سعيد مثل يوليسيس - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 9:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سعيد مثل يوليسيس

نشر فى : الأربعاء 9 أغسطس 2017 - 9:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 9 أغسطس 2017 - 9:25 م
حين كتب الشاعر الفرنسى جواكيم دى بيلى قصيدته الشهيرة «سعيد مثل أوليسيس، الذى قام برحلة جميلة رجع بعدها إلى أهله أكثر حكمة» فى القرن السادس عشر، لم يتوقع أن يتمكن أى شخص من السفر مثل ما فعل البطل الإغريقى يوليسيس، ملك إيثاكا الأسطورى الذى تاه فى البحر عشر سنوات بعد حرب طروادة، فارتبطت أسطورة غيابه بمفاهيم الشتات ثم العودة، ومواجهة الأهوال والخلاص منها.
***
اليوم بعد أربعة قرون على القصيدة، تكتظ صفحات التواصل الاجتماعى بصور من سافروا لقضاء إجازة الصيف فى أماكن مختلفة عن أماكن إقاماتهم. تظهر صور لأطفال على الشواطئ ولسيدات سعيدات بلقاء صديقاتهن، صور تكاد أن تنطق بسعادة من فيها، صور ملونة فيها ابتسامات من أجيال مختلفة من الجدود والجدات إلى الأحفاد. نكاد نحن الناظرين إليها نسمع النكتة التى أطلقها أحدهم قبل التصوير بثوان، فأضحك جميع من ظهر فى الصورة، ونخمن التأفف الذى خرج من الشخص الوحيد صاحب الابتسامة المصطنعة.
***
لكن بعيدا عن ترف الإجازة وعن إمكانية التخلى عنها بسهولة فى حال عدم توافر الظروف الاقتصادية أو غيرها، ومع تعقيد الأوضاع السياسية فى منطقتنا والعلاقات المركبة مع العالم، صادف أننى وفى الأسبوع الأخير فقط سمعت عن أشخاص أعرفهم تختلف ظروفهم، إنما يشتركون جميعا فى عدم قدرتهم على السفر. سيدة سورية تود زيارة أخيها المريض فى مصر لم تحصل على تأشيرة، مجموعة شباب وشابات سوريين لجأوا إلى لبنان فبرعوا فى فنون المسرح، لم يستطيعوا الحصول على التأشيرات اللازمة للمشاركة فى مهرجان دولى للفنون كانوا قد دعوا إليه فى بريطانيا. شاب فلسطينى من غزة يعمل فى منظمة دولية تعقد اجتماعا فى القاهرة، لم يحصل على إذن بالدخول على الرغم من أنه يشارك فى الاجتماع السنوى للمنظمة منذ أعوام دون مشاكل.
***
كنت قد سمعت عن حرية الحركة حين عملت مع منظمة قانونية وثقت عدم قدرة الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية على التحرك بسهولة فى الضفة بسبب الإجراءات الإسرائيلية المتزايدة، والتى رأت المنظمة أنها تحد من حق حرية الحركة لدى الفلسطينيين، وقد خرجت المنظمة بتقرير يشدد على حرية الحركة، وعلى أنه حق لا يجب منع الإنسان عنه، إلا طبعا فيما يتماشى مع القانون، ووفق معايير مدروسة وغير تعسفية، كأن يستند قرار سجن أحدهم على إجراءات قانونية واضحة، وليس على خلاصات مختصرة مثل «مع الرفض» دون أن يفهم صاحب الشأن سبب هذا الرفض.
والمشكلة ليس حكرا على البلاد العربية، حتى لا يساء فهم هذا الطرح، إذ شددت البلاد الغربية عموما منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر من إجراءاتها الرامية إلى تحصين أمنها، أى أمن البلاد الغربية، ضد هجمات تراها محتملة. لكن يبدو لى أن الموضوع قد تفاقم بشدة فى السنوات الأخيرة، أو ربما بدا لى الأمر هكذا لعلاقتى المباشرة بأشخاص عديدين لم يعودوا يستطيعون الحركة، سواء لأن بلادهم منعتهم من السفر أصلا أو لأسباب تبررها البلاد ولا يبررها القانون، وإما لاطلاعى على حالات تم رفض سفرها إلى بلاد كانوا ينوون زيارتها لأسباب ترفيهية أو مهنية أو صحية أو إنسانية.
***
اختلفت أخيرا مع صديق حقوقى حين استنكرت عدم قدرة من ذكرتهم على السفر، فرد الصديق أن ليس هناك أمر فى الواقع إسمه حرية الحركة أو حرية التنقل. سكت حين قال ذلك، فقد جعلنى أشكك فى معلوماتى على الرغم من أننى أعمل فى مجال الحقوق منذ سنوات. عدت إلى المراجع التى أكاد أحفظها عن ظهر قلب، وتأكدت أن الإعلان العالمى لحقوق الإنسان قد نص وبوضوح على أن لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة، كما أنه يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما فى ذلك بلده كما يحق له العودة إليها.
*** 
فى اللغة الإنجليزية مصطلح متداول كثيرا يصور قدرة أحدهم على اعتبار العالم بأسره منزله، «العالم قوقعتى» يعنى أننا جميعا نحمل بيتنا على ظهورنا ونحطه فى المكان الذى نختاره. طبعا المعنى شاعرى ومجازى، فجميعنا يعرف أن اختيارنا لمكان إقامتنا تحدده شروط معقدة قانونية فى المقام الأول واقتصادية واجتماعية وعائلية فى باقى المقامات، وأن قلة منا هى من تعتبر بالفعل أن العالم قوقعتها، بل إن قلة منا تملك فعلا إمكانية الحركة بسهولة بسبب تلك الشروط. أما بالنسبة للمقولة الأخرى «حدودى هى السماء» والتى يستخدمها أيضا متحدثو اللغة الإنجليزية للإشارة إلى أن حدود أحلامهم مفتوحة، فأنا كثيرا ما أتساءل إن كانت الأحلام فى منطقتنا هى نفسها أيضا محكومة بشروط. 
أن تصبح زيارة أخ مريض حلما؟! أن تتحول المشاركة فى ورشة عمل إلى حلم؟! هل انخفض مستوى الأحلام من «حدود السماء» إلى الحدود الدنيا بهذا الشكل؟ لست هنا بصدد فتح نقاش معقد عن القانون والأمن والإرهاب واللجوء، وغيره مما أصبحنا جميعا نكاد نتنفسه من كثرة تحكمه بحياتنا وحركتنا. أنا أحاول فقط أن أستوعب شدة وثقل الوثاق الذى يقيد أيدى الكثيرين، حتى أصبحت، فى كل مرة أسمع فيها عن قصة شخص أعرفه لم يتمكن من السفر، أدندن دون شعور واع منى قصيدة أحمد فؤاد نجم «ممنوع من السفر» بدل أن أتذكر قصيدة الشاعر الفرنسى عن رحلة يوليسيس.

 

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات