الدين العام ومعضلة الناتج المحلي في الحوار الوطني - مدحت نافع - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 10:24 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدين العام ومعضلة الناتج المحلي في الحوار الوطني

نشر فى : الإثنين 7 أغسطس 2023 - 9:15 م | آخر تحديث : الإثنين 7 أغسطس 2023 - 9:15 م
بدعوة كريمة من أمانة الحوار الوطنى، دعيت للمرة الثالثة للمشاركة متحدثا فى واحدة من أهم جلسات المحور الاقتصادى على الإطلاق، والتى عنيت بمناقشة إشكالية الدين العام. وقد التقطت أقلام كبار الكتاب تلك الجلسة تحديدا بالنقد والتحليل، وخصص لها الكاتب الكبير الأستاذ عماد الدين حسين عضو مجلس الشيوخ مقالا هاما التقط فيه أبرز ما ورد بالجلسة، خاصة ما جاء فى تحليل منصة الحوار التى تتمتع بميزة نسبية كبيرة وهى عدم التقيد بالدقائق الأربع التى تخصص لكل متحدث.
وقد دار فى الجلسة المذكورة جدل جانبى بين النائب السابق الأستاذ طلعت خليل مقرر اللجنة، والأستاذ عبدالفتاح الجبالى الخبير الاقتصادى ورئيس مجلس إدارة شركة مدينة الإنتاج الإعلامى. كان مدى الجدل إلى أى مدى يمكن أن نثق فى بيانات الناتج المحلى الإجمالى التى عادة ما تنسب إليه جميع بيانات الدين العام الخارجى والداخلى؟ وإذا كان ثمة شك فى تقديرات هذا الناتج ألا تؤثر على دقة المؤشر الذى يقع الناتج المحلى الإجمالى فى المقام منه؟ ورغم أن مقرر اللجنة استدعى الخبراء الحضور للمشاركة فى حسم الجدل، غير أن أحدا لا يملك أن يقف بغير دعوة للحديث، ولا يعقل أن يهدر المتحدثون دقائقهم الثمينة فى المشاركة بجدل فرعى، على الرغم من أهميته التى استدعتنى أن أخصص له جانبا من هذا المقال، بعد أن أفرغ من قضيته الأصلية.
• • •
تعانى مصر وغالبية الدول النامية من أزمات اقتصادية خطيرة، ناشئة عن ارتفاع مستويات الدين العام، وخاصة الدين الخارجى الذى يضغط على الموازنات العامة للدول، ويجعلها عرضة للصدمات المالية ومخاطر هروب رءوس الأموال، ومزاحمة الدين العام للاستثمار المحلى والأجنبى، من خلال توفير أسعار فائدة مغرية يتهافت عليها المستثمرون والبنوك على حد سواء.
وتعد معاناة مصر من عجزين مزمنين أحدهما خارجى (فى ميزان المعاملات الجارية بميزان المدفوعات) والآخر داخلى (فى الموازنة العامة) من الاختلالات الهيكلية التى استدعت اللجوء المستمر إلى الاقتراض من الداخل والخارج لسد العجزين. فإذا أضفنا إلى ذلك ضعف معدل الادخار المحلى (أقل من 6% حاليا) فإن تمويل احتياجات النمو تتطلب الاعتماد بشكل شبه كامل على تدفقات رءوس الأموال فى صورة استثمارات أجنبية (مباشرة وغير مباشرة)، أو فى صورة ديون خارجية بالعملة الصعبة، لتوفير الواردات من السلع النهائية والوسيطة، وكلاهما ضرورة كرافدين للنمو المعزز بالاستهلاك أو الاستثمار.
كانت أزمة كوفيدــ19 ثم الحرب فى شرق أوروبا كاشفة لتلك الأزمات وليست منشئة لها، حيث بلغ حجم الدين العام العالمى عشية الجائحة ما يزيد على ثلاثة أضعاف الناتج الإجمالى العالمى. كيف يمكن إذن إنقاذ الدول المدينة وخاصة النامية من الغرق فى أزمات عميقة للديون؟ علما بأن تلك الدول تكافح النقص الحاد فى مواردها، وتقدم خدمات الدين على أية نفقات ضرورية لغذاء وصحة وسائر خدمات السكان.
وقد قدم «راينهارت» و«تريبيش» (2016) دراسة لتداعيات تخفيف عبء الديون فى 45 دولة بين 1920ــ1939 و1978ــ2010 ووجدا أن الوضع الاقتصادى للبلدان المدينة يتحسن بشكل كبير بعد تخفيف أعباء الديون، ولكن فقط إذا كان التخفيف يشمل عمليات شطب للديون (كما حدث مع اتفاقية لندن للديون عام 1953) وليس مجرد إعادة لهيكلتها. توصل الباحثان إلى أن عمليات شطب الديون تراوحت فى المتوسط بين 40ــ50٪ خلال فترة ما بين الحربين الكبريين، وقد نتج عن تلك العمليات ارتفاع الناتج المحلى الإجمالى بنسبة 20ــ30٪ فى السنوات الخمس التالية على إلغاء الديون!.
كذلك أظهرت دراسة لـ«راينهارت» و«روجوف» لتاريخ العالم منذ عام 1800 أن الاقتصادات التى تتجاوز ديونها الحكومية 90% من ناتجها المحلى الإجمالى، مع استمرار تلك النسبة لفترة طويلة، قد حققت نموا اقتصاديا أبطأ بكثير من الدول الأقل مديونية؛ فالدول المثقلة بالديون شهدت فى الغالب معدلات فائدة حقيقية مرتفعة، واستثمارات رأسمالية منخفضة، وعجزا متزايدا عن الاستثمار فى البنية التحتية والتعليم.
ولا استثناء للدول الكبرى من تلك المعضلة، وإن كان الإنفاق على تحسين المجتمع هو الغاية من التوسع فى الاستدانة. مثال لذلك المملكة المتحدة، التى عززت من الإنفاق على الإسكان العام والمعاشات والرعاية الصحية وأولويات الرعاية الاجتماعية الأخرى، بداية من عشرينيات القرن الماضى وخاصة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. تسبب ذلك فى أن استثمارات الدولة فى مجالات التعليم والبحث العلمى والبنية الأساسية والصناعة، كانت أقل نسبيا من الدول المماثلة.
وقد يزعم البعض بأن اليابان تعد استثناء من قاعدة الأثر السلبى للديون، حيث يتجاوز حجم الدين العام بها 240% من ناتجها الإجمالى، ومع ذلك فهى تؤدى اقتصاديا بشكل ممتاز. لكن الدين الصافى لليابان أقل كثيرا من تلك النسبة، حيث تحتفظ الحكومة بمخزون كبير واستثنائى من الأصول المالية. وبالتأكيد لا يمكن الزعم بأن الولايات المتحدة تعد أكثر الدول تورطا بأزمات الديون كون الدين العام بها محلقا فى مستويات قياسية اضطرت معه البلاد إلى تحريك سقف الدين أكثر من مرة. ذلك لأن الدولار الأمريكى هو عملة الاحتياطى لمعظم الاقتصادات الأمر الذى يفرض على الولايات المتحدة التوسع فى إصدار أدوات الدين المقومة بالدولار.
• • •
أشرنا فى مقال سابق أن هناك مؤشرات عدة، بخلاف الفائض الأولى، تستعين بها الدولة لتقييم مخاطر الدين العام وخاصة الخارجى منه، من تلك المؤشرات: نسبة الدين العام (المحلى والخارجى) إلى الناتج المحلى الإجمالى. وفقا لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، فقد نجحت الحكومة المصرية فى خفض نسبة الدين العام (بشقيه المحلى والخارجى) من أعلى مستوى له (108%) من الناتج المحلى الإجمالى عام 2015/2016 إلى (87.5%) بنهاية العام المالى 2019/2020 بعد انتهاء تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادى. ثم ارتفع الدين العام إلى (91.5%) فى العام المالى 2020/2021 متأثرا بجائحة كورونا. وهنا نعود إلى بعض تفاصيل الجدل الذى أثير فى مقدمة المقال، حيث يجب الانتباه إلى أثر المقام الذى يتم نسبة حجم الدين إليه لحساب تلك المعدلات، وهو الناتج المحلى الإجمالى، لأن أى مغالاة فى تقديره (وهو من الأمور الشائعة اقتصاديا) تنعكس على هذا المؤشر لتعطى انطباعا بتحسن وضع الدين العام، بينما معدلات نمو الدين نفسه لا تؤخذ فى الاعتبار كمؤشر هام.
ولتوضيح ذلك يمكن أن نقسم معضلة الناتج المحلى الإجمالى إلى أكثر من وجه. أولا: ما نفترض معه أن حسابات الناتج المحلى الإجمالى «بالأسعار الثابتة» تتم بمنتهى الدقة والشفافية. فى هذه الحال كثيرا ما يعجز ذلك المؤشر على بيان وضع الدين العام فى البلاد، ومدى خطورته. ذلك لأن كبر حجم الناتج لا يعنى قدرته على سد العجزين المشار إليهما. أو باختصار، ما هى حدود تحول ذلك الناتج إلى عملة صعبة تستطيع سداد أو الاستغناء عن الدين الخارجى، الذى هو أشد خطورة، من ثم كانت نسبة الدين الخارجى إلى صافى الصادرات أكثر تعبيرا عن وضع الدين من نسبته إلى الناتج المحلى الإجمالى، الذى هو مؤشر يعنى بالحجم على حساب الكيف والتفاصيل، وهو ما تسبب فى تعرضه للنقد كونه قاصرا عن التحول إلى مقياس للتنمية.
الوجه الثانى لمعضلة الناتج المحلى الإجمالى يتمثل فى كون تحويله من ناتج اسمى يتأثر بمعدلات التضخم إلى ناتج حقيقى، يعتريه مشكلة بسيطة وهى استخدام مكمش deflator والذى يعكس تضخم الأسعار خلال عام حساب الناتج. فإذا كان هذا المكمش غير دقيق أو لا يعكس حال التضخم فى البلاد (إذ تتفاوت تقديراته بالفعل بشكل كبير بين البنك المركزى ووزارة التخطيط بفارق اقترب أحيانا من عشر نقاط مئوية) فإن تقديرات الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى تكون غير دقيقة، إذ يتم المغالاة فى تقديراتها ارتفاعا مع استخدام مكمش أسعار ينظر إلى معدلات التضخم بشكل متحفظ.
الوجه الثالث لانحسار الثقة جزئيا عن الناتج المحلى الإجمالى كمؤشر اقتصادى، يتمثل فى تعمد بعض الحكومات التلاعب فى تقديراته. وقد توصل «لويس مارتينز» (2016) إلى أن الناتج المحلى قد تم تضخيمه بمعامل يتراوح بين 1.15 و1.3 فى كثير من الدول، خاصة تلك التى يتراجع تصنيفها فى مؤشر مدركات الفساد. وجدير بالذكر أن تصنيف مصر فى هذا المؤشر قد سجل فى المتوسط ما قيمته 32.2 نقطة خلال الفترة بين 1996 و2022 وأن هذا المؤشر تتراوح قيمته بين صفر ومائة وكلما اقتربت من الصفر كانت أكثر عرضة للفساد. من ثم فإن مؤسسات التمويل تحرص على خصم معدلات النمو الصادرة عن العديد من الدول النامية، إذ لا تطمئن إلى قيمها بشكل تام.
• • •
نحتاج إلى حركة تصحيح تقوم فى الأساس على الضبط المالى بترشيد الإنفاق العام، والتوقف عن مزاحمة القطاع الخاص، والبدء فى تحقيق خفض مستمر فى نسبة الدين العام (خاصة الخارجي) إلى الناتج المحلى الإجمالى، عبر تخفيض قيمة الدين وليس فقط عبر زيادة قيمة الناتج المحلى. علما بأن جهود الضبط المالى يجب أن يواكبها أو يسبقها إعادة هيكلة لرصيد المديونية، وأن تشتمل إعادة الهيكلة على شطب نسبة كبيرة من المديونية التاريخية، وإلا فلن يكون الضبط المالى مستداما أو ناجحا، وستظل تدفقات رءوس الأموال تراهن على العجز المزمن للدولة المدينة.
ومن أدوات الضبط المالى استبدال الديون بالأصول المالية، واستبدال الاقتراض بالمشاركة مع القطاع الخاص، سيما وأن معظم ديون الدول النامية تكمن فى يد القطاع الخاص، من خلال استحواذه على السندات السيادية وأذون الخزانة.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات