من المُستفيد؟ - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 4:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من المُستفيد؟

نشر فى : الخميس 11 يوليه 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 11 يوليه 2013 - 10:55 ص

فى الساعة التاسعة من صباح الاثنين 25 نوفمبر سنة 1940 دوى صوت انفجار هائل هز مدينة حيفا، وتبين أن مصدره سفينة فرنسية راسية فى الميناء اسمها «اس. اس. باتريا»، أحدث فيها الانفجار فجوة يقارب قطرها عشرة أمتار، وفيما لا يتجاوز الربع ساعة غاصت السفينة غارقة بعد تصاعد صفارات الانذار فى الميناء، واستطاع البحارة من سكان المدينة وأغلبهم من الفلسطينيين إنقاذ معظم الركاب البالغ عددهم 1800 راكب مات منهم 240، إضافة لاثنى عشر شرطيا، وأصيب 172.

 

كان ركاب هذه السفينة كلهم من اليهود، ومن ثم يمكننا أن نتصور أصابع الاتهام موجهة إلى الفلسطينيين لا غيرهم، لكن الزمان كان غير الزمان، والحكاية لها جذور مختلفة وتفرعات شتى، وجميعها تُلقى بالوزر على طرف ثالث هو بريطانيا التى كانت تستعمر فلسطين آنذاك، فالحكاية تقول إن بريطانيا إزاء اندفاع حركة تهجير اليهود من أوروبا إلى فلسطين، والتى كانت تتولاها الحركة الصهيونية، عمدت إلى تقنين الهجرة وتحديد أعدادها، لكن الحركة الصهيونية لم ترض عن هذا التقنين، وأوكلت إلى جهازها السرى «الموساد»، الذى كان أول ما شكلته من أجهزة قبل إنشاء الدولة العبرية، أن يُسهِّل تهريب عشرات آلاف اليهود من أوروبا إلى فلسطين، ولم يكن فى مقدور سلطات الانتداب أن تفعل مع هؤلاء المتسللين أكثر من احتجازهم فى معسكرات توقيف لفترات طويلة، ثم إطلاقهم فى فلسطين. وفيما بعد وإزاء تفاقم الظاهرة، عمد البريطانيون إلى منع نزول المتسللين اليهود من السفن بعد رسوها فى الموانئ الفلسطينية، ورد هذه السفن على أعقابها، وهذا ما حاولوه مع السفينة «اس. اس. باتريا»، التى عرضوا عليها إنزال حمولتها فى موريشيوس بدلا من فلسطين. لكن هيهات!

 

المؤامرة تكفل الزمان بكشف غوامضها وأسرارها فيما بعد، وتتلخص فى أن «الموساد» نائبا عن الحركة الصهيونية، دبَّر مع عصابات «الهاجناه» الإرهابية عملية تفجير جزء من السفينة وإغراقها بحيث لا تكون الخسائر كبيرة، فيما يكون تأثير التفجير والغرق مدويا، فيتحول مجرمو الهجرة السرية من جُناة إلى ضحايا، ويحدث اجتذاب لتعاطف الأوروبيين مع اليهود الراغبين فى الهجرة إلى «أرض الميعاد»، وهذا ما كان، ففى أعقاب تفجير «اس. اس. باتريا»، أقامت الحركة الصهيونية العالمية الدنيا ولم تقعدها، فشعرت بريطانيا العظمى بالذنب، وطأطأت تاركة من نجا من ركاب السفينة المنكوبة طلقاء فى فلسطين، ولم تعد ترد سفينة هجرة صهيونية على أعقابها، مخافة أن تنفجر وتغرق وتُمزِّق قلب أوروبا الرهيف!

 

كان ذلك مشهدا من مشاهد النكبة الفلسطينية التى ساهم فى حبك خيوطها الانتداب البريطانى، الذى لم تحنْ منه ولو لفتة صغيرة إلى أصحاب الأرض الذين كان واضحا أن هذه الهجرة اللامشروعة هى أول الذبح لهم، ومنتهى الإجرام. أما الخلاصة العامة التى تتجاوز حدود هذا المشهد، وتستقر فى مناهج البحث الجنائى، فتتبلور فى الإجابة عن سؤال جوهرى حيال أى جريمة كبرت أو صغرت: من المستفيد من وقوعها؟

 

ومع الفارق بين جريمة إغراق تلك السفينة فى ميناء حيفا سنة 1940، وجريمة قتل 51 مصريا أمام مبنى الحرس الجمهورى منذ أيام، أجدنى مضطرا لطرح السؤال: من المستفيد من وقوع هذه الجريمة؟ من المستفيد؟

 

منطقيا ليس المستفيد منها هؤلاء الذين راحوا ضحيتها، أعنى الواحد وخمسين مصريا الذين قضوا فيها، ومنطقيا أيضا، وإن استوجب هذا المنطق بحثا أعمق، أجزم بأن ضباط وجنود الموقع، ومن ثم الجيش المصرى، لا يمكن أن يكونوا مستفيدين منها، بل هم أكثر المتضررين بوقوعها، فلم تكن إلا فخا للإيقاع بهم، إن صحت مسئوليتهم عن قتل كل هؤلاء الذين قٌتِلوا، وهناك ما يُرجِّح أن معظم الإصابات كانت بطلقات جاءت من الخلف، ولم يكن الجيش إلا فى الأمام! فمن المستفيد؟ من المجرم الحقيقى وراء الأستار؟

 

لننظر إلى مكونات ما سبق حتى ندرك ملابسات ما لحق، ونقترب من الإجابة: مساء يوم الأحد، أى قبل ساعات من حلول الليل وبزوغ الفجر الذى وقعت فيه الجريمة، كانت القوات المسلحة المصرية فى قمة تفويضها الشعبى، بمظاهرات ملايينية فى القاهرة وسائر المحافظات، بل والبلدات والأرياف أيضا، وكان هتاف «الجيش والشرطة والشعب إيد واحدة» هو العامل المشترك الأعظم بين كل الهتافات، وقد رأيت مشاهد تجل عن الوصف عند كبرى الجلاء بينما كانت بضع مدرعات للجيش تنطلق لتأخذ مواقعها على جانبى الجسر حماية للمتظاهرين الذين كانوا يهتفون بكل كياناتهم للجيش وضباطه وجنوده، وكانت الفرحة عامة وطاغية بين المتظاهرين والجنود والضباط على ظهر المركبات العسكرية. ولم يكن هذا الفرح القلبى بين الجيش والمتظاهرين على الأرض فقط، بل كان فى السماء أيضا، من خلال تلك العروض الجوية الخلابة للطيران، وأعلام البلاد الملونة التى كانت ترسمها الطائرات فى الأعالى، مع القلوب الفضية الكبيرة على صفحة السماء شفافة الزرقة. هل كان الجيش يحب أن يشوه لحظة المجد هذه بمقتلة فى الفجر بعد ساعات قليلة؟ لا يمكن.

 

الجيش هو أول المتضررين بوقوع هذه الجريمة، فلم يكن مستفيدا منها على أى نحو، فمن المستفيد؟ هنا يحملنا السؤال إلى الأطراف الظاهرة الخفية أو الخفية الظاهرة، ويوصلنا إليها بسؤال عكسى: من المتضرر من حالة الالتحام بين الشعب والجيش والشرطة التى بلغت ذروة سامقة قُبيل وقوع الواقعة بساعات؟ هنا يمكننا أن نشير بيسر إلى كل من كان يعنى لهم هذا الالتحام أن اللعبة قد انتهت، أن التفويض الشعبى للجيش مشهود، وأن استجابة الجيش لأشواق الشعب جلية المروءة، وأن الأمر ليس انقلابا كما تقول الكتب المدرسية ضحلة الآفاق، وكما يود أن يثبت من بقلبه هوى وبرأسه غرض. ولأن ذلك كذلك، فلابد أن لحظات الكشف والمكاشفة آتية، ثمة من تنتظرهم السجون لأفعال أقلها التحريض على الفتنة والفرقة والقتل، وثمة من استثمروا الكثير وأبدوا حماسا منقطع النظير لطيف لا يمكن عقليا أن يتحمسوا له بالمجان، إلا لأنهم يرون فى استشرائه خدمة لمخططات تقسيم المُقسَّم وتجزئ المُجزَّأ التى يرتجونها فى إطار ما يسمى «الموجة الرابعة من الحرب غير المتماثلة»، الحرب بالوكالة لصناعة الدول الفاشلة، التى ليست حية ولا ميتة، ومن ثم موجودة بلا وجود، تأكل نفسها بنفسها، فترتاح إسرائيل.

 

 هؤلاء المرتعدون من الحالة المصرية التاريخية لوحدة الجيش والشعب والشرطة، هم أصحاب المصلحة، المستفيدون قطعا من تلطيخ صدر الجيش بدماء مقتلة بوغت بوجوده فيها عند الفجر وهو لا يريدها ولا فكر فيها، بدليل كل ما سبق من أمائر حوار وصبر جميل من ضباط الموقع على المتظاهرين حول مبنى الحرس الجمهورى، وهى أمائر مسجلة بالصوت والصورة. وقد نضيف إليها ما يعززها من فلتات ألسنة إخوانية «قيادية» باحت بمكنون مخططات التصعيد والصدام والتفجير والدم، وكذلك وقائع قتل بالرش والرصاص والرمى من فوق الأسطح. أما شياطين ما وراء البحر والمحيط، فقد كان دعمهم الأسود فاضحا، وقارحا، ويُفشى سر المخبوء.

 

إنها مؤامرة على مصر، الجيش، والشعب، وعلى من ماتوا غيلة فى الجانبين، ومن يُعَدُّ لهم مزيدا من الموت فى الجانبين أيضا. فهل يكون الجميع صادقين مع أنفسهم ومع الله فى رحاب هذا الشهر الكريم، لننجو جميعا، وينجو هذا البلد المُتعَب الطيب أهله؟

 

أوجه سؤالى إلى الشباب خاصة، ومن كل الأطياف، دون إقصاء ولا تفرقة.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .