العين الحمرا..والصوت الضائع - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 10:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العين الحمرا..والصوت الضائع

نشر فى : الأربعاء 10 يونيو 2009 - 8:21 م | آخر تحديث : الأربعاء 10 يونيو 2009 - 8:21 م

 فى السنوات الأولى من كلية الطب كنت طالبا أقرب إلى الفشل الدراسى، لأسباب لا أعتذر عنها، بل أعتز بصدق اندفاعاتها ولاأزال، وأعتبرها مما صلب عودى حتى الآن. ثم إن العلوم الأكاديمية الباردة فى هذه السنوات، لم تكن تمنحنى مفتاح الإنسانية الجياشة التى دخلت بسببها كلية الطب.

طلبت تحويلى لكلية الاقتصاد والسياسة، ولم أمكث فيها غير يومين، وحولت لمدرسة الألسن لأدرس لغة دوستويفسكى وتشيخوف وتولستوى، ولم أكمل أسبوعا. كل ذلك فى السنة الإعدادية التى تعثرت فيها، والتى أُلغيت الآن فى كليات الطب لعدم جدواها!

ولأننى كنت طالب مشاكل سياسية وعواصف عاطفية ووجودية، فإن طلبات التحويل والرجوع التى وقعها لى الدكتور إبراهيم أبوالنجا مؤسس الكلية العظيم وعميدها الأول، كانت نماذج مدهشة لروح التسامح والصبر الأبويين، فعندما أطلب ترك الكلية يكتب: «موافق مع ألف ألف سلامة»، وعندما أطلب الرجوع يكتب: «موافق وأمرى إلى الله»!

وعندما كنت أُعتقل، كان هذا الرجل الأستاذ الأب العالم الأديب، يدفع من جيبه سرا لبعض المحامين للدفاع عنى، ويوصل لبيتنا كل ما يسمع أننى أطلبه وأنا فى السجن. وعندما رحل الرجل وأنا مسجون بكيته فى صمت، وجاء بعده الدكتور كمال الدين كامل أحمد، أستاذ علم الباثولوجى المحترم، الذى لم يقصر فى رعايتنا علنا وسرا ونحن فى السجون، إذ صارت كلية طب المنصورة تمثل بوفد كامل فى كل حبسة طلابية!

فى المرحلة الإكلينيكية التى تظهر فيها حيوية وإنسانية وجمال العلوم الطبية، المستشفى والمرضى وفن التشخيص والعلاج، أقبلت بآخر ما أتيح لى من وقت وجهد لأرتشف من هذه الإنسانية وهذا الفن، ولم أتخلف أبدا، برغم أننى كنت أُسجن، أو أُهدَّد بالسجن، سنويا على وجه التقريب.

ومن بين من أدين لهم بنجاحى برغم ظروف السجن المتكرر الصعبة، مجموعة من الأصدقاء زملاء الدفعة التى ثبت فيها، لم تكن لهم معارك مع السلطة مثلى، ولم يكونوا حتى يتبنون الأفكار التى كنت أتبناها فى تلك الأيام، لكنهم كانوا شرفاء وطيبين وشجعان بكل تأكيد، لأن الاقتراب منى حينها كان تهمة وشبهة.
كانوا يحيطون بى فور أن أخرج من السجن، ويضموننى لفريق مراجعتهم لألحق بما فاتنى، وإننى لأذكرهم بكل الخير ودائم الامتنان، الدكتور محمد علوان والدكتور محمد فراج. وصديق العمر وزميل التخصص الدكتور حمدى شكرى. ولا أنسى بالطبع زميلتين محترمتين من جميلات المتفوقات، تطوعتا بتمريركشاكيل محاضراتهن الدقيقة الأنيقة لى، برغم مخاطر هذه الالتفاتة النبيلة تجاه من كنته آنذاك!

لم يكن الطلبة وحدهم من يمتلكون هذه الروحية، بل كان الأساتذة أيضا. وهنا أذكر بالخير الدكتور زكى شعير أستاذ الأمراض الباطنية الأكبر والدكتور فاروق عزت أستاذ الجراحة، اللذين كانا يشدان من أزر أبى وأمى فى غيابى، برعاية طبية وإنسانية مباشرة. أما العظيم الدكتور محمد غنيم، فكان يأتى ليقرأ باهتمام مجلات الحائط، برغم انشغاله بمشروعه العلمى الوطنى العالمى الذى سطع، ولا يزال.

وكانت المفاجأة من أستاذين لم أتصور أن يتعاطفا معى أبدا، فقد كنت مسجونا أثناء امتحانات مادة الأنف والأذن والحنجرة، ومادة طب العيون. أخذونى من السجن مكبلا بالحديد فى عربة ترحيلات تحت الحراسة لتأدية الامتحان بأمر النيابة، وعندما دخل بى الضابط مكبلا على الدكتور على أبوبيه، رئيس قسم الأنف والأذن والحنجرة، ثار الدكتور فى وجه الضابط بغضب حقيقى: «ايه.. انت فاكر نفسك فين.. انت هنا فى جامعة.. انت فى كلية الطب.. فك الحديد من ايد الطالب واتفضل انتظر بره».

أذعن الضابط الذى كان شابا ومغرورا، ولم يكن تصرف الدكتور أبوبيه بداية لأى تهاون علمى فى امتحانى، فقد سألنى فى كل المنهج تقريبا، وكان هناك سؤال لم أنسه أبدا: «لما يبقى فيه واحد زيك بيهتف فى المظاهرات.. ممكن يحصل ايه لصوته». قلت له إننى لا اهتف أبدا فى المظاهرات، بل أكتب فى مجلات الحائط. لكنه أصر أن أجيب عن السؤال حتى لو كان افتراضيا، وأجبت بعد أن أمر لى بكوب من عصير البرتقال الطازج. كان الموضوع يتعلق ببحة وضياع الصوت، ويمر على تشريح الحنجرة والأحبال الصوتية وآلية تورمها وتوزُّمها والتهابها ووسائل الوقاية والعلاج المختلفة.

أما فى امتحان طب العيون، فقد كنت متحفزا للأستاذ رئيس القسم، الدكتور عادل حسن، إذ كنت أهاجم نشاطات الأسرة الطلابية التى يشرف عليها، وتكرر المشهد لكن بهدوء ودبلوماسية هذه المرة، استأذن الدكتور عادل من الضابط أن يفك قيودى، وأن ينتظر فى الخارج حتى يتم امتحانى. وإدراكا منه للحساسية المحتملة بيننا، أحالنى إلى أستاذ زائر من خارج الكلية ليمتحننى، وأجلسنى فى مكتبه وطلب لى شايا ومياها باردة وقطعتى جاتوه، وخرج قائلا: «لما تحس إنك مستريح ومستعد للامتحان قول. ولو عايز تشوف حد من أصحابك وزمايلك أو عايز أى حاجة قول لى».

كانت نزاهة إنسانية وعلمية تدعو للتأثر، ولم تخل من اللماحية والمرح، فقد سألنى الأستاذ الزائر عن «العين الحمرا»، غامزا إلى تحمير السلطة عيونها لمخالفيها، وربما مشيرا إلى احمرار عينى بتأثير التوتر وحياة السجن الرديئة، والسؤال كبير فى طب العيون، فاحمرار العين لا يقف عند كونه مظهرا للإجهاد أو الحساسية أو الالتهابات بأنواعها، بل يمتد إلى ارتفاع ضغط العين، وأنزفة الملتحمة، وقرحة القرنية. يكاد يكون سؤال طب العيون كله بالنسب لطالب بكالوريوس الطب.

نجحت، ونجح فى قلبى أساتذتى، وكليتى، وجامعتى، وذلك المناخ العلمى الإنسانى الذى حولنى من طالب طب يوشك على الفشل، إلى طبيب جيد فى اختصاصه بالمعايير الدولية، ثم محرر علمى ومستشار تحرير لأكبر وأعرق المجلات الثقافية العربية، مجلة العربى.

وفى كل ما أكتب، حتى فى الأدب، أظل مدينا لكلية طب المنصورة، بذلك المناخ العلمى والإنسانى رحيب الأفق، الذى هدهد تمردى، وتفهمه، وظل يحضنى على مراجعة الذات، ونشدان الأصدق والأعدل.
فلا بضياع الصوت ولا تحمير العيون تكون الجامعة جامعة، بل بفك القيود فيها وعنها، وخروج السُلطة والتسلط من حَرَمها، واحترام حُرْمَتها، لا العلمية وحدها، بل الحضارية أيضا، والديمقراطية بالضرورة.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .