أنا راحلة - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أنا راحلة

نشر فى : الثلاثاء 10 أكتوبر 2017 - 9:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 10 أكتوبر 2017 - 9:00 م
أنا ضحية الزمن الجميل. أنا من جعله جميلا. كان زمنا ككل الأزمنة حتى يوم التقينا. عشت سنوات المراهقة بحلوها ومرها. عشت باستمتاع كل أحلامها وبالشكوى وخيبة الأمل كل إحباطاتها. كم من خيوط غزلناها ثم نسجناها صداقات إلى اليوم باقية. تأقلت وانطفيت بعدد مرات النجاح والفشل. أتألق فتتألق دنياى. أجدت فنون نشر السعادة أم كانت سعادتى من نوع لا يعرف الحدود. عرفت فى الوقت نفسه كيف أخفى حزنى وخيبة أملى وتعاستى. كنت واثقة. كنت واثقة من نفسى ومن اختياراتى ومن قدراتى. جمعت فى شخصى غير الضعيف هوايات عديدة واشتهرت بين صديقاتى بأننى صاحبة فراسة فى فهم الذكور وهم صبيان، واستمرت الفراسة إلى أن صاروا رجالا وصرنا نساء. أحسنت دائما اختيار الرجل المناسب للحظة والرجل المناسب للنزهة والرجل المناسب لرحلة أطول من النزهة والرجل المناسب للعمل. وعندما حان وقت اختيار رجل العمر كنت واثقة من أننى كعادتى سوف أجد الرجل المناسب. 

***

تذكر طبعا يوم التقينا أول مرة. تذكره لكثرة ما حدثتك عنه. يومها قررت أنك الرجل المناسب. قالوا تسرعت. أقول لا، لم أتسرع. كنت فعلا الرجل المناسب. فراستى فى الرجال لم تقصر أو تخطئ. كنت يومها الرجل المناسب. أنت مثل كل شىء وكائن حولى، أنا نسجتكم جميعكم من خيوط أنا بنفسى غزلتها. منكم جميعا صنعت الزمن الجميل. أنا صانعته وصائغته، أنا التى نحتته أصناما نقدسها وصاغته ألحانا تشجينا وأخرجت صورا تثير حنينا وكتبت وحكت روايات تخدرنا. أنا الروح التى نزلت فى كل كائناتى وأشيائى لنعيش معا هذا الزمن، ننعم بالفرص التى كانت تزين أحلامنا. عهدنا كان أن نعيش معا كل لحظة إلى نهاية العمر. لا نفارق زمننا الجميل ولا ندعه يتخلى عنا فيرحل أو يغيب. 

***

مرت علينا سنوات كثيرة. أرجع إلى البيت من عملى أسرع الخطى وأستحث السائق ليتفادى الشوارع المزدحمة لأصل قبلك. أبدل ثيابى بثياب كانت تروق لك. أعد عشاء سريعا أو لعله غداء لكلينا أو لواحد منا. أتعمد أن يكون فيه بعض ما تحب. لا تأكل إلا قليلا وما أكلته لم يحظ بإعجابك أو لم تهتم. نجلس لنتحدث. أنا أتكلم وأنت لا تصغى إلا نادرا فتعليقك لا يمتُّ بصلة قوية إلى روايتى عن الخلاف الذى نشب فى مكتبى بين المرءوسين. أنقل الحديث إلى مسائل مالية فلا ترد وأنت الذى أصبحت تهتم بالمال بعد سنوات من الترفع عنه دخلا أو حيازة أو حسابا. أحكى عن عملى فتبتسم مستحسنا وتعود إلى ما كنت تفعل أو لا تفعل. لم تكن بارد الإحساس فى زماننا الأول. وقتها كان مديحك يسبقنى وكلماتك الدافئة تصقلنى ونظراتك الملتهبة تذيبنى وأثواب نومى التى اشتريتها من أجلك تهنئنى على اختيارى لها من بين عشرات. راح الزمن. أنت لا تمدح ولا تثنى ولا يصدر عنك سوى كلمات باردة وإنْ مهذبة. أثوابى للنوم لا تراها. كنت تسأل عندما ترى جديدها وتمد يدك تتحسس قماشتها وتتعجب لنعومتها. نسيت كيف تتعامل مع أثواب نومى.

***

تذكر كيف كنت أقرأك من قبلتك. شفتاك لم تجيدا حراسة سر ما يدور فى عقلك. كم من مرة ضبطتك شاردا وكنت تعترف وتعتذر. لم أشعر يوما بالإهانة لشرودك، فالشرود كان إحدى علاماتك. فى المحاضرات كنت تشرد، وفى السينما كثيرا ما نبهتك إلى مشاهد ما كان يجب أن تفوتك. أنت نفسك كنت تسلمنى مقود السيارة خشية أن تشرد ونحن على الطريق السريع إلى رحلة على الساحل أو صاعدين فى الجبل. هل تذكر يوم الامتحان الشفهى. شردت فما كان من الأستاذ الهندى وكان مشرفا عليك إلا أن طلب من زملائه الممتحنين منحك فرصة دقائق وكوبا من القهوة الأمريكية قبل أن يعودوا إلى أسئلتهم. كنت معك ولكن من وراء حائط زجاجى.

نادرا ما كنت تشرد خلال قبلة وكثيرا ما كنت المبادر ودائما كنت مبدعا ومتفوقا. لم تعد المبادر وتراجع أداؤك. صارت قبلتك كقبلة الضيف المحترم حين توديعه أو قبلة شقيقى المستعجل دائما. زادت مرات الشرود. لازمنى فى البداية الشعور بالإهانة. نبهتك ولم تنتبه. تغلبت على نفسى وسألتك إن كانت أخرى تسربت إلى حياتك تشاركنى فيها. سألتك أيضا إن كانت مشاعرك تجاهى بدأت تبرد أو بردت بالفعل. تعللت كعادتك مؤخرا مرة بضغوط العمل ومرة بمصاعب الحياة ومرة بتقلبات المزاج. وللغرابة تعللت مرة بقسوة النظام الحاكم وتدخله فى شئوننا اليومية.

*** 

يقولون: الرجل الناجح محبوب من الناس وأولهم زوجته. يقولون فى نفس النفس إن المرأة الناجحة فى عملها غير محبوبة من الناس وأولهم زوجها. أنت نجحت والناس بالفعل تحبك وتهابك وتتكالب على لفت انتباهك لهم، وأولهم أنا. أنا أيضا نجحت. كسبت حبا من بعض الناس وليس أكثرهم وخسرت حبك. حقيقة لا أفهم العلاقة بين نجاحى وانحسار حبك. أنا متوهمة بالتأكيد. كنت فى زمننا الجميل فخورا بنجاحى تماما كما كنت دائما مزهوة بنجاحك. بقى زهوى وفتر فخرك. 

تذكر، ولا شك، حماستك لحقوق النساء. أنت نفسك كنت ورائى محفزا وملهبا وملهما. أراك اليوم رجلا آخر. تخليت عن قضايا الفقراء والكادحين. كنت فى صف العدل، كل أنواع العدل. كنت مصدر عزتى بين زملائى وأصدقائى. خجلت وطأطأت الرأس بينهم عندما سمعوك تبرر الظلم والقمع وتدافع عن القيود. أنت الذى حطمت قيودا وذقت عذابا من أجل الحق والحرية. كنت تسألنى عن المقهورات والمقهورين وعن أهالى الغرقى من المهاجرات والمهجرين. تطلب منى مرافقتك لزيارة هؤلاء وغيرهم من التعساء وأصحاب الحق الضائع والعاطلين ونعود إلى بيتنا ووجهك تتبادله فى الثانية الواحدة سحابة حزن وومضة فرح وسعادة. تخليت عنهم.

***

أنا راحلة. هذا الرجل لم أختره. لم أختر رجلا يجعلنى أبلل مخدتى كل ليلة بدموع التعاسة والألم والمهانة. لم أختر رجلا يشرد أو يفكر فى غيرى وهو يقبلنى، لم أختر رجلا لا يفرح لنجاحى بل لعله لا يتمناه إلا لنفسه. اخترت رجلا اشترطت عليه أن أكون موجودة فى أحلامه، فى كل أحلامه لا يستثنى منها حلما. أنا راحلة. هذا الرجل الذى اخترته لم يعد يحلم بى.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي