دخان فى دخان - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 5:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دخان فى دخان

نشر فى : الخميس 8 نوفمبر 2012 - 8:40 ص | آخر تحديث : الخميس 8 نوفمبر 2012 - 8:40 ص

(1)

 

تفاقم الذعر العام فى مصر من أنفلونزا الطيور فى شهر فبراير منذ خمس سنوات. ومع أن الندوة التى كنت أحضرها فى إحدى قاعات فندق الواحة بطريق القاهرة الاسكندرية الصحراوى كانت عن «العلاج بالتصور الإبداعى» وكانت مرتبة سلفا قبل أن تبرز على السطح هذه الحمى الوافدة، إلا أن الندوة تحولت إلى سجال عن الوباء المُنتظَر بعد أن وجهت سيدة جميلة من الحضور سؤالا عما إذا كان «التصور الإبداعى» يمكن أن يساهم فى الوقاية من العدوى بهذه الحمى أم لا!

 

كانت الإجابة اجتهادية وغير قاطعة، وانفرط عقد الندوة فتحوَّلَتْ إلى تفريغ لحالة الهلع الجماعى بتبادل الطمأنات والمخاوف، وتسللتُ مع أحد الأصدقاء منصرفين من القاعة ومُغادرين الفندق، وما إن خرجنا إلى الطريق الذى كان خاليا فى نحو الثانية ظهرا، حتى توقفنا كأنما بالتخاطر، مقررين أن نستمتع ببعض التمشِّى فى دفء شمسٍ شتويةٍ عطوف، بدت صغيرة جدا فى السماء الغائمة، ولطيفة على الأرض.

 

بعد أن تمشينا كفاية فى اتجاه ميدان الرماية بدأنا فى استيقاف تاكسى، وبعد محاولات فاشلة اكتشفنا أننا ينبغى أن نغير قواعد الانتقاء، فقد كنا لا نستوقف غير السيارات التى تبدو جيدة، وكان سائقوها ما إن نتفوه بوجهتينا «ميدان المساحة وبعده الزمالك» حتى يشوِّح السائق بيده ويطير مبتعدا. فانتبهنا إلى أن هذه ساعة ذروة مرورية وأن مَقْصَدَينا يُعتبَران من أحكم مصايد الزحام فى هذه الساعة التى تتوافق مع خروج عشرات المدارس المتكاثرة فيهما، وأدركنا أنه لن يلتقطنا إلا سائق بائس فى تاكسى يشبهه فى البؤس.

 

 وجدنا نفسينا أخيرا داخل هيكل رميم لسيارة لم يكن فيها من كيان السيارات غير هدير أجش لموتور متحشرج، أما السائق فكان بتعبير يكاد يكون حرفيا «مومياء حية» فى أسمال بالية، وقد تمليته عن قرب وأنا أجلس إلى جواره على المقعد الأمامى بينما جلس صديقى على المقعد الخلفى. ولم تكن هذه مقاعد سيارة بأى معنى، فقد كانت «دِكَك» خشبية واطئة من ذلك النوع المتواضع المنتشر فى غُرز ومقاهى القرى والعشوائيات، وكانت مغطاة بقطع من أكلمة قطنية بالية متسخة.

 

 كان الرجل شديد النحافة رث الثياب بدرجة مؤلمة، غامق البشرة بدُكنة ترابية معتمة مشوبة باخضرار قاتم، مما يشى بأنه كان معطوب الكبد تماما وكذلك الكليتين، وكانت عيناه الغائرتان توحيان بأنه أقرب ما يكون من الموت فى أى لحظة، وقد ملأنى هذا بالقلق بينما كانت «السيارة» المضعضعة تقرقع وتتقافز وتنحرف بحدة فى الطريق الذى كان مُهمَلا سيئ الرصف. وحتى أتغلب على قلقى استدرت لمحادثة صديقى فى الخلف.

 

استدرجَنا الحديث إلى «سيناريوهات الكارثة» فى ضوء ما كان منتشرا من إشاعات عن تحوُّر الفيروس واحتمال تحول الوباء إلى جائحة بشرية، حيث ستتراكم الجثث فى الشوارع لأنها ستكون من الكثرة بحيث يتعذر تدبير من يدفنها، لأن جموع الناس ستفر بعيدا عن المدن، وعندما يشمل الفرار العاملين فى المستشفيات والخدمة المدنية والشرطة لن تكون هناك فرصة لإنقاذ أى مصاب بالوباء، وستنقطع المياه والكهرباء ولن تجد الحرائق من يطفئها، ومع انحسار الوباء الذى يفقد فيروسه ضراوته مع ارتفاع درجة الحرارة فى الربيع، ستخضر الأشجار فى مدن خالية من البشر لا تُحلِّق فى سمائها سوى الغربان، ولا تجوب شوارعها غير الكلاب الضالة والجرذان التى ستتوحش متضخمة بوفرة الغذاء المتاح لها من جثث البشر والطيور!

 

 كنا قد وصلنا فى تلك التسرية السوداء إلى مرحلة احتمال أن تنتشر الجائحة عبر القارات وتعصف بالعالم كله، فتنقرض البشرية ويُقفِر كوكب الأرض، ولم ننتبه إلا والسيارة تهدئ من سرعتها وتحيد محاذية الرصيف ثم تتوقف، وبملامح ميت يستيقظ من موته التفت السائق نحونا سائلا فيما يشبه الرجاء «اللى بتقولوه دا صحيح يا أساتذة.. يعنى الدنيا خلاص؟». وسمعت صوتى يجيبه نابسا بوجل «ممكن.احتمال». وإذا بالرجل يستقيم فى جلسته ويرفع يديه ووجهه متضرعا بحرقة «ياريت. يارب. يارب».

 

 عادت السيارة إلى الحركة فيما التزمتُ أنا وصديقى الصمت، بينما كان الرجل يتمتم فى خفوت «خلينا نرتاح بقى. خلينا نرتاح» رددها أكثر من مرة ثم انضم بسكوته لسكوتنا. لكن ما أن دخلنا ميدان الرماية حتى ندت عنِّى وعن صديقى صيحة عدم تصديق مشتركة لما نراه أمامنا: «مش معقول»!

 

 كان الميدان يضطرب بحشود من البشر لابسى كمامات مختلفة، بعضها مجرد مزق من قماش الملابس القديمة، يحملون دواجن ميتة أو مُحتضِرة ويتجهون بها مسرعين إلى فضاء ملاعب الجولف التابعة لفندق «أوبروى» فى سفح الهرم الأكبر. وكان الميدان يموج بأسراب من الدجاج والبط والأوز الطليقة كلها والمتخبطة فى حركتها. وفهمنا أن الناس الهلعين قد أتوا بدواجنهم من المناطق العشوائية والريفية القريبة ليتخلصوا منها فى المكان الفاخر الذى لم يكن يعنى لهم فى هذه الفوضى غير مجرد أرض فضاء متسعة.

 

 تحول محيط الفندق التاريخى وسفح الهرم الأكبر إلى مكب للطيور المُنذِرة بالوباء، وكانت الدواجن التى لم تفقد عافيتها تتسرب خارجة من هذا المكب وتفيض على الميدان فى هياج وتلاطُم. وعندما مرَّ سرب من أوز شارد أمامنا فوجئنا بالسيارة تتوقف، وإذا بالسائق المومياء قد دبت فيه عافية بارقة فهبط من السيارة وراح يطارد الأوز الذى يفر أمامه مرفرفا صائحا، ثم ارتمى الرجل على أقرب وزة، ونهض بها أسيرة فى حضنه!

 

 تابعناه بانشداه وهو يستدير بهمة ويضع الوزة فى شنطة السيارة، ثم ركب وحرك بأصابعه العظمية المسودة عصا الفتيس لننطلق، فيما راح يتحدث ضاحكا دون أن يلتفت كأنه عاد يكلم نفسه: « بقالى اربعين سنة مادُقتش الوز. نعملها مشوية فى الفرن والنار بتموِّت أجدعها مرض. نتبسط شوية فى عمرنا وآهو احنا ميتين ميتين»، وكان انشراحه لا يتناسب مع ضحكته الميكانيكة التى كسَّرت الجلد المعتم اليابس حول فمه وتحت عينيه. ضحكة ميت حى !

 

(2)

 

   فى شارع الهرم ونحن نتجه صوب ميدان الجيزة التفت إلينا السائق ببسمة أرادها متوددة برغم تهشمها. وسمعناه يستأذن «لا مؤاخذه يا أساتذة أوصَّل الأمانة وهيه صاحية»، وانعطف إلى شارع ضيق يوغل فى تلافيف «العمرانية». ومع تقافز السيارة المتهالكة ووعورة الطرق الترابية أخذت الأبراج السكنية المتلاصقة فجة الألوان تظهر بين كومات الزبالة وبرك مياه الصرف الطافحة. بعدها توالت البيوت التى راحت تتضاءل وتقصر حتى صرنا بين ركام مساكن أقرب إلى العشش وإن كانت مبنية بالطوب ومن طابقين وأحيانا ثلاثة، يحف بها ما تبقى من أرض زراعية تظهر فى جنوبها الغربى أطياف الأهرام الثلاثة، وتحت أحد البيوت العشش توقفت السيارة، ونزل السائق فأخرج الوزة التى شرعت فى الصياح بضجة ملفتة تفتحت لها النوافذ المتقاربة والشرفات التى تشبه علبا معلقة يكاد يلامس بعضها بعضا . ومن شرفة البيت الذى توقفنا تحته أطلت فتاة مفاجئة الجمال بعينين خضراوين واسعتين شاردتين فى حنو. ثم غابت داخلة فيما بدا السائق يصعد إليها بالوزة الصادحة.

 

 كنا قد نزلنا من السيارة نتأمل المكان متعجبين من كمية البشر الذين أطلوا من الشرفات والنوافذ وكان بعضهم يتدفق من الأبواب الضئيلة فى فضول. رجال وشبان وصبية متعطلون اقترب واحد منهم يرتدى بيجامة كالحة وينتعل شبشب بلاستيك متشقق ويدخن عقب سيجارة. ودون أن نسأله بادرنا: «أصل موميا بيحب بنته قوى وهيا كفيفة ومالهاش غيره». «موميا؟» نطقناها أنا وصديقى فى لحظة اندهاش واحدة، واستطرد المتطفل: «آه موميا. أصله مات فعلا لكن فى خرجته من البيت سمع صويت بنته قام منفوض وخرج من الكفن». ولم يكمل محدثنا إذ اختفى فور أن أحس بالسائق يهبط إلينا لنخرج إلى الدنيا، شارع الهرم من جديد.

 

(3)

 

   لم أنس «سيد موميا» ابدا، بل سعيت لمعاينة أسطورة وجوده «على الواقع» لكننى تهت فى تلافيف قاع العمرانية أكثر من مرة حتى زهدت فى السعى. لكن فى اليوم الثانى من انتخابات مجلس الشعب الأخيرة فوجئت بسيارته التى يصعب نسيانها وهى تحمل شعار أحد الأحزاب «الدينية» وتمضى فى جلبة بشارع فيصل مكتظة بسيدات بسيطات وضح أنه ينقلهن إلى دوائرهن الانتخابية للتصويت مخافة الغرامة. وكان الميكروفون الذى تحمله السيارة يذيع صراخا أجشا لرجل يخطب ووراءه أصوات تهتف «علِّم علِّم ع الإسلام». ولما كانت السيارة مبطئة فقد حاذيت نافذة سائقها الذى ازداد جفاف وإعتام جلده، وكان يدخن فى نهم سيجارة معلوكة وملتوية، ووجدتنى أمازحه «الله ؟! وبتدخن ياعم سيد»، ومد رأسه هامسا وهو يغمز بإحدى عينيه «سبوبة، وآهو كله دخان فى دخان». ولاحظت أن جفن عينه الغامزة انطبق متشنجا، فسارع يرفعه بأصابعه، وخطر لى أن الجفن من فرط ترققه وجفافه يمكن أن يتفتت وينتثر غبارا.

 

(4)

 

  يلح علىَّ مع نهاية هذه القصة، وبحكم التداعى، ذِكر محتوى بضعة أسطر من كتاب هانا هولمز «الحياة الخفية للغبار»، تفيد بأن كثيرا من السفن المتجهة إلى أمريكا فى القرن 18 كانت تهرِّب فى قيعانها أكداسا من مومياوات قدماء المصريين، لتُطحن وتُباع كإكسير سحرى لاستعادة الشباب، واكتساب القوة الخارقة!

 

 

 

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .