أناقة السياسة - طارق فريد زيدان - بوابة الشروق
الخميس 16 مايو 2024 10:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أناقة السياسة

نشر فى : الخميس 12 يناير 2023 - 8:25 م | آخر تحديث : الخميس 12 يناير 2023 - 8:25 م
فى شهر مايو من ربيع العام ٢٠٠٨، انتشر خبر لقاء بين عرّاب اتفاق الطائف رئيس مجلس النواب اللبنانى السابق حسين الحسينى ووزير عدل الحقبة الحريرية الدكتور بهيج طبارة لمناقشة انتخاب رئيس جديد للجمهورية. جاء هذا اللقاء غداة أحداث السابع من مايو المؤلمة التى شهدتها العاصمة اللبنانية، وبالتزامن مع غرق لبنان فى حال من الفراغ الرئاسى وتعطيل مجلسى النواب والوزراء. يومها تداولت الصحف الخبر بلغة التحليل وليس المعلومة، أن «التخريجة الدستورية» لانتخاب قائد الجيش اللبنانى العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية صُنعت فى منزل الرئيس السابق لمجلس النواب. لكن الرئيس حسين الحسينى «المُرتَب»، كما يُوصف، كان يعرف جيدا كيفية انتخاب الرؤساء الثلاثة (الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء) فى «الجمهورية الثانية» التى ولدت بعد اتفاق الطائف، وكان يعرف أكثر أن هناك رئيسا شاطرا جدا فى رئاسة مجلس النواب هو نبيه برى الذى يعرف من أين تُؤكل كتف المجلس النيابى ويملك من «أرانب التخريجات» وثعالبها ما يفيض عن هذه الهندسة السياسية السهلة فى قاموسه السياسى.
يحمل الرئيس الحسينى بالإضافة إلى أسرار اتفاق الطائف ومحاضره الخاصة خبرة عميقة فى زواريب السياسة اللبنانية، وأن صناعة الرؤساء ليست لبنانية فقط. فعندما خُيّر الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد بين «المرتب» و«الشاطر» اختار الثانى فى العام 1992، فى مؤامرة حيكت خيوطها بالشراكة مع «المقاول» و«البيك» وبعض الفريق السورى المكلف بإدارة الملف اللبنانى.
أيضا كيف لحسين الحسينى أن ينسى نتيجة انتخابات العام ١٩٩٢. حين طلب رئيس جهاز الأمن والاستطلاع السورى اللواء غازى كنعان من وزير الداخلية الراحل الفريق سامى الخطيب تعميم رسوب «السيد حسين» فى الإعلام اللبنانى وأن دمشق تتدخل فى النتائج البقاعية لإنجاحه على حساب باقى المرشحين الشيعة أمثال ماجد حمادة نجل الرمز اللبنانى الاستقلالى صبرى حمادة.
غير أن حارس محاضر اتفاق الطائف السرية بقى واقفا على قدمين سياسيين: الدولة والتوافق.
عرف هذا الرئيس أن لبنان مجبول على التوافق. وأن الدولة لا بد وأن ترعى شئون المواطنين والجماعات بالتكافل والتضامن. مهمة على قياس إقليم خرج للتو من صراع دولى يبحث عن التوازن بعد احتلال العراق للكويت فى صيف العام 1990.
هذه المهمة الصعبة والمعقدة قطفها «الرئيس الشاطر» من فم الأسد. فقد دامت للرئيس نبيه برى كرسى الرئاسة الثانية مدة أكثر من غيره فى تاريخ لبنان الكبير، لا بل ربما فى تاريخ كل الأمم والدول.
• • •
هى بضعة أمتار تفصل بين منزل «الرئيس المرتب» وبين «الرئيس الشاطر» فى عين التينة حيث مقر الرئاسة الثانية. ما إن تصل إلى مدخل منزل الرئيس الحسينى حتى تجد حارس الأمن مرحبا ومؤهلا. لن تجد مظاهر فخامة أو زعامة. بالرغم من أن الرجل ينتمى إلى السادة من آل بيت رسول الله. وهو كان فخورا بهذا الانتماء الذى شاركه معى فى إحدى الزيارات حين أخرج من خزانة مجلسه شجرة عائلة آل الحسينى الهاشمية. لكن هذا التجذر والانتساب لم يقف حاجزا أمام «الرئيس المرتب» بالانحياز إلى فكرة الدولة والمؤسسات، قبل أى انتماء آخر.
فى أحد اللقاءات وفى خضم تداعيات وصول التسونامى العونى إلى لبنان على حد وصف وليد جنبلاط فى ربيع العام 2005، بادرته متسائلا «أيعقل أن النواب المسيحيين فى مدينة الطائف كانوا على حق؟» فابتسم نصف ابتسامة، وهو يجلس بكامل هندامه الرسمى، مستفسرا عن سؤالى. أجبته «يقال إن النواب المسيحيين كانوا يقولون لزملائهم المسلمين لا تحكموا على الدستور من تجربتكم مع الرئيس أمين الجميل». ثم أضفت كيف أن المسلمين السنة والشيعة اليوم باتوا منقسمين على معنى الميثاقية فى ممارستهم وتمثيلهم فى الدولة وعلى أى دستور مبهم يتنافسون؟» وسارع الحسينى للقول إن المشكلة ليست فى السياسة بل هى فى رجالات السياسة.
تدحرج الحوار سريعا وسرد متكئا على ذاكرته الحادة والحاضرة مثالا عن كيفية عمل رجل السياسة فى لبنان. يوم عَيّنَ الرئيس سليمان فرنجية الضابط نورالدين الرفاعى رئيسا للحكومة من دون موافقة الجبهة الإسلامية. وقد كان الوزير بهيج طبارة وزيرا فى تلك الحكومة التى قاطعها المسلمون بأطيافهم كافة. يتذكر الرئيس الحسينى كيف اتصل رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل على وجه السرعة عارضا التدخل لحل الأزمة الدستورية الخطيرة غير المسبوقة وبحثا عن توافق ميثاقى! وفجأة صرنا أمام محاضر فى الديموقراطية بنسختها اللبنانية وكيفية ممارسة أعرافها وتقاليدها من خلال نماذج تاريخية متعددة وبكثير من العمق والتفاصيل، وكيف تأثرت هذه الممارسة بشخصية جبل لبنان، وهو ابن هذا الجبل من قرية شمسطار البقاعية التى كانت فى صلب لبنان قبل أن يكون كبيرا، أى قبل ضم الأطراف اللبنانية إليه ولا سيما البقاع اللبنانى.
أكمل الرئيس الحسينى قائلا إن المفارقة فى هذه الحادثة أن استقالة الوزير بهيج طبارة وزملاءه من أبناء الطوائف الإسلامية من تلك الحكومة جاء مستندا إلى عدم ميثاقيتها، ما أفضى إلى استقالة حكومة الرفاعى، غامزا بالتالى من قناة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة «غير المسئول» وقتها، على حد تعبيره. سألته «هى مشكلة أفراد إذا وليست دستور؟».
هنا استدرك الرئيس متنهدا قائلا «للأسف فى الجمهورية الأولى كانت المشكلة مع الأفراد، أما اليوم فالمشكلة هى فى النص والممارسة والأفراد».
آخر لقاء معه كان فى العام ٢٠١٦ على بوابة طائرة الميدل إيست المتجهة من مدينة نيس الفرنسية إلى مدينة بيروت. كان لبنان يعانى من الفراغ الرئاسى أيضا. بعد السلام والتحية سألته «متى يرحل الفراغ؟» أجاب: «حين يطبق الدستور». و«من يطبقه» سألته؟ رفع يديه إلى السماء مبتهلا إلى الله أن يمن على لبنان برئيس ودولة مؤسسات.
• • •
ومع رحيل الرئيس حسين الحسينى يطوى لبنان صفحة من تاريخه السياسى الأنيق بأمل ألا تضيع أوراق الرئيس السياسية من خزانة التاريخ. أتمنى على عائلته نشر محاضره الخاصة. لا يصح أن يكون تاريخنا شفهيا فقط... الأمنية الأخيرة أن يمن الله على لبنان برئيس وانتظام مؤسساته حتى تتحقق أمنية الرئيس الراحل.
طارق فريد زيدان كاتب سعودي
التعليقات