أشباح قصر الزعفران - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 8:46 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أشباح قصر الزعفران

نشر فى : الخميس 11 نوفمبر 2010 - 12:03 م | آخر تحديث : الخميس 11 نوفمبر 2010 - 12:03 م

 لا أتذكر المناسبة التى ذهبت بى إلى قصر الزعفران منذ سنوات بعيدة، لكننى أتذكر جلال الجمال الذى طالعنى به هذا القصر قبل أن أصعد إلى مدخله المرمرى وأمر تحت «الباكية» ذات الأعمدة الرخامية وأدلف من بوابته المعدنية الفارهة، والمشغولة بزجاج مُعشَّق يرسم منظرا ملونا ساحرا مضيئا لشجرة كبيرة مثمرة محاطة بالزهور.

القصر تحفة معمارية لا يضارعها فى رأى بعض العارفين إلا قصر فرساى الفرنسى الذى أراد الخديوى إسماعيل أن يكون هذا القصر المصرى على غراره، لأنه قضى فيه فترة تعليمه فى فرنسا، وهو ما عهد بتنفيذه للمهندس «مغربى بك سعد» الذى صمم قصر الزعفران وأشرف على بنائه عام 1870!

واجهات القصر التى تطل على جهات العباسية الأربع بنوافذ بهية وشرفات بعقود ذات أقواس، وداخله المؤنق بزخارف الجص على هيئة أكاليل مزهرة وفروع نباتية، وسلم بهوه الكبير المصنوع من النحاس المشغول والمطلى بطبقة من رقائق الذهب الفرنسى الذى لا ينطفئ، وأسقفه الملموسة بألوان السماء، كل هذا لم يكن إلا جزءا من روعة قصر الزعفران، أما الأروع، فكان هذا الشعور الدائم بنسائم الربيع داخله، فثمة تيار من هواء نقى منعش يظل يحوطك ويرحب بك فى قلب القصر، فالأبواب الخشبية الداخلية يبلغ طولها أربعة أمتار، والأسقف تتسامى حتى أمتار ستة! معمار عبقرى، يسمح بتدوير وتمرير وتجديد الهواء داخل المبنى، فلا يحتاج إلى أية وسائل صناعية لتكييفه!

قصر من أبهة الجمال وزخم التاريخ، سكنه الخديو إسماعيل عامين ثم أهداه عام 1872 لوالدته «خوشيار هانم» بعد أن زرع لها حوله حديقة غناء كلها من نبات الزعفران الذكى الرائحة، لأنها كانت تعانى مرضا عضال وأوصى لها الأطباء بمكان صحى تستشفى بنسائمه. بعد ذلك استخدمته وزارة الخارجية كدار للضيافة يسكنه زوار البلاد المهمون، وبه بدأت مفاوضات معاهدة 1936 بين الإنجليز والقوى الوطنية المصرية فيما يُعتبر بداية لإزاحة الاحتلال البريطانى عن مصر. ومع تأسيس جامعة «إبراهيم باشا»، والتى صارت جامعة عين شمس الآن، تحول القصر إلى مقر لإدارة الجامعة، ومركزا جماليا لحرمها نتمنى أن يظل كذلك!

قصر الزعفران هذا عاد لتبصره عيناى عبر شاشات التليفزيون فى الأيام الأخيرة، فى أفلام بثتها الفضائيات عن أحداث البلطجة التى وقعت ضد مجموعة من أساتذة الجامعة من أعضاء حركة 9 مارس المطالبة باستقلال الجامعات نهار الخميس الماضى، وبالرغم من أن بعض هذه الأفلام أرسلها للفضائيات من تصوروا أنها إدانة لمجموعة أساتذة حركة 9 مارس، وعلى رأسهم الدكتور عبدالجليل مصطفى أستاذ أمراض القلب المعروف بجامعة القاهرة، إلا أنها كانت إدانة فاضحة للانحطاط الذى حل بمكان حدائق الزعفران حول القصر!

شىء بشع، أن ترى مسخا منفوخ العضلات أغبر السحنة بلطجيا لا يمكن أن يمت لطلاب الجامعة بصلة حقيقية، حتى لو كان مسجلا فيها، وهو يتهجم بوقاحة مفرطة الثقة وفواحة برائحة الدعم الفاسد، على أستاذ جامعى كبير، ثم يختطف من يد الأستاذ أوراقا لم تكن إلا مُلخصا لحكم محكمة مصرية رفيعة المقام بشأن إلغاء الحرس الجامعى، وقام البلطجى بتمزيقها فى وجه الأستاذ بما يشكل إهانة واستهانة بمقامه الرفيع وعمره الكريم، ويستحيل أن يُقدِم طالب سوى داخل حرم الجامعة على هذه الشناعة وما تلاها وكان أشنع، إلا إذا كان محميا ومدعوما ومدفوعا ومأجورا للعب هذا الدور!

بعد ذلك صدر بيان عن إدارة جامعة عين شمس فى غاية الغرابة يدافع عن البلطجية الذين رآهم ملايين الناس على شاشات التليفزيون ومواقع الإنترنت وهم يتهجمون على الأساتذة، ووصف البيان هؤلاء البلطجية، بأنهم «طلاب غيورون على هيبة جامعتهم، اعترضوا على هذا التجاوز الخارجى من قِبل أشخاص ليس لديهم صلة بالجامعة مما أدى إلى تعدى هؤلاء الغرباء على الطلاب بالسباب»! ولم ينس البيان الشاذ أن يضيف لمنطق قلب الحقائق عبارات غابرة يتهم بها الأساتذة المُعتدَى عليهم بأنهم «قلة مندسة بيتت لإحداث قلاقل وفتنة فى الجامعة»!

فجاجة ورداءة أداء تناسى أصحابها أن الدنيا قد ابتعدت عقودا وفراسخ عن لغة هذه البيانات الهزلية العتيقة، وأن ملايين العيون شاهدت نقيضها فى وسائل الإعلام وعلى شاشات الكمبيوتر وصفحات الجرائد، وظهر فيها هؤلاء «الطلاب الغيورون على هيبة جامعتهم» وقد أشهروا الأسلحة البيضاء والأحزمة والجنازير فى مواجهة طلاب الجامعة العاديين الذين استفزهم تهجم البلطجية على الأساتذة الذين كذب بيان إدارة الجامعة بشأنهم أكثر من مرة، عندما ذكر أنهم «اقتحموا» الحرم الجامعى، وأنهم كانوا يوزعون «منشورات» وأنهم «غرباء»، بينما هم دخلوا الجامعة من بوابتها، ولم يكن معهم غير صور من ملخص حكم محكمة مصرية، وكان بينهم أساتذة من جامعة عين شمس نفسها، كأستاذة الأدب الإنجليزى والكاتبة المرموقة الدكتورة رضوى عاشور!

وزير التعليم، العالى، والبحث العلمى، تصور أنه عندما يسمع الناس شتيمة الدكتور عبدالجليل مصطفى الموجهة للبلطجى المتهجم عليه، سيقلب بذلك المائدة على الأستاذ الجليل ويجعل الرأى العام يدينه، غير مدرك أن ملايين من شاهدوا هذا البلطجى فى التيشيرت الأصفر المقمط على عضلاته المنفوخة، بسحنته العدوانية وشعره الملزق بالجل السوقى وهو يتهجم على الأستاذ لا يمكن أن يدينوا الأستاذ حتى لو كان شتم! فتصوُّر الوزير يقطع بأنه يفتقر للخبرة والمعرفة بنفسية الجماهير التى يُفترَض أن أى سياسى يدركها، سواء بالغريزة أو بالعلم!

موقف الناس الذى لا يستطيع أن يدركه الوزير المفترض أنه فى موقع سياسى أولا وأخيرا، هو أن الدكتور عبدالجليل مصطفى لو ثبت أنه شتم ذلك البلطجى بما هو منسوب إليه، فيكون بذلك قد قام بأقل القليل فى الدفاع عن نفسه ضد الإهانة والاستهانة من مجرم وضح إجرامه عندما أشهر بيده سلاحا أبيض لا يمتشقه غير سوقة المجرمين ليروِّع هو وعصابته الطلاب العاديين الذين هبوا يدافعون عن الأساتذة. ومن زاوية قانونية بديهية، كان الدكتور عبدالجليل مصطفى فى موقف الدفاع عن النفس أمام متهجم فظ وشرس كما وضح للملايين الذين شاهدوا لقطات وصور هذا الحدث المرير!

إن تفجُّرات البشاعة والكذب السياسى الرخيص، تجعل الإنسان ينخلع من سلام نفسه ويود لو يصرخ أو يشتم أو ما هو أكثر من ذلك، فى مواجهة البلطجة وسيناريوهاتها الرديئة الحبكات وفظة التنفيذ، وهو ما حدث على مرأى ومسمع من قصر الزعفران أخيرا، وبرعاية كالسر المفضوح من أشباح وضح أنها باتت تعشش فى هذا القصر البديع، حتى توشك أن تحوله إلى قصر لحماية الزُعران لا رعاية الزعفران!

والزُعران كلمة عربية فصيحة من الفعل (زَعِر) بمعنى : ساء خُلُقه وقل خيره. ويستخدمها أهل المشرق العربى لوصف البلطجية، وما استخدامى لها الآن إلا أنها تصنع المفارقة التى توضح مدى اتساع الفارق بين قبح البلطجة الرخيصة وجمال الزعفران الثمين، كما أنها تومئ إلى فظاعة الخطر من توظيف البلطجة والبلطجية فى التنافس السياسى، لأنه كالسحر الأسود الذى يمكن أن ينقلب على الساحر، ويتجاوزه ليدمر أى خير محتمل من التحاور الحضارى أو التنافس الشريف.

بل ينتشر مثل وباء يُعدى المجتمع كله، خاصة الصغار، وما حوادث العنف والإجرام التى تجتاح مدارسنا إلا دليل على تفشى ثقافة البلطجة، وها قد عرفنا الآن منابع هذه الثقافة، ونماذجها العالية!

لقد أثلج الصدر بعض الشىء، ما نُشر فى اليوم السابع عن أن جهات سيادية طلبت تقريرا مفصلا عن أحداث العنف الأخيرة فى جامعة عين شمس، للبدء فى تحقيق فورى فى هذه الأحداث، ومعرفة ما إذا كان البلطجية أطرافا أصليين فى أحداث العنف فى الجامعة، وهل هم من طلاب الجامعة أم من خارجها، وتحديد كيفية دخول الجنازير والمطاوى إلى الجامعة فى ظل وجود الحرس الجامعى حتى الآن، وعن قرار رئيس الجامعة تركيب كاميرات مراقبة وقيامه بتصوير الأحداث وإرسالها إلى النيابة مع الأخذ بعين الاعتبار علمه المسبق بنشوب الأحداث من عدمه.

هذا الخبر يدعو لشىء من الاطمئنان بأن هناك عقلاء فى أجهزة الدولة السيادية القريبة من قمة السلطة يعرفون جيدا أن هناك من يدافعون عن مواقعهم أكثر مما يدافعون عن الحقيقة أو حتى عن النظام، ولهذا يرتكبون أخطاء فادحة وفاضحة يمكن أن تشعل حريقا يودى بالدولة والنظام والأمة جميعا، وهم عبء حقيقى على النظام يتمنى الناس لو يُغيِّرهم بعد أن تجرعت الأمة من مرارات أخطائهم وخطاياهم الكثير. فالتغيير ليس مطلبا يخص المعارضة وحدها، بل هو ضرورة للنظام ليكون أأمن وأنجح وأقرب من الناس، بشىء من الحق والعدل الذى يجافيه هؤلاء. فالناس فى بلادنا مُتعَبون، وهمومهم ثقيلة، وما عادوا يحتملون الخفة والعبث!

فى قصر الزعفران يُلاحَظ أن غرف النوم فى الطابق الثانى تترسم سقوفها العالية ألوان وسُحب السماء، وهذا مما اختاره الخديو إسماعيل لأنه كان يحب أن يحدق فى صورة السماء وهو مستلق على ظهره قبل أن يغفو! وعلى الأغلب كان نومه بهذا الفعل أهدأ وأحلامه أجمل، فكان فى اليقظة طامحا للجمال وصانعا له، أما أن يكون فى هذا القصر من يوطئون رءوسهم متابعين على شاشات المراقبة تنفيذ سيناريوهات البلطجة ضد خصوم ذوى قيمة، حتى لو كانوا تجاوزوا «البروتوكول» بعض الشىء، فقل على الحق والخير والجمال، والتعليم العالى، والبحث العلمى، السلام!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .