رأس المال وتمويل التنمية.. كيف ومن أين؟ - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 4:44 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رأس المال وتمويل التنمية.. كيف ومن أين؟

نشر فى : الجمعة 8 ديسمبر 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : الجمعة 8 ديسمبر 2023 - 8:15 م
لقد خُضنا عُباب الفكر التنموى على صفحات «الشروق» مرارا وتكرارا خلال الفترات الأخيرة، وكان لنا من الاجتهاد نصيب، قلّ أو كثر، وكانت لنا من ذلك خلاصات عدة سردناها منفردة فى حينها. ذلك على طيف عريض يمتد فى تسلسل منتظم أو غير منتظم عبر متصل مترابط Continium فى أحيان عدة. تناولنا قضايا كالفقر، والتحول فى الهياكل الاقتصادية، وغيرها عديد. واليوم نجد أنفسنا أمام قضية أخرى، مرتبطة بعروة وثقى مع ما سبق، ضمن نفس الموضوع (التنمية وخاصة التنمية الاقتصادية) كيما يكون لطلبة الدراسات العليا فى الاقتصاد والاجتماع، وأبحاث التنمية، مرجعٌ سهل الفهم والهضم نسبيا، وهى من أهم ما تواجهه بلداننا السائرة على طريق النمو.
قضية اليوم تتعلق بتمويل التنمية، باللغة الأكاديمية الجافة، أو بموضوع «رأس المال» والتراكم (الرأسمالى) باللغة (شبه العقائدية) الجارية، وإن رأس المال موضوع (طويل، عريض) كما يقولون، ولا نقصد هنا ما تلوكه الألسن، عن رأس المال باعتباره أحد عوامل الإنتاج شأنه شأن «الأرض أو الطبيعة» والتنظيم... إلخ. وإنما نقصد رأس المال كقوة منتجة، تتوسل بالفهم والعلم لتحقيق ناتج يقدم ما ينفع الناس، إنتاجا واستهلاكا على وجه الخصوص.
ومن بعد ما تم تناوله حول مصطلح رأس المال فى فجر الفكر الاقتصادى الحديث، وضحاه، فإن من رأينا أن المفكر الألمانى (كارل ماركس 1818 ــ 1883) هو أبرز وأهم من عالج المصطلح معالجة وافية شافية، قائمة على قدم وساق، وممتدة الفروع إلى عنان السماء.
إنه المفكر الاشتراكى الأبرز، ومؤلف كتاب (رأس المال) فى مجلدات وأجزاء متتابعة، حتى المجلد الأخير (نقد الاقتصاد السياسى) وتبعه كُثر يكوّنون مدرسة فكرية قائمة بذاتها.
وإن كان كارل ماركس، وهو من هو، قد قام بتعرية النظام الاقتصادى ــ الاجتماعى الرأسمالى، وأبقى على جوهره، القائم على فكرة «فائض القيمة» الذى ينتزعه صاحب رأس المال من قيمة السلعة، فى حين أنه من حق العامل المنتج المشتغل مولّد الدخل الحقيقى. ومن رأيه أن انتزاع شطر أعظم من قيمة المنتج، لهو الاستغلال بعينه، استغلال لصاحب رأس المال الصاحب العمل المأجور، وإن اختلفت أشكاله ونتائجه عبر الزمن. يتكون رأس المال عنده، من فائض القيمة ذاك، المتراكم، ليولد الناتج الاجتماعى، عبر عملية «التراكم»، تراكم فائض القيمة المنتزع الذى يصير بمثابة «رأسمال».
لقد طرأت تغيرات متتالية على الفكر المسمّى بالاشتراكى ــ الماركسى، ولكن جوهرها باق لا يريم، وهو ضرورة توجيه فائض القيمة لأعمال التنمية، تنمية قاعدة رأس المال المنتجة على كل حال.
ومن الشجرة التى زرع بذرتها كارل ماركس وأعوانه، مع مدارس فكرية متنوعة أخرى، نشأت روافد فكرية ذات مشارب متباينة، تضمها عناوين مختلفة، منها ما ازدهر فى أواسط وأواخر القرن العشرين المنصرم، يقال لها «الماركسية الشابة» أو الجديدة، وظلت تنشر ثمارها اليانعة حتى الخمسينيات فالستينيات والسبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن العشرين.
ومن ذلك فرع فكرى بديع، أنتج مؤلفات ذات أثر بعيد فى العمق الثقافى الحقيقى، وإن لم ينتشر ذلك الانتشار المشهود، على غرار ما يسمى بالفكر الكينزى القائم على إصلاحات الرفاهة الاجتماعية، وما يسمى «الليبرالية الجديدة» والتى هى على عكس الكينزية، تتحيز لأصحاب رأس المال وصناع الاحتكارات ومصادرة القيمة المنتجة لصالح أنصار رأس المال الكبير، دون نظر متكافئ للقوة البشرية المنتجة، حتى عصر «العلم والتكنولوجيا» و«الابتكارات» وما إليها. من ذلك أيضا كتاب المفكر الاشتراكى الأمريكى «بول باران»،«الاقتصاد السياسى للنمو» Political Economy of Growth.
وكذا الكتاب المشترك لبول باران وبول سويزى الأمريكيين «رأس المال الاحتكارى» Monopoly Capital، وكتاب المفكر الفرنسى الكبير شارل بتلهايم «التخطيط للتنمية».
ويتفق هؤلاء الثلاثة على أن فكرة فائض القيمة، تمتد بأغصانها الوارفة، لتقيم أود فكرة مرتبطة هى «الفائض الاقتصادى» Economic Surplus. هذا الفائض الاقتصادى فى عُرف باران وسويزى وبتلهايم هو ذلك الجزء من الناتج الذى يتبقى بعد إشباع (الحاجات الأساسية) للمنتجين. وإن هذا الفائض يُوجه ــ كما ينبغى ــ لأغراض التنمية المنتجة. وإن القوى العاملة المنتجة هى قاعدة العمل الاقتصادى ـــ الاجتماعى الحقيقى، وما ندعوه بالتنمية الشاملة فى أوقاتنا هذه.
ومن أجود وأبرع ما جادت به قريحة (باران وسويزى) فى كتابهما المشترك (رأس المال الاحتكارى) أن الطبقة الرأسمالية المالكة، تعظّم الفائض، ثم هى بعد أن تعظم الفائض تعمل على تبديده فى مسارب شتى بعيدا عن تنمية القوى المنتجة الحقيقية، وخاصة الأنشطة القائمة على البحوث العلمية والتطويرات الإنتاجية.
أشكال تبديد الفائض فى النظام الرأسمالى عديدة، من أبرزها نفقات التسلح والعسكرة والحرب، ونفقات الإعلانات التى تمتص جزءا غير يسير من الفائض لمجرد تيسير عملية البيع والشراء، إلى غير ذلك من الأنشطة الهامشية التى لا تضيف للناتج الاجتماعى وقاعدته الإنتاجية الصلبة والناعمة، بقدر ما تضيف لأرصدة طبقة المحتكرين المتحكمين فى كل من رأس المال ونواتجه.
ذلك إذن هو الينبوع الذى لا ينضب للفائض الاقتصادى، المتمظهر ماليا ونقديا، والموجه من ثم لأعمال التنمية الحقّة، غير المبددة، وغير المشوهة، بعيدا عن التسلح والحروب والإعلانات، كما أسلفنا. ومن أهم أدوات تعبئة الفائض الاقتصادى هنا أداة الضريبة وخاصة «الضرائب التصاعدية». ومن أعمال التنمية الحقّة، غير المشوهة وغير المبددة، أعمال البحث العلمى الأساسى والتطبيقى والتطوير التكنولوجى، بما فيه أعمال التطوير التجريبى وبناء أنساق ما يسمى حاليا بالذكاء الاصطناعى الابتكارى وإعمال «الروبوت» و«الآلية» Automation.
على أن يفهم من كل ذلك أنها أعمال لخدمة الترقية الجسدية والذهنية للإنسان ليكون إنسانا أرقى كأنه السوبر مان..!!
ولكن كيف ذلك؟ غير أن هذا حديث آخر.
محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات