حتى لا نجرى بظهورنا - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 5:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حتى لا نجرى بظهورنا

نشر فى : الأربعاء 8 يوليه 2009 - 8:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 8 يوليه 2009 - 8:20 م

 فى طفولتى كنت أضحك بشدة على مشهد إسماعيل ياسين وهو فى الغابة يجرى بظهره فى فيلم إسماعيل ياسين طرزان، ومكثت أضحك برغم مرور السنين كلما شاهدت هذا الجرى بالظهر والذى كان يتم بحيلة إخراجية بسيطة للغاية هى جعل الشريط السينمائى يدور إلى الخلف فى النسخة السالبة. ولم يكن اكتشاف هذه الحيلة هو الذى جعل ضحكى يتراجع، أو على الأقل لم يعد ضحكا بهذا الصفاء الطفولى، بل صار ضحكا كالبكاء، لاكتشافى أن الجرى بالظهر يمكن أن يكون حقيقة، حقيقة بيئية كما هى حقيقة اجتماعية وسياسية، وثمة واقعة تاريخية شهيرة أثارت دهشتى فلم أنسها فى هذا الشأن برغم قراءتى لها منذ سنين.

فالرحالة «بارى»، أحد رواد استكشاف القطب الشمالى، وفى يوم من أيام سنة 1820، ظل يتقدم نحو القطب الشمالى، حاثًّا كلاب زحافته على الركض بأقصى سرعتها حتى يكون أول من يكتشف هذا المجهول الجليدى الناصع، وأول من يصل إليه من البشر. وبعد الاندفاع المحموم على مدار يوم كامل، ومع حلول الليل، اكتشف بارى أنه كان يتحرك طوال الوقت فى الاتجاه الخطأ، فقد كان يجرى على قطعة هائلة الضخامة من الجليد يجرفها تيار المحيط الأطلسى نحو الجنوب، وبسرعة تفوق أضعاف السرعة التى كانت الكلاب تجُرُّ بها زحافته نحو الشمال، فكان فى واقع الأمر يتقدم إلى الخلف بسرعة، مبتعدا عن هدفه!

هذه الحكاية تراودنى كثيرا وأنا أتأمل أحوال معظم وليس كل الخطاب المعارض فى مصر، فثمة صراخ عارم، صادق الانفعال وأصيل الغضب، فالواقع لا يسرُّ أحدا ولا يرضى عنه من يمتلك ذرة من حس وصدق، لكن، هل يمكننا القبول بأن نخرج من حفرة لنقع فى دحديره كما يقول المثل العامى؟ هل نبذل كل هذا الانفعال لنجد أنفسنا متقهقرين إلى الخلف بينما نتصور أننا متقدمون إلى الأمام؟

هل نقبل أن يصل بنا الاكتفاء بالصراخ إلى تحريك كتلة عمياء ضخمة لتكون جائحة جراد تلتهم كل ما يصادفها دون وعى، ثم نُباغَت بأن هذه الكتلة يستوعبها ويجيشها فى النهاية إما خطاب متعصب يغرى باسم الدين ويضمر فى داخله الاستبداد وضيق الأفق ولن يثمر أبدا غير فُرقة الأمة والقهر والعنف دون أى تقدم حقيقى، وإما إكراه مراوغ لأى جهة تمتلك سلاح الدعاية وأدوات القهر وتفتقد خيار مدنية الحياة، وهى أيضا لن تتحرك بنا إلاّ إلى الخلف، كما أن استطالة الهياج المحتمل لن تُفضى إلاّ إلى عشوائية تخنق بحطامها ومخلفاتها بقايا الأمل.

بين هذه جميعا، لا أحد يتصور أن تظل الأمور كما هى عليه، ولا حتى أن تمد عمرها بتوريث لا يقبله عقل ولا يحتمله واقع، ولا يملك حتى مقومات إغراء عشرات الملايين أو رشوتهم لتمرير هذا الامتداد.

غضب غضب غضب، غضب يكفى لإشعال نار هائلة لكنه لا يُطفئ ظمأ شجرة واحدة تُسائل الأرض والسماء أن تمد جذورها وتصعد لتثمر فى المستقبل. المستقبل، هذا هو السؤال الغائب فى خضم كل هذا الصراخ.

مصر فى حاجة لتفكير مُستبصِر لا يُفلِت حبل نجاة المستقبل، أو بعض المستقبل، برغم حاضر شبه الغرق الذى نعيشه، والمستقبل يستحيل أن يكون تقدما للأمام إلا بتفكير علمى وعقلانى وحر وجذرى فى التغيير. مستقبل لا يتم تجييره للتعصب الدينى أو الفتونة المسلحة أو جعجعة الأبواق أو فوضى العشوائية.

هذه المعانى كلها خلص إليها قلائل من مفكرى مصر، ومن بينهم واحد من أكثر المصريين إخلاصا لأمته، وبطل قومى فى كل ما أنجزه وبادر إليه، ابتداء من مأثرة مركز الكلى عالمى المستوى الذى أسسه فى المنصورة، وحتى تطوعه النبيل والشجاع لإغاثة ضحايا محرقة غزة، تحت القصف الإسرائيلى الدموى والهمجى وفاجر الوحشية، ثم رؤيته الثاقبة والفاصلة بعد عودته من غزة والتى لم تجعله ينسحق أمام الخطاب العقائدى لحماس، أو حتى يجامله بما لا يقتنع به، برغم انصهاره مع بطلولة وتضحيات المقاتلين والناس العاديين فى هذه الملحمة، بل صاغ رؤيته الناقدة بأكبر قدر من رهافة التقدير وجمال التحفظ.

لقد كان مستبصرا فى كل مسيرته الطبية العلمية والاجتماعية والسياسية بلا أى ادعاء سياسى، لهذا استطاع أن يمد بصيرته إلى المستقبل.

المستبصر الذى أعنيه طبيب وعالم كان ولا يزال استثناء عجيبا فى القدرة على الغنى بالاستغناء، يعيش ببساطة وجرأة ونظافة حقيقية، رأسه مرفوع وضميره مستريح وكبرياؤه متأهبة لرد غوائل الصفاقة والاستكبار، برغم أنه عظيم الحياء فى الجوهر ورائع التعفف فى المظهر. إنه الدكتور محمد غنيم، أما آخر تجليات بصيرته فهو برنامج الإنقاذ الذى كتبه لمصر 2025، مركزا على قضايا تطوير وتفعيل الدستور والعدالة والقانون والتعليم والصحة والمياه والطاقة.

برنامج أتمنى أن يكون قاعدة نقاش لإنقاذ المستقبل، المستقبل الذى يبدأ الآن، وأخشى أن نضيعه أيضا ونحن نجرى صارخين، على قطعة أرض تنزلق بنا إلى الخلف، بينما نتوهم أننا نندفع إلى الأمام. وأى أمام هذا الذى يمكن أن تتغير فيه السلطة، ولو بحكم الزمن، وتجد السلطة الجديدة نفسها فى مواجهة ما لا يمكن إدارته ولو بالحكم الرشيد، فالحكم الرشيد يمكن أن يحسن إدارة موارد موجودة بالفعل، أما أن تكون هناك بيئة مستنزفة، ونهر أتلفه التلوث، أو أرض تم تبويرها، أو بحر زحف على اليابسة، أو كتلة سكانية هائلة تم تجهيلها وطمس بصيرتها بإعلام غوغائى فارغ، وتعليم مُخرَّب ومُخرِّب، . هذه كلها قضايا لابد أن تشغلنا جميعا، خاصة من يعتبرون أنفسهم معارضة، أو حتى مجرد طالبى إصلاح، بل حتى حسنى النوايا ومن بقيت لديهم ذرة من ضمير فى الحكم الحالى، أو حتى حس عاطفى تجاه اولادهم أو أحفادهم.

المستقبل لا ينبغى أن يكون الفريضة الغائبة فى حومة الحاضر، وإلا استحققنا لعنات أولادنا وأولاد أولادنا. هذا إن أبقى لنا ما نحن فيه فرصة ليكون لنا أولاد أولاد!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .