نحو تطهير مناهجنا المعاصرة من التحيز - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 11:19 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحو تطهير مناهجنا المعاصرة من التحيز

نشر فى : الإثنين 8 يناير 2024 - 6:40 م | آخر تحديث : الإثنين 8 يناير 2024 - 6:40 م

ما عدت أذكر كيف كانت حال بلاد العرب قبل ظهور الدعوات المتكررة لتطهير الأثر والروايات التاريخية من الخرافات والإسرائيليات الموضوعة على العقيدة والدين منذ مئات السنين. لكننى أعجب لمناهج التعليم فى زمننا المعاصر، وتلك الكتب والمقررات التى تفرض على طلاب المراحل التأسيسية فى التعليم، دون حرص حقيقى على تدقيق محتواها، وتصحيح ما غصت به من معلومات خاطئة ومضللة، أو فى القليل غير محدثة.
• • •
التحدى الحقيقى الذى يواجهنى كأب لفتاة متفوقة فى المرحلة الإعدادية، هو ما تداهمنى به من أسئلة عن الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا واللغة العربية والدين.. إلى آخر مقررات الوزارة التى يتعين على طلاب الأنظمة البريطانية والأمريكية دراستها إلى جانب مقرراتهم الوافدة من الخارج. ماذا عساى أجيب عن استفسار لها عن تصنيف يضعه منهج الدراسات الاجتماعية (كانت تسمى المواد الاجتماعية على عهدنا) للدول «ذات الاقتصاد الزراعى المنخفض»! ثم يذكر كمثال على تلك الدول باكستان والكونغو، دون إيضاح لطبيعة وفلسفة هذا التصنيف؟، هل المقصود أن اقتصاد تلك الدول صغير أم أن العائد على النشاط الاقتصادى فيها هو المنخفض؟! ثم تأتى بعض التمارين المتداولة لتضع أمام الطلاب عددا من الاختيارات، أحدها يصنف فى عداد تلك الدول، فماذا كانت الاختيارات المتاحة أمامهم؟ الهند وجنوب أفريقيا وفرنسا والصين! والملفت أن كل الخيارات لدول فى مجموعة العشرين! أى إن اقتصادات هذه الدول جميعا تصنف ضمن أكبر عشرين ناتج إجمالى فى العالم، فماذا تكون الإجابة؟!
أغلب الظن أن واضعى المقرر مازالوا يعتبرون الصين دولة متوسطة الدخل، ويحسبون أن الهند دولة زراعية، وأن جنوب أفريقيا دولة تعانى من التقسيم والتمييز العرقى والفر.. وكلها معلومات قديمة لم يعد لها أى وجود فى واقعنا المعاصر. الصين أصبحت ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، والهند تنازعها تلك المرتبة، فلم يعد الناتج الزراعى يمثل أكثر من 15% من الاقتصاد الهندى لصالح الخدمات والصناعة، وجنوب أفريقيا هى الدولة صاحبة أكبر اقتصاد فى قارة أفريقيا، ولديها الكثير من مقومات التطور التقنى والصناعى.
الأزمة هنا تتجلى فى ضرورة التزام الطلاب بما يقرره المنهج الدراسى، وليس ثمة مساحة للتحليل وتعليل الطالب على إجابته بأن أيا من تلك الخيارات لا يمكن تصنيفه ضمن تلك الفئة. ليست هذه المرة الأولى التى يعترضنى فيها أسئلة من هذا النوع من ابنتى وأخيها الأكبر، ظاهرها اليسر وباطنها صعوبة بالغة فى فهم المنهج وما يتضمنه من دروس مستفادة. قبل أشهر قليلة أذكر وصفا تفصيليا لمعركة مؤتة، أو (غزوة مؤتة)، اعترض لى فى مقررات الأبناء، يختلف تماما عما نقلته لنا كتب التاريخ ذات المصداقية. ملخص المعركة كما نقلتها مقررات الوزارة أن المسلمين انتصروا وهزموا الروم هزيمة نكراء! بينما العبرة الحقيقية المعلومة للكثيرين أن تلك المعركة انتهت بحقن دماء ثلة من المسلمين، بعد انسحاب منظم لهم بقيادة خالد بن الوليد، الذى انتقلت إليه راية القيادة على أثر استشهاد ثلاثة ولاهم الرسول (ص) على الترتيب. لم أعرف كيف أساهم بالقليل فى مساعدة ولدى على شرح وتحليل معلومات بسيطة تعيها ذاكرتى وتؤكدها المراجع الموثوقة، لكن تخالفها مقررات وزارة التعليم، دون ترك مساحة ولو بسيطة لتغذية العقلية الناقدة بطرح أكثر من رواية للحدث الواحد! كيف أزرع النفاق فيهما دون قصد، إذ أخبرهما فى الإجابة عن كل سؤال، أن هذا هو التاريخ الصحيح، لكن ذلك ما عليكما حفظه حتى انتهاء موسم الامتحانات!
• • •
الأمثلة كثيرة فى مختلف المقررات، ولا تستدعيها ذاكرتى الآن. ما أذكره جيدا، أن مختلف نكباتنا وهزائمنا التاريخية دائما ما يتم التعامل معها بطريقتين: إما تغيير الوقائع التاريخية وتحويل الهزيمة إلى نصر! أو تبرير الهزائم بالخيانة أو المؤامرات الكونية ضدنا كعرب أو مسلمين أو مصريين، دون إقرار ولو مرة واحدة بأن أحد احتمالات الهزيمة هو الإخفاق أو سوء التخطيط أو الاختيارات والانحيازات الخاطئة! الدروس التى يمكن استخلاصها من الأخطاء المعترف بها أهم كثيرا من حالة النشوة الوهمية التى يراد للتلاميذ أن يشعروا بها، من خلال صناعة تاريخ زائف، يخرجون به إلى عالم الواقع مجردين من العبر، ومن الأدوات التى تعينهم على تجاوز أخطاء محتملة فى المستقبل.
المبرر التقليدى الذى تسمعه من واضعى المناهج المحرفة، هو أن بعضا من التاريخ يجب أن يحجب عن صغار التلاميذ، لأنهم بعد غير مؤهلين لاستيعابه. إذا اتفقنا مع هذا الطرح، لأن جانبا من التفاصيل قد يكون مربكا لحديثى السن ومتوسطى العقول، فإن الحجب ليس مرادفا للتحريف والتلبيس والكذب، ولا ينبغى له أن يكون كذلك. إن كانت ــ مثلا ــ المعلومات التفصيلية للعدوان الثلاثى على مصر أكبر من أن تعيها أذهان الصغار، فليس هذا مبررا لقلب جميع الحقائق والوقائع المثبتة بشأن ذلك العدوان، لتحويله إلى نصر «عسكرى» وليس قصة لصمود شعبى ونصر سياسى بتكلفة غير هينة.
أسماء لشخصيات ثانوية وتضاريس هامشية ووقائع ملتبسة وموضوعة فى سياق من التحيز التاريخى.. تزاحم جميعا ذاكرة الأطفال، لينفروا من تاريخ بلادهم، أو ليقعوا فريسة لصراع سرمدى بين ما تعلموه لينفعهم وينفعوا به، وما حفظوا ليعبروا به عتبة الامتحان البغيضة. ليست هذه ظاهرة جديدة، فمازلت أذكر معلمة التاريخ فى المرحلة الابتدائية، التى حولتنى إلى مادة للسخرية أمام زملائى حينما قلت لها إن «محمد نجيب» هو أول رئيس لمصر بعد يوليو 1952! كانت كتب التاريخ حينها تخلو من هذه الحقيقة التى تعلمتها صغيرا من أبى، رحمه الله، قبل أن يفرج عنها، ويتحول اسم الرجل إلى عنوان لمحطة فى مترو الأنفاق ثم لمرافق وقواعد عسكرية فى مراحل تالية.
كذلك لا يمكن أن ينسى أبناء جيلى جميعا أن كل إنجاز قام به أحد أبناء الأسرة العلوية (أسرة محمد على باشا) تم تشويهه أو إنكاره أو الحط منه بأسلوب منظم، حتى مشروع شق قناة السويس الذى ما زال أعظم منجز اقتصادى فى تاريخ مصر الحديث، نظرا لما أدره ومازال من دخل بالعملة الصعبة على البلاد منذ تدشينه فى عام 1869، تم تشويهه بأكثر من وجه وبمرويات ساذجة سخيفة مهينة لحكام مصر، أحدها يزعم بأن الخديوى سعيد اتخذ قراره بالموافقة على المشروع بإغراء من «ديليسبس»، الذى قدم له طبقه المفضل من المكرونة على سبيل الرشوة!! ما الدرس المستفاد من هذه الرواية المرسلة؟ هل كانت القناة مشروعا فاشلا فنحط من قدر من اتخذوا قرار شقها، أم أن العادة التاريخية لطمس الحقائق وتغيير أسماء الفراعين على الخراطيش الدالة عن أصحاب الإنجازات، هى التى تملى على كاتبى مقرراتنا تلك الأحاديث؟!
ثم يأتى التشويه ليلحق بالخديوى اسماعيل (المفترى عليه) لتهيل التراب على كل إنجازاته جميعا، إذ تزعم بأنها كانت لبناء مجد شخصى، ولتحقيق حلم ساذج بأن يرى مصر قطعة من دول أوروبا المتطورة! وكأن هذا الحلم خطيئة يجب أن يعاقب عليها، ليس فقط من دول الغرب المتربصة به لتطلعات تمدده جنوبا لتأمين منابع النيل، ولكن أيضا من بعض المصريين، الذين أنكروا عليه حبه لوطنه، ولم يذكروا له فى كتب التاريخ المنحازة سوى الإفراط فى الاستدانة، وحفل افتتاح القناة الأسطورى السفيه! أما عن الانتصارات العسكرية للأسرة العلوية، والتى أوشكت أن تتحول معها مصر إلى واحدة من الإمبراطوريات العظمى فى العالم، فهى أسطر قليلة عارضة، وهى فى أحسن الأحوال انتصارات لأشخاص، لا لشعب تأسس جيشه الوطنى لأول مرة فى التاريخ الحديث على يد محمد على، بتكليف منه لسليمان باشا الفرنساوى الذى تم رفع اسمه من الميدان الشهير ليحل محله اسم طلعت باشا حرب! أما هزائم العلويين، فعلى الرغم من أنها كانت قليلة وخارج حدود مصر كعهد الإمبراطوريات التى تحارب خارج حدود أراضيها، فتحتل الجانب الأكبر من مساحات المقررات.
• • •
الإهمال الشديد لمحتويات المناهج الدراسية فى المراحل التعليمية المنشئة والمؤسسة لضمائر وعقول بناة المستقبل، لا تقلل فقط من فرصهم فى الحصول على مواقع متميزة، لدى منافستهم فى أسواق العمل المفتوحة بفعل وتأثير العولمة، ولكنها تحرمهم أيضا من فرص التعلم الحقيقية من عبر التاريخ، ومن تطوير قدراتهم التحليلية والنقدية لتحقيق نهضة البلاد على أسس علمية غير منكرة للأسباب، عوضا عن تغذية مشاعر الكراهية للغير، واستعداء الغرب وكل ما هو سابق على تأسيس النظام الجمهورى فى مصر، وكل ما سبق ظهور الإسلام فى أرض العرب!

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات