الامتنان مخدر لونه زهري - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 1:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الامتنان مخدر لونه زهري

نشر فى : الأربعاء 8 يونيو 2022 - 8:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 8 يونيو 2022 - 8:00 م

تفرض الحياة أحيانا بدايات جديدة، تفتح طرقا وأفقا لم تكن بالحسبان. قد يكون ذلك بسبب أحداث صعبة أو مواقف شديدة تجبر أحدنا أن يركز كل طاقته فى محاولة تجاوزها ثم ينظر خلفه فى محاولة فهم ما حدث وماذا تعلم. ليست كل النهايات سعيدة ولا كل الصعوبات يمكن تجاوزها، إنما فى حال خفت الشدة، يكون الشعور الطاغى هو شعور بالامتنان.
• • •
هكذا إذا بإمكان أحدنا أن يشعر أنه بدأ حياته من جديد، أو بالأحرى أن حياة جديدة كتبت له. يشق النور ظلمة الروح ويفتح فى القلب طريقا يتسلل إليه الأصدقاء ممن يمسكون بيدى خلال الرحلة. كانت الشهور الماضية رحلة فعلا بالنسبة لى، وها أنا أقف اليوم فى الشمس وأشكر العالم ومن حولى على نعمتى الدفء والنور، بعد خروجى من نفق بارد وموحش. هل تذكرون لعبة كنا نلعبها فى الصغر حين تقف «سلوى» وسط أصدقائها وهم يغنون «سلوى يا سلوى ليش عم تبكى؟» أنا أيضا وقفت فى دائرة أحكم فيها من أحب أيديهم حولى فى طوق يحمينى من العالم الخارجى. فى الأغنية يسأل الأصدقاء سلوى عما تريد فتجيب أنها تريد صديقة.
• • •
اليوم فتح أصدقائى الطوق الذى حاصرنى فى الشهور الأخيرة وها أنا أخرج منه إلى الحياة كما عهدتها فى السابق. الأيام تبدو لى أطول حين أتمرغ بدقائقها بدل أن أسابقها. الصباح أكثر وضوحا، صوت الموسيقى فى بيتى أكثر مرحا وأيضا أكثر شجنا، التغييرات فى وجه وجسد ابنى الأكبر أكثر جذبا لاهتمامى: متى أصبح شابا؟ ها هو الألبوم الرقمى على هاتفى يذكرنى بصور منذ عامين أو ثلاثة يظهر فيها ابنى وهو طفل. فى الأسابيع الأخيرة تقرب منى ابنى الأكبر وصار يمضى دقائقه الأخيرة قبل النوم فى غرفتى كل مساء يتحدث معى ويسألنى عن أمور متعددة. فهمت فيما بعد أنه أدرك فى مكان ما داخله أن ثمة ما يشغلنى فأثار ذلك قلقه. أظن أنه كان يريد أن يتأكد أننى، أمه، كما أنا، كما يعرفها.
• • •
فى الشهور الأخيرة تعاملت مع وعكة صحية أجبرتنى أن أركز على ما أريده: أن أشفى تماما وأبقى حاضرة مع عائلتى. اليوم أظن أننى وصلت إلى اليابسة، وصرت أرى الماء من خلفى. أقف فى الشمس أمسك بيد ابنتى وأؤكد لها أننى أعود دوما من السفر. يقال أن الأطفال يشعرون بما يمر به الأهل حتى لو حاولنا إخفاء الصعوبات. يبدو أننى ومع انشغالى بنفسى قد أرسلت لأطفالى ذبذبات من قلقى.
• • •
أنا تساءلت كثيرا فى الشهور الماضية عن الرحيل، ثم سرعان ما أكدت لنفسى أننى أعود. تساءلت عما يحدث حين يرحل شخص أحبه، ثم أقنعت نفسى أننى باقية. للكون قدرة عجيبة على توزيع الحظ والأمل والقدرة على التمسك بالبقاء. اليوم، ومع شعورى العميق بالامتنان للكون، فهمت أن لعبة «سلوى يا سلوى ليش عم تبكى» هى لعبة الحياة دوما: نتلقى صفعة فيمسكنا الأصدقاء حتى لا نقع. طوق من الكلمات والدفء يشبه «الكوشة» التى تحيط بعروس يوم عرسها. ألوان وكلمات أغانى تزيح عنى غيمة قاتمة فتطل الشمس ويفتح أصدقائى الطوق لأعود إلى الحياة فى الشمس.
• • •
هنا، حيث أجلس كل صباح، أمامى شباك تطل منه شجرة رافقتنى فى الشهور الأخيرة، رأيتها تذرف أوراقها المصفرة فى الخريف كما ذرفت دموعى فى الفترة ذاتها بعيدا عن عيون باقى الأسرة. فى الشتاء تجردت الشجرة تماما من مظاهر الحياة كما انغلقت أنا على نفسى ريثما أحاول أن أتعافى. مع بداية الربيع رأيت أوراقا صغيرة تنبت وكأنها تغنى فسمعتها وأنا أعود لنفسى ولأسرتى. وها هى الشجرة فى كامل صحتها تحت شمس الصيف تقف أمامى بزهاء. أهلا يا شجرة!
• • •
إن استرجعت شهورى الأخيرة بحسب المشاعر التى مررت بها يمكننى أن أصنفها كالتالى:
فى البدء كان الخوف: ذلك الشعور الخانق الذى يضغط على رقبتى خصوصا بعد أن ينام كل من فى البيت وأبقى أنا فى كامل وعيى أتساءل «ماذا لو؟»
ثم القلق: أمام المجهول، رغم كل الاحترازات الممكنة، هل سيطفئ أحدهم النور على عالمى؟
فالتردد: هو نسخة أكثر تواضعا منى، وتنازل عن حسم وحتمية كانت تحدد تعاملى مع كل شىء.
وبعده دخل الأمل: محرك الحياة والوجه الآخر للقلق، فكما هو القلق من المجهول، الأمل هو أمل فى أن يكون المجهول رحيما.
صاحبه الاطمئنان: هو أن أراجع تفاصيل علمية تؤكد لى أننى بخير.
ثم عاد التساؤل: هل فعلا انتهت الأزمة أم ستعود؟
فالتأكيد: هى انتهت، هكذا يقول العلم.
على إذا أن أصدق.
أخيرا الامتنان: هو كمخدر لونه زهرى، صبغة تجتاح جسدى حتى تكاد تنقط من أطراف أصابعى.
امتنان لعناية إلهية رعتنى، ولعائلة وأصدقاء شكلوا شبكة أمان. سلوى أو تمارا التى كانت تبكى فى الدائرة تضحك الآن خارجها.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات