عن التسول والمتسولين (2) - عماد الغزالي - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 3:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن التسول والمتسولين (2)

نشر فى : الإثنين 7 سبتمبر 2009 - 10:18 ص | آخر تحديث : الإثنين 7 سبتمبر 2009 - 10:18 ص

 وفقا لما ذكره تقى الدين المقريزى فى تحليله لأسباب المجاعات فى المحروسة خصوصا فى أعقاب الشدة المستنصرية، فإن الفقر والجوع والغلاء «ظاهرات اجتماعية مادية، لم تلازم البشر دائما، ولكنها تقع آنا وتنقطع آنا آخر، تقع عندما تجتمع أسبابها ودواعيها ، وتنقطع عندما تنتهى تلك المسببات والدواعى»، أما أهم أسباب هذه المحن برأيه فهى «سوء تدبير الحكام والزعماء وغفلتهم عن النظر فى مصالح العباد».

طبعا يصح ما قاله المقريزى على زماننا، مضافا إليه ما أشارت إليه خلاصة دراسات اجتماعية موثوقة، خصوصا تلك التى انتهى إليها مؤتمر الفقر والفقراء، الذى عقد بمركز البحوث الإجتماعية والجنائية فى العام قبل الماضى، التى انتهت إلى عدة نتائج بالغة الخطورة منها: أن نسبة الفقراء فى مصر وصلت إلى 55% ، وأن 51% من الأسر الفقيرة تدفع أطفالها للعمل فى الشوارع، تزيد النسبة إلى 75% فى الريف، وهو ما أدى إلى زيادة جرائم التشرد والانحراف وتهديد «الفقر المسلح» لحياة الناس.

لهذه الأسباب لا يبدو لى انتشار المتسولين على هذا النحو المفزع حدثا عارضا، إنما هو شكل من أشكال الاحتجاج الاجتماعى يمارسه الفقراء ضد الدولة والأغنياء معا، يعلنون عبره أنهم أصحاب حقوق مسلوبة، وأن الظلم الاجتماعى الذى يحيط بهم زاد وفاض، حتى إنهم لم يجدوا وسيلة للعيش سوى إراقة ماء وجوههم، ليلفتوا الأنظار إلى ضراوة ما يعانونه، ولعلنا نلاحظ الآن، مع دخول فئات جديدة إلى ساحات التسول، ممن كانوا «مستورين» فيما مضى، أن بعض المتسولين بعد أن يبالغ فى استعطافك ورجاءك، قد يشتمك إن أنت لم تستجب له، أو يرمقك بنظرة غيظ وازدراء لاهبة تدعو عليك بكلام صامت: روح فى ستين داهية.

ومع التسليم بأن نسبة معتبرة من المتسولين لايمكن اعتبارهم «مضطرين» وفقا لتصنيف الإمام أبوحامد الغزالى لحالات الفقر الخمس (زاهد، راضى، قانع، حارس، مضطر)، بل إن أكثرهم من أصحاب الحيل والفهلوة والشطارة، فإن شيوع ظاهرة التسول يستدعى النظر اجتماعيا وقانونيا، حتى لو أدى الأمر إلى صدور قوانين لتنظيم «مهنة» التسول، وهى خطوة يسبقها برأيى إدراك واع بأن زيادة معدلات الفقر فى مصر ليس سببه قلة الموارد وإنما نهبها، وتنامى رأس المال غير المدرك لمسئولياته الاجتماعية، والقائم أساسا على المضاربة والاحتكار والرشاوى، الذى صاحبه انحسار دور الدولة، وتراجعها إلى حد التهميش، وتحولها إلى «مظلة» تحمى مصالح قلة من ذوى السلطان والثراء والنفوذ، تمنحهم غطاء شرعيا بقوانين سابقة التجهيز، ونفوذا سياسيا بحصانات اغتصبوها بتزوير فاضح فى عز الظهر.
هذا هو السياق الذى جرى فيه طحن الفقراء وإفقار المستورين، الذى بسببه صار التسول مهنة وظاهرة.

فى زمن المماليك جرت محاولات عشوائية للسيطرة على سلوك الشحاذين، وكان الظاهر بيبرس هو أول سلطان يسعى لمواجهة المشكلة، فقد أمر فى عام 1265 بترحيل المتسولين إلى الفيوم، حيث خصص قرية لهم، وفى عام 1330 حذا السلطان الناصر بن محمد حذوه، وفى عام 1392 أمر السلطان برقوق بترحيلهم من القاهرة وضواحيها وإعدام كل من يخالف هذا الأمر، وذهب الظاهر برسباى إلى مدى أبعد فى عام 1438، فأرسلهم إلى الأناضول، لكن هذه المحاولات جميعها لم تقض على الظاهرة لسببين على الأقل: أولهما أنها لم تكن إنسانية، وثانيهما أنها تغافلت عن الأسباب الحقيقية لها: سوء تدبير الحكام والزعماء وغفلتهم عن مصالح العباد، كما قال عمنا المقريزى.
فانظر وتدبر.

عماد الغزالي كاتب صحفي
التعليقات