع اليوم على ذلك، فى المناطق الثلاث التى وصلت الشرذمة السورية إليها. لكن ما يدفع نحو الأمل أن السوريين على مختلف مشاربهم يوحدهم اليوم الشعور أن الجميع خذلوهم، أو بالأحرى خذلوا مشروعهم دون غيرهم من السوريين، وأن عليهم إعمار مشروع مستقبلهم بنفسهم وبجهدهم.

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات