عندما تنقلب الليبرالية إلى ثرثرة - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عندما تنقلب الليبرالية إلى ثرثرة

نشر فى : الخميس 11 يناير 2018 - 10:35 م | آخر تحديث : الخميس 11 يناير 2018 - 10:35 م
من خلال إحدى المحطات الإذاعية تكلم أحدهم عن أشكال كثيرة من الحريات التى يريد ممارستها فى مجتمعه العربى. غالبية تلك الحريات التى رغب صاحبنا فى أن يراها متوافرة فى المجتمعات العربية كانت معقولة، وهى على أى حال مقبولة ومنصوص عليها فى مختلف إعلانات حقوق الإنسان العالمية، وكذلك فى دساتير الغالبية الساحقة من الدول العربية.

لكن لفتت نظرى إحدى الحريات التى عبر صاحبنا عن حسرته لغيابها فى مجتمعات العرب وعبر عن بالغ سعادته فيما لو استطاع ممارستها يوما ما دون اعتراض من سلطة رسمية أو من جهة دينية مجتمعية. إنها حرية أكل تفاحة أو موزة علنا بينما هو يمشى فى الشارع، أثناء شهر رمضان، ودون استنكار من الجمهور أو أية سلطة. بدون حصول ذلك الحدث الرمزى التقدمى، كما أوحت نبرة الحزن واليأس فى صوت صاحبنا، ستكون مجتمعاتنا العربية لا تزال تقاوم الحداثة وترفض أخذ أهم ركائز العولمة الثقافية المتمثلة فى الحرية الشخصية غير المقيدة وفى الفردانية المطلقة المستقلة المتحررة من كل قيد.

ليس ما سمعته بالصوت الفردى العابر؛ إذ هو مثال على الطريقة التى يتعامل بها الكثير من الليبراليين العرب الجدد مع موضوع بالغ الحساسية عند الغالبية الساحقة من أفراد أمتهم: موضوع المقدس الدينى، بل وأى مقدس آخر.

لنطرح أولا على أنفسنا السؤال التالى: هل حقا أن حرية وفردانية صاحبنا المتحدث، غير المنضبطة، والمستفزة للآخرين، لن تكتمل إلا بحقه المطلق فى عدم إعطاء المقدس الدينى الجمعى أى اعتبار؟ بل واعتباره قيدا اجتماعيا يجب تحطيمه؟

ثم، لننزل إلى مستوى العبث والرغبات الطفولية عند صاحبنا ونسأله: هل يستطيع المواطن الفرنسى أو الأمريكى، على سبيل المثال، أن يمشى عاريا فى الشوارع، دون أن يقبض عليه ويوضع فى السجن أو المصح العقلي؟ أليس لأنه يكسر ضوابط الحياء العام ويستفز عرفا مقدسا تعارفت عليه أغلبية المواطنين، وبالتالى تقيد حريته وفردانيته الطفولية العابثة.

***

لنذكر أنفسنا، نحن الذين نعيش فى بلاد العرب ذات الأغلبية الساحقة المسلمة، بأن المقدس الدينى الإسلامى لا يقتصر فقط على الذات الإلهية المتعالية السامية الطاهرة وإنما يشمل أيضا الأقوال الصادرة عن تلك الذات والأفعال المطبقة لها. فالمقدس إذن هو مكون مفصلى لأى دين، والمساس به هو موضوع بالغ الحساسية فى كل المجتمعات البشرية.

من هنا فإنه، مع التسليم الكامل لأهمية حرية التعبير القولى والرمزى، لابد من ضوابط عاقلة تمنع خرق ستار المقدسات الدينية، وتجنب المجتمعات صراعات الاستفزاز العبثى الذى يقود إلى تدمير السلم الأهلى، ومن ثم إلى تشويه الحياة السياسية الديموقراطية المطلوبة بإلحاح فى كل بلاد العرب.
من الضرورى أن يدرك الإخوة الليبراليون العرب أن ما يقال لهم من أن الليبرالية الديموقراطية تقوم على الحق المطلق لأى فرد فى أن يعبر أو يفعل ما يشاء حتى ولو استفز وأثار غضب كل الناس، هو قول تحت النقد والمراجعة والتجاوز، حتى فى الدول الغربية، رافعة ألوية الليبرالية.
فإذا كانت الإساءة لشخص الفرد، بالغمز أو التشهير أو الاستفزاز المتعمد أو التحقير للكرامة، تقود إلى محاكم القضاء والغرامات وأحيانا إلى السجون، فإن الغرب الليبرالى بدأ يدرك أن قول وفعل كل تلك القبائح ضد معتقدات الإنسان الدينية والأيديولوجية والثقافية هى الأخرى تحتاج إلى ضوابط وتقنين، خصوصا إذا كانت تؤدى إلى أوجاع نفسية وعاطفية أو تحقير للكرامة الإنسانية.

***

ليكن واضحا أننا هنا لا نطالب الليبراليين وغير الليبراليين باعتناق هذا المعتقد أو ذاك، ولا بممارسة تلك الشعائر أو تلك، ذلك أن القرءان الكريم قد حسم ذلك الموضوع («فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر«، «لكم دينكم ولى دين»، «لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى») وإنما نذكرهم بأن المقدس، أى مقدس، يصبح مع الوقت جزءا مكونا من البنيات العاطفية والنفسية والذهنية لدى الأفراد والمجتمعات، وأن التعامل معه يجب أن يخضع لمقاييس قيمية وأخلاقية ومجتمعية وقانونية، وليس لبهلوانيات كلامية وأفعالية وانتهازيات سياسية وإعلامية.

لنذكر الليبراليين العرب بأن النضال من أجل الحريات يجب أن يخضع لمنطق الأولويات، فهناك حريات أهم بكثير من حريات أخرى، خصوصا إذا وصل الابتذال إلى اعتبار قمة الحرية وتألقها يكمن فى أكل تفاحة علنا إبان شهر رمضان المقدس عند الملايين العرب المسلمين. نحن هنا لا نفعل أكثر من ممارسة المعارك الدونكيشوتية العبثية المتوهمة.

إذا كان الأفراد الليبراليون يريدون من سلطات الدولة الحديثة احترام وحماية حرياتهم الشخصية، فإنهم كذلك يحتاجون أن يطالبوا الدولة باحترام وحماية حريات المجتمع الجمعية وحق الجماعات فى أن تحترم مقدساتهم المتجذرة فى وجدانهم وكيانهم الروحى.

نحن نعلم أن الموضوع بالغ التعقيد، ويتضمن أوجها متقابلة ومتناقضة، غير أنه من الحكمة والتعقل ألا نضيف إلى الصراعات المجنونة المثيرة للحرائق الكثيرة فى الجحيم الذى يعيشه العرب الآن، أن نضيف حرائق دينية جديدة باسم أيديولوجية الليبرالية، التى هى الأخرى مختلف حول الكثير من مكوناتها عندنا وعند من وضعوها ونشروها.

نرجو من صاحبنا المتحدث، وممن يوافقونه الرأى، أن يضعوا حاليا تفاحهم وموزهم فى ثلاجات التجميد، وأن يشاركوا الناس إبان شهور رمضان فى أكل الثريد بعد أذان المغرب. فموضوع الحرية هو خارج هذه الثرثرة.
علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات