الخواجة عبدالودود - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 4:22 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخواجة عبدالودود

نشر فى : الخميس 11 أكتوبر 2012 - 8:35 ص | آخر تحديث : الخميس 11 أكتوبر 2012 - 8:35 ص

بترتيب أثق تماما أنه قدَرىّ، صدر فى الإمارات عن مركز سلطان بن زايد للثقافة والإعلام كتاب ضخم وفخم، مزدوج اللغة، بالإنجليزية والعربية، عنوانه بالعربية «قصص من سيرة النبى محمد (عليه الصلاة والسلام)، وبالإنجليزية «The prophet MUHAMMAD Stories from the life of the prophet». وأقول بقدرية صدور هذا الكتاب لأننى أعرف مؤلفه معرفة وثيقة كصديق من أعز وأعرق أصدقائى، ثم إن الكتاب صدر قُبيل هوجة الفيلم الردىء البذىء المُسىء لنبينا الأكرم عليه الصلاة والسلام. ومن ثم أرى أن ترتيبا قدريا جعل هذا الكتاب يصدر فى فترة مواكِبة لإشعال حريق الفيلم الردىء المُسىء، ليقول شيئا مهما أستنتجه بالمقارنة، وهو، أن هناك صنفين من الناس، أحدهما مدفوع بحب الحق والخير والجمال، فهو مُلاقيها حيثما تكون فى دين أو دنيا، والآخر مدفوع بنازع الباطل والشر والقبح، وهو واجدها حيثما طلبها، لأنه فى الأخير يعبر عن جنوح نفسه، لا واقعية الدينا، ولا سمو الآخرة.

 

الكتاب ألفه بالإنجليزية صديقى دينيس جونسون ديفيز، والمعروف بين المُقربين منه باسم «عبدالودود»، فهذا المواطن البريطانى المولود فى كندا عام 1922، والذى عاش طفولته فى السودان وكينيا وأوغندا، وعاش بعض شبابه فى الخليج العربى، ثم معظم عمره حتى هذه اللحظة فى مصر، حدث له فى صباه شىء مُغاير لمعظم الغربيين أبناء الدول الاستعمارية الكبرى إبان الفترة الكولونيالية، فقد نفر من الاستعمار والاستعماريين بنى جلدته، واصطف بقلبه ووجدانه ووجوده مع ضحايا هذه الظاهرة، فصار شرقى القلب والروح وإن فى شكل غربى لا قِبل له بتغييره، وهو من أوسم الغربيين الذين رأيتهم وحتى الآن برغم بلوغه التسعين، وصوره فى شبابه وحتى كهولته تفوق وسامة أشهر نجوم السينما العالمية، لكنه يمتاز بشىء أليف رهيف جعل كل من يعرفه يحبه، نوع من الصفاء واللطف يشبه براءة طفل وديع جميل ومتوقد الذكاء أيضا، وخصال إنسانية نادرة لمخلوق روحى مجبول على النقاء الذى لا أراه إلا فى مؤمن تقى ونقى، فلم أعرفه مرة يكذب أو يداهن أو يُضمر شرا لأحد. وحياته أعجوبة مع ذلك.

 

دينيس الذى يكبرنى بثلاثين عاما عرفته منذ ثلاثين عاما بعدما بدأت أنشر أولى قصصى، وكنت أقيم لا أزال فى المنصورة فيما كان يحسبنى كثيرون قاهريا، وجاء من يخبرنى أن دينيس جونسون يريد مقابلتى لأنه معجب بقصص لى قرأها ويريد أن يترجمها إلى الإنجليزية، وكان ذلك شيئا هائلا لكاتب فى بداية طريقه، أن تُترجَم قصصه وأن يكون المترجم هو عميد مترجمى الأدب العربى إلى الإنجليزية وأول من ترجم لنجيب محفوظ ويوسف إدريس والطيب صالح الذين أحبهم بشكل خاص، إضافة لألمع الأدباء العرب والمصريين من الأجيال التالية. كانت تلك مفاجأة بديعة جعلتنى أطير من المنصورة إلى القاهرة فى أقرب وقت. وكان بردا وسلاما حل على نفسى عندما التقيت بدينيس فى القاهرة، وصرنا أصدقاء، وهو فى صداقته مخلوق عجيب فى زمن الزحام، فهو لا ينسى أصدقاءه أبدا، وعلى امتداد أكثر من ثلاثين عاما، وحيثما كنت وعلى كثرة ما غرَّبت وشرَّقت، لم ينقطع دينيس عن الود الصادق الجميل فى رسالة أو مكالمة أو إيميل، وكان ذلك صنيعه مع كل أصدقائه. ومن لطائف وده وصفاء روحه وشجاعته البريئة، أنه عندما تم اعتقالى فى انتفاضة يناير 77، ذهب إلى رئيس هيئة الاستعلامات محمد حقى، وكان صديقه، وطلب منه أن يسعى لدى الرئيس السادات للإفراج عنى، وكان دفاعه: «هذا كاتب. أديب. لا يصح أن يُسجن. لا يصح أبدا»!

 

دينيس جونسون، أو عبدالودود، هو قصة طويلة مدهشة وجميلة. فى لحظة حاسمة من شبابه فى لندن شعر باكتئاب وغُربة، ولابد أن جذور حياته الإفريقية والعربية المبكرة التى أحبها كانت عقدة الصراع فى نفسه، واتخذ قرارا شجاعا كبيرا، فهجر كل ما كان له هناك وذهب ليعمل مترجما فى الإمارات يوم كانت أرضا بسيطة قاحلة وفقيرة، كان قد درس العربية والفارسية فى جامعة لندن ثم تابع دراساته فى جامعة كامبريدج، وعمل فى القسم العربى لهيئة الإذاعة البريطانية لخمس سنوات، وفى عام 1945 ترك كل شىء هناك، وجاء إلى القاهرة، وعمل مُحاضرا فى جامعتها، ثم تفرغ للتأليف والترجمة التى كانت مصدر دخله، وتنقل أثناء ذلك بين بلدان عربية مختلفة، وصار صديقا لأبرز الأدباء المصريين والعرب، أسس وحرر مجلة فصلية اسمها «أصوات» للتعريف بالأدب العربى، وكان مستشارا لسلسلة المؤلفين العرب لدى دار نشر «هاينمن» اللندنية، واختارته إمارة أبو ظبى عام 1977 بوصفه شخصية العام الثقافية ومنحته جائزة الشيخ زايد لإسهامه فى تعريف العالم الغربى بالأدب العربى الحديث. أما اهتمامه بالدراسات الإسلامية، فكان شيئا منيرا صادرا من أعماق قلب «عبدالودود» الذى هو نفسه دينيس جونسون.

 

لقد نشر ترجمة عالية لجزء مهم من «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالى، وترجم مع الدكتور عز الدين إبراهيم ثلاثة مجلدات من الأحاديث النبوية الشريفة، كما نشر خمسين كتابا للأطفال استمد معظمها من الحكايات التراثية فى الأدب الشعبى العربى. أما كتابه الأخير، فأترك بعض التعريف به للراحل الدكتور عز الدين إبراهيم الذى كان صنوا روحيا لدينيس أو عبدالودود ومن أصدق أصدقائه، يقول الدكتور عز الدين المدير الأسبق لجامعة الإمارات العربية المتحدة فى تقديم الكتاب: «كُتب هذا الكتاب أصلا للناشئة المسلمين غير الناطقين بالعربية أينما وجدوا فى العالم. لكنه فى الوقت نفسه يقدم سيرة مختصرة تجمع بين الدقة والسلاسة عن حياة النبى محمد صلى الله عليه وسلم للقارئ الغربى وغير المسلم الذى لا يعلم شيئا عن الإسلام وبنيه ولديه معلومات مغلوطة عنهما. وفيما مضى كانت معظم الكتابات الغربية عن النبى محمد متحاملة تحاملا شديدا، ويمكن إرجاع جذور هذا التحامل إلى أزمنة المواجهة بين الشرق والغرب، بين الإسلام والغرب، أيام الصليبيين، أم اليوم فنحن نعيش فى عالم لا يسع المرء فيه أن يبقى جاهلا بمعتقدات أخيه الإنسان. وقد تمكن المؤلف فى هذا العدد المحدود من الصفحات أن يسهم إسهاما قيما فى فهم الإسلام. وهو مؤهل لذلك نظرا لتمكنه من اللغة العربية ولمعرفته بخلفيتها الروحية والثقافية والأدبية».

 

ذلك التعريف الذى يدل على دينيس جونسون الذى هو عبدالودود، يدل أيضا على رحابة أفق الدكتور عز الدين ابراهيم الذى كان نموذجا لا أقول راقيا فقط، بل حقيقيا للمسلم الطبيعى، فبرغم أن الرجل كان من الإخوان المسلمين الذين اضطروا للخروج من مصر تحاشيا للاضطهاد، إلا أنه كان نموذجا للتسامح والإخوة الإنسانية، ويبدو أن ذلك بقدر ارتباطه بالثقافة التى كان الدكتور عز الدين صاحب شأن فيها، يرتبط كذلك بالتركيب الشخصى للإنسان السوى، وما من مرة أكون فيها مع دينيس إلا ويحكى لى عن رقى هذا الرجل وسماحته وسعة أفقه ولطف صداقته، ولعل هذه الخصال كانت هاديا لدينيس أو عبدالودود فى حسن تعرفه على الإسلام والمسلمين. وهى زاوية أوقن فى صحة الرؤية من خلالها، فقد مررت فى ترحالى بمسلمين كثر خارج عالمنا العربى، فى أفريقيا وآسيا وأوربا، واكتشفت وتيقنت أن الإسلام انتشر فى تلك البقاع القاصية بالأسوة الحسنة، عندما اكتشف سكان هذه البلدان أمانة ونظافة وصدق وود وتسامح التجار المسلمين الذين وصلوا بسعيهم الشريف إلى هناك. أما ما يمكن أن أقوله الآن فى زعم البعض أن الإسلام ينتشر بسبب دعاة التشدد والعنف والعدوانية، فهذه فرية حقيقتها أن التعصب لا يجتذب إلا المتعصبين، وهى مسألة نفسية لا إيمانية لا أحب أن أتوقف عندها فى هذا الموقع من الاحتفاء بكتاب نبيل لمخلوق جميل.

 

لم يكن دينيس فى مصر طوال عرض مسلسل «الخواجة عبدالقادر» فى رمضان الماضى، كان فى المغرب، وكنت أفتقده مع كل لمحة من ذلك العمل الإبداعى فائق النجاح كتابة وإخراجا وتمثيلا وتصويرا، ومع تألقات العبقرى يحيى الفخرانى كنت أهتف، هذا هو دينيس جونسون، هذا هو عبدالودود، الذى عرف الإسلام كرسالة حب وتسامح وصدق فى الوجود المنظور، فتسامى بالروح إلى جمالات غير المنظور. هذا هو عبدالودود الذى عاش ويعيش بيننا بالصدق والمحبة والجمال وهو يعبر عامه التسعين بلطافة ورهافة بالغتين. عمر مديد سعيد يا دينيس، كل سنة وأنت بألف خير يا خواجه عبدالودود.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .