من أطفأ الأنوار؟ ومن يعيدها؟ - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 2:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من أطفأ الأنوار؟ ومن يعيدها؟

نشر فى : الخميس 9 فبراير 2012 - 9:00 ص | آخر تحديث : الخميس 9 فبراير 2012 - 9:00 ص

عملت طبيبا للحجر الصحى فى بورسعيد ستة أشهر، وكنت أقيم مع عدد قليل من زملائى فى فيللا خشبية عتيقة بناها الفرنسيون على زمن حفر قناة السويس فى حى «الافرنج» وتطل مباشرة على الميناء ومجرى القناة. وفى وقت معلوم أسمع النداء يزعق به أحد المساعدين من الطابق الأرضى «دوكتوووور.. ألسطة اللانش»، فأهبط لنعبر الشارع ونجتاز إحدى بوابات المينا، ونستقل «لانشا» يرفع راية الحجر الصحى الصفراء وننطلق ملاحقين السفن التى تأتى من البحر المتوسط لعبور القناة أو للرسو فى الميناء، نفتشها صحيا ونمنحها أو لا نمنحها التصريح الصحى «سانيترى فرى براتيك». وطوال مدة المناوبة التى تمتد لست ساعات، كنت أعيش واقعيا فى وسط من البورسعيدية الخُلَّص، بمبوطية وغير بمبوطية، إضافة لمن نلقاهم من أجانب على ظهور السفن العابرة والراسية. ومن ذكرى هذه الساعات التى تكررت على امتداد الأشهر الستة لا أصدق أبدا أن البورسعيدية قتلوا أحدا من شهداء مباراة المصرى والأهلى، بل أُرجِّح أن البورسعيدية أنفسهم تحولوا إلى ضحايا ألصقت بهم التهمة فى العتمة، وللعتمة المصطنعة تاريخٌ هناك!

 

على امتداد الشهور الستة تلك، وبشكل يومى تقريبا، وفى ساعة معينة من الليل، كنا نُفاجأ بانقطاع الكهرباء عن منطقة الميناء كلها، ليسود ظلام حالك تجرى تحت جُنحِه أمور مريبة، وكان الإجماع أنها عمليات تهريب ضخمة لشحنات هائلة وربما محظورة، ولصالح كبار متنفذين فى الدولة وفى المجتمع. وفى فترات الإظلام والتعتيم تلك، كنت أقف فى «تَرَسينة» الغرفة الكبيرة شاهقة السقف التى أسكنها، أحاول تتبع أشباح ما يجرى فى الميناء دون جدوى، لكننى فى الوقت عينه كنت أرى بسطوع صارخ، تلك الخدعة الكُبرى التى دبرها فسدة النظام لبورسعيد الباسلة وأهلها الطيبين.

 

بعد محنة «التهجير» القسرى والبهدلة التى عاشها أهل بورسعيد ليمكِّنوا جيشنا الوطنى من التركيز فى مواجهة العدو على ضفة القناة فى سيناء المحتلة آنذاك، ومن ثمار نصر أكتوبر الذى كان البورسعيدية وأهل منطقة القناة جميعا من أكثر المضحين فى سبيله، عاد أهل بورسعيد إلى مدينتهم شبه المُدمَّرة، رمموا بيوتهم ونظفوا شوارعهم وعمَّروا حياتهم الصعبة فيها، وبدلا من أن تقدم لهم الدولة المنتصرة مشروعا تنمويا حقيقيا يعوضهم عما عانوه، كظهير زراعى (نعرف أنه صعب لكنه بالعلم والإرادة ممكن) أو استثمار صناعى (كان ملائما ومفيدا للمدينة ولمصر كلها) تفتقت قريحة انفتاح السداح مداح عن مشروع «المدينة الحرة»، وهى لم تكن حرة إلا فى ترك الحبل على الغارب لقطط الانفتاح السمان ورعاتهم من أهل الحكم فى عمليات تهريب جمركى وغير جمركى إجرامية كلها. بينما كان البورسعيدية العاديون يُنحَرون روحيا بالقليل الذى كان النظام يسمح لهم به، من تجارة زائفة كانت تمنحهم بعض الوفرة العابرة وتأكل أعمارهم وتدوس مؤهلاتهم الإنسانية والذهنية، وتحشر المدينة الجميلة البطلة فى تجارة الشوارع والبضائع الزائفة وملابس البالة، ثم جاء مبارك ليهبط بهذه الحطة دركا أسفل ولسببٍ شخصىٍّ وضيع.

 

بورسعيد التى بدت محمومة بهوجة «المدينة الحرة» وقت أن كنت فيها نهاية زمن السادات، كانت بادئة فى التحلل من أطرافها، وعلى مشارف بحيرة المنزلة التى تكوِّن الحدود الجنوبية للمدينة رأيت وعايشت ضاحية من ضواحى البؤس والمهانة فى حى «القابوطى» الذى ابتنى من لا بيت له فى المدينة «المحررة» مسكنا عشوائيا فيه، يكاد يسبح فى سبخة الطين ونشع الرطوبة ومياه الصرف، ولم يكن سكان هذا الجحيم الرطب وقفا على بسطاء الناس، بل كان مأوى لأطباء ومحامين ومحاسبين ومهندسين من خيرة العقول المصرية، أذرى بهم انفتاح السداح مداح، فيما كانت أبراج المهربين الكبار تصعد على أنقاض بيوت بورسعيد الأصيلة الجميلة، وعندما حاول مواطن بسيط تقديم شكوى لمبارك يسأله فيها الإنصاف من مرض وعوز، تم جندلة الرجل «أبوالعربى» بثلاث رصاصات فى دماغه وصدره، ومن بعده تم التنكيل بالمدينة كلها، لأنها زعَّلت زعيم الغفلة وولده وريث التفاهة والغِل. فهل أثَّر الإفقار العمدى للمدينة الباسلة فى طبيعة بعض بنيها الطيبين لتتورط فى عار مذبحة أربعاء كرة القدم الأسود المظلم؟ أبدا، أقولها لأننى كنت فى المدينة منذ شهرين، ولى فيها أهل وأصدقاء ومعارف، فخنق تجارة الشوارع فى المدينة كعقوبة فرضها عليهم مبارك لم يهبط بسلوكيات أهلها، بل ارتفع بهذه السلوكيات، لأن الناس تخلصوا من زيف واتضاع هذه التجارة وتشويهها لسوية البورسعيدى، والبورسعيدية من أكثر أهل المدن سوية، أقولها وقد رأيتهم فى غابة الميناء، وفى حومة هوجة مدينة التجارة «الحرة»، وهما ظرفان كفيلان بإخراج أخفى ما فى النفوس من عدوانية وتوحش، فطوال ستة أشهر، وعبر زياراتى للمدينة بعد ذلك، لم أر «خناقة» تتحول أمامى إلى مقتلة وسيل دماء كما فى أماكن أخرى، فالبورسعيدية، فى عموم ما رأيت، يتعاركون تلويحا وصراخا لكنهم لا يشتبكون ولا يتطاعنون، كما كل الكائنات السوية المفطورة على فضيلة الحفاظ على النوع، والتى تحوِّل معاركها مع بنى جنسها إلى نوع من «القتال الرمزى» باستعراض القوة القادرة على الردع، لا الجانحة للقتل. فماذا نقول عن المجزرة التى اكتمل انحطاطها فى عتمة إطفاء أنوار استاد بورسعيد مساء الأربعاء الأسود؟

 

قياسا على ما خبرته من إطفاء أنوار ميناء بورسعيد لإتمام جريمة اقتصادية أرى أن إطفاء أنوار الاستاد حين المجزرة كان توطئة لإكمال جريمة بشرية، ومن ثم أقطع بأنه كانت هناك مؤامرة أرجو ألا يتم التغطية عليها بالتضحية بـ«كبش فداء» صغير كالموظف الذى أطفأ أنوار الاستاد ولا بعض الضباط الصغار الذين تصرفوا برعونة فهؤلاء قد يكونون ضحايا لملابسات وأشخاص أكبر منهم وأدهى. بل إننى ضد تحميل وزير الداخلية الحالى كامل المسئولية عما حدث، فببداهة كان هو أيضا ضحية لمتآمرين أخفى وألعن. ولست مع المطالبين بإقالته لأن ترك الرجل فى منصبه كفيل بتمكينه من الثأر لكرامته المهنية والذهاب بعيدا فى الكشف عمن دبروا المؤامرة الخسيسة وتوريطه فيها وتطهير وزارة من أهم وزارات الدولة ممن بقوا فيها من المُسيئين والمتآمرين. ثم إن الرجل أظهر لمحة مهمة من الكفاءة الشرطية فى أولى فترات عمله، وإن تم إجهاضها من قوى حريصة على إضعاف الأمن ليست لئيمة وواعية فقط، بل عشوائية وهمجية أيضا، ثم لا أعرف لماذا يتناسى السياسيون عصابات تهريب المخدرات وتهريب الآثار ومافيا تجارة الأعضاء والتهرب الجمركى وغيرهم ممن يهمهم أن يستمر الانفلات الأمنى بمثابة إظلام يحبكون فيه جرائمهم؟!

 

نحن فى حاجة ماسة لإزاحة الإعتام لا عن سطح جريمة الأربعاء الأسود وحدها، بل عن دهاليزها وخباياها كما غيرها من جرائم مماثلة، وهذا يتطلب منا تفكيرا مسئولا أعمق لا يجامل أحدا على حساب الحقيقة والمصلحة التاريخية للأمة كلها. وسأبدأ بنفسى قائلا بما أعتقد انه حق وإن كان سيستنفر ضدى بعض من أحبهم وأتعاطف مع صرخاتهم وصدق نواياهم وإن كنت لا أوافق على أساليب نضالهم، فبصراحة لا أرى معنى للاعتصام الآن وبهذه المواصفات التى تتيح تشويه الميدان وتبخيس «الاعتصام» كأداة نضالية ينبغى أن يُصان لها قدرها ويُحتَفَظُ بها نقية قوية للحظات فاصلة، كما لا أرى معنى على وجه الإطلاق للاصطدام الذى يُلحُّ عليه السلوك الانفعالى لبعض المتظاهرين حول وزارة الداخلية، لأنه عبثى ويصب فى صالح المستفيدين إجراميا من الانفلات. ثم، لماذا لا يتحسَّب بعض «الثوريين» لما يمكن أن يحدث إذا انهار الأمن بخلخلة المؤسسة الأمنية الرسمية المُتاحة (برغم كل ما بقى فيها من شوائب واجبة وممكنة التطهير) ألا يكون هذا نذير شؤم بنشوء ميليشيات تملأ الفجوة الأمنية، وسيصيب بطشها أول ما يصيب قوى الثورة السلمية نفسها!

 

وألا تنبهنا هذه المجزرة للشرور الكامنة فى التعصب التى أهونها التعصب الكروى، وكيف أن التعصب حتى فى وجهه الرياضى السلمى، عندما ينشغل منتسبوه بالصراخ والتراكض والكر والفر فى الظلام إنما يوافرون للقتلة فرصة سفك الدماء وإهدار الأرواح وإلصاق الجريمة بمن لم يرتكبوها؟ ويبقى أن التعصب أيا كان عنوانه فى هذه الفترة شديدة الحرج فى عمر أمتنا، خاصة التعصب السياسى النابذ للتوافق، هو فعلٌ جُرْمىِّ، لا بسبب تشويه الحقائق وإهدار الحقوق فقط، بل لأنه يفوت فرصة التوافق اللازم لأى تغيير للأفضل، ونحن فى حاجة ماسة لهذا التغيير للأفضل، لأننا ماديا ومعنويا أمة فى خطر. فهل يدرك هذا أعضاء البرلمان المنتخب، أغلبية وأقلية، ويكفون عن الخطب الطنانة والحنجوريات الرنانة والمغازلة الغوغائية لقطاعات معينة من الجماهير أو لجهات فى موقع النفوذ الحقيقى أو المُتوهَّم. هل يدركون أن كل نفوذ غير إرادة الشعب الذى استيقظ وصار عصيا على التنويم هو نفوذ عابر، وأنهم بانتخابهم وحلف اليمين البرلمانى لم يعودوا ممثلين لأحزاب ولا جماعات ولا أيديولوجيات، بل ممثلين لمجمل الأمة وكافة خلق الله فيها، ومن ثم ليس أمامهم إلا التآزر الجامع أو السقوط المُفرِّق؟

 

رحم الله شهداء ليلة الغدر والغيلة من شبابنا الطاهر وسائر شهداء الثورة، وألهم ذويهم الصبر والسلوان، وأدنى رقاب المجرمين والمحرضين من قصاص عادل، وأنار عقولنا وقلوبنا لتوافق وطنى يتخلص فيه الجميع من أدران أنانياتهم وعصبياتهم وانحيازاتهم، فنحن جميعا أحوج ما نكون للاستنارة والنور.

 

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .