البحث عن حيوان قومى جديد للبلاد 4 - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 9:25 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البحث عن حيوان قومى جديد للبلاد 4

نشر فى : الجمعة 5 نوفمبر 2010 - 1:34 م | آخر تحديث : الجمعة 5 نوفمبر 2010 - 1:34 م

 سَيگوسوماتية بحگمة حَميرية
مُلخص ما نُشِر : بعد أن استبعد الراوى وصاحبه طائفة واسعة من الحيوانات وتوافقا على الحمار كحيوان قومى رمزى للبلاد، أخذا يتفقدان خِصاله وأدبيات وصاله، فتبين أنه ليس مجرد كائن شديد الحساسية وعظيم الفحولة فقط، بل هو زوج شديد الإخلاص الأسرى ومستودع جينات حُمارية أصيلة تتأبَّى على التجريف والتحريف، فقط، عندما يكون حراً فى الحياة البرية. وهذا التناقض لدى الحمار، ما بين أصوله القديمة الحُرَّه وحياته المُعاصرة المُرَّة، قاده لتأملات تجعله صاحب مدرسة فلسفية أبيقورية متطورة، تجلَّت للراوى فى عمر الطفولة، ولم ينقطع تجليها فى عمر الرشاد!

منذ ثلاثين سنة، كنت نائبا بقسم للأمراض النفسية فى مستشفى عام بالثغر، وكان رئيس القسم رجلا قصيرا أبيض أحمر بحواجب منكوشة دائما وله جذور تركية، وكُنية تركية أيضا، لكنه كان مصريا «أراريا»، أما رصيده العلمى فى الطب النفسى، فيمكن تلخيصه فى بضع ورقات من كراسة مدرسية، مستوعَبة بشكل مدرسى، ومحفوظة بشكل مدرسى أيضا. لكن رصيده من الخبرة بأحوال النفوس فى الحياة كان هائلا. وكان هذا هو عين المطلوب بالنسبة لى، فالعلم كنت أحصل عليه بلا ضفاف من مراجع غير مقيدة بأى منهج تعليمى، ومن ثم كانت غنية ومعطاءة بلا حدود، أما الخبرة، فهى حصيلة تراكم تجارب الحياة، وثمرة الشك فى فضائل بنى آدم، وكلاهما كنت فقيرا فى امتلاكه، وربما لا أزال، وقد أعارنى هذا الرجل كثيرا من خبرة سنينه، ومن حصاد تفرساته فى حياة البشر بعين عثمانلية مستريبة. دروس عديدة تشربتها من تجربته فى الطب النفسى، ووضعت لها عناوين من وحى المفاتيح التى كان الرجل يفض بها مغاليق القصص المرضية للحالات النفسية التى تُعرض عليه وأشاركه كنائب فى مناظرتها، مثل: «تجربة المعزة»، و«تجربة الصنارة»، و«تجربة الوارث»، و«تجربة الدكان»، و«تجربة القارب»، وتجربة «عشة الفراخ». وفيما يخص موضوعنا كانت التجربة هى: «تجربة الحمار». نعم الحمار!

فى يوم مفترج، وكنت فى العيادة الخارجية مع رئيس القسم نجلس فى غرفة كشف واحدة على مكتبين متقابلين لاقتسام المترددين على العيادة بيننا، وتبادل الآراء التشخيصية والعلاجية بالإنجليزية واللاتينية عبر الأثير، طَبَّ علينا الرجل العظَمة. أقل ما يُقال فيه إنه عظَمة. فهو كبير الجراحين. باشا ابن باشا. طويل عريض عملاق بشكل باشوى، ومتزوج من امرأة ألمانية فارعة وعملاقة مقارنة بنساء المصريين، وفاتنة الجمال كذلك.

نهض رئيس القسم مرحبا بالرجل العظمة الذى كان متواضعا ومهذبا فلم ينكر وجودى، بل أومأ لى برأسه محييا مرة، وفى الثانية فهمت أنه يريدنى أن أنسحب من الغرفة وأسحب معى كل الموجودين فيها، وأَخرُج، وأُغلِق الباب ورائى! فهو يريد أن يتحدث مع رئيسى على انفراد!
خرجْتُ نصف راضٍ نصف ساخط. وبعد انصراف العظمة عدت إلى مكانى فى جوار الرجل الخبرة. لم يحدثنى عما حدث، ولم أسأله.

بعد يومين بالضبط، هب علينا الرجل العظمة فى عاصفة من فرح عجيب. فرح طفولى وجنونى مدهش جعله يحتضن رئيس القسم ويحمله فى حضنه، ويدور به فى غرفة العيادة دوران راقصى التنورة أو دراويش المولوية. ولم تستثننى عاصفة الفرح هذه إذ احتضننى الرجل العظمة أيضا لكنه لم يحملنى ويدور بى، بل رفعنى عاليا قرب السقف ثم هبدنى على الأرض ببهجة لم أر أجن منها بهجة. ومضى وهو يوزع بقشيشا على كل من فى المكان.. الممرضة والتومرجى وعمال العيادة وحتى المرضى وذويهم. ولعلها مرة نادرة فى تاريخ المستشفيات الحكومية النفسية خاصة، التى يذهب إليها المرضى، فيتلقون الرعاية الطبية بالمجان، ويأخذون فلوسا أيضا، فيظيط جنانهم فرحا وتنطيطا لأنهم حسبوا الفلوس «عيدية»، ومن ثم كان اليوم «يوم عيد»، وصار المكان «سوق عيد»! عيد مجانين، وما أدراك ما أعياد المجانين؟!!

الرجل الخبرة والممرضة والتومرجى وعمال العيادة وأنا، وبالتعاون مع أقارب المرضى وبعض المارة فى الشارع القريب من ذوى الهمة والنخوة والقلوب الجريئة، بذلنا يومها مجهودا مضنيا لنعيد المكان إلى هدوئه الكئيب المعتاد، والسكون المطلوب لإطلاق سر خطير وضح أنه يعافر فى نفس رئيسى، بل كان يُشعُّ بطاقته المحبوسة فى كيانه فيبدو الرجل أرجوانيا تماما، واقف شعر الرأس ومنكوش الحواجب، ومتعجلا لاستتباب الهدوء! فقد كان فى صدره مهرجان فرح لا يحتمل كتمان دوافعه، وعرفت الحكاية عبر لحظة الانتصار التى يشعر بها أى طبيب نجح فى علاج مريض بوسيلة من ابتكاره. خاصة فى الحالات الصعبة. وقد كانت الحالة صعبة، بل من أصعب حالات الطب النفسى، وتتعلق بالعنانة النفسية. عندما يجد رجل فى فى عز رجولته وكامل صحته، يجد نفسه فجأة غير قادر على أداء «واجباته»!

حالة تجعل الرجل مخنوقا أو كالمخنوق. وهو عندما يقصد الطبيب لا يبوح مباشرة بمصابه. بل يلف ويدور ويكون متوترا وعدوانيا ويريد من الطبيب أن يعرف ما به دون أن يبوح. وهى حالة حفظتها من فرط المعاناة مع المراجعين الباحثين عن علاج لها. تحس أن الرجل مكسور لكنه عنيف وفى لحظة يُهيأ لك أنه يكرهك ويريد أن ينقض عليك. لكنه فى الحقيقة يريد أن تنقض أنت على ألمه وتستخرجه من قبو أسراره وتنقذه منه. تنقذه من الشعور بالمهانة أمام أقرب الناس إليه، وتُنقذ بهجته الوحيدة فى الحياة، على الأغلب. فرجال المصريين من السواد الأعظم ظلوا رِقاق الحال على مر التاريخ الذى نعرفه، وكان هذا «الموضوع» هو سلواهم الوحيدة ونجواهم، «أرخص ليالى» المتعة الإنسانية المتاحة لهم، على حد تعبير قصة الحبيب يوسف إدريس. موضوع يزهون به، ويكثرون من التحدث فيه، ويُشكِّلون منه أفضل نكات ضحكهم، وسوالف سمرهم، وغمزات التهازُر. تعويضهم التاريخى فى محيط لم يكن سخيا أبدا مع غالبيتهم، ولا تكرَّم بتقديم بدائل ولا اختيارات تخفف من ولعهم به، فأن يفقدوه أو يصبحوا تحت تهديد فقده، يصيرون حالة لرجال مذبوحين فى الحياة، لا يناظرها أى ذبح للرجال فى أى أمة أخرى.. ربما!


ووصلت الحالة إلى نسبة مخيفة فى مجتمعنا حاليا، حيث أذاع أحد كبار الأطباء من أساتذة الاختصاص أن 80 % من المصريين غير سعداء بـ«أدائهم»، وبينما يشكل «ضعيفو الأداء» فى العالم نسبة 52 % فى الفترة العمرية من 40 70 سنة، فإن دراسة لشركة أدوية عالمية أجرتها فى مصر، ولا أعرف ما هو دخلها فى دخائلنا، قدَّرَتْ أن النسبة عندنا هى 50 % فوق سن الأربعين، و18 % فوق سن العشرين، والنسبة الأخيرة هى المفزعة لو صح تقديرها، فأنا من المؤمنين بنظرية المؤامرة التى يشكك فى معتنقيها معظم المتآمرين، والمتآمرون فى هذه المخاضة كثرة، وشعارهم هو الشطارة فى التجارة، وهى تجارة جنونية تستهدف جذب 90% ممن يعانون ولا يبوحون ولا يسألون ولا يحزنون، لأن أحزانهم صارت أعمق وأغمق وأبعد من متطلبات هذه «السعادة» التى صارت منقوصة أو مقصوصة الآن فى بلادنا، لأسباب لن تعالجها أية بلابيع، أيَّا كان لونها، لكن تجار البلابيع العالمية عابرة القارات، وطبقا لإستراتيجيات «الماركتنج» الذى شعاره «بيع أى شىء لأى أحد وبأى سعر»، لاييأسون، ولا يكُفون عن البروباجاندا والبرزنتاشن والتسويق، فشركة «ويجلى» فى شيكاجو، تََعِدْ رجال البشرية مكسورى الخواطر، ومنهم المصريون بالطبع، بتقديم جوهر الحبة الزرقا فى علكة ربما تكون وردية أو سماوية بعد أن ينتهى العام القادم حتى لاتتعارك مع شركة «فايزر» مُحتكرة الحبوب الزرقاء، أما البريطانيون فيعلنون استعدادهم لمبارزة هذه العلكة ببخاخة تحتوى على مادة من مشتقات الأبومورفين، أحد أحفاد الأفيون وأبناء المورفين، ويتفوق على علكة شيكاجو لأنه يعمل بعد بخ البخة بنصف دقيقة، بينما العلكة لابد من علكها قبل العاركة بنصف ساعة! أما الدكتور «رومولو لايتى» من الكلية الطبية فى جورجيا الأمريكية، فهو من أنصار اللجوء للمواد الطبيعية لا السينثِتيكية، ويعمل على مادة فعالة من سم «العنكبوت البرازيلى» سموها TX2-6 ثبت أنها أفعل من الحبة الزرقا والعلكة الوردى والبخة الشفافة، وقد اكتشفوها بعد تبينهم أن المصابين بلدغة هذا العنكبوت السام يكونون فى حالة «تأهب تام» بينما سيارات الإسعاف تنقلهم إما إلى غرف الإنعاش أو إلى ثلاجات حفظ الموتى! ولعل هذا سيجعل بعض اللاعبين الوطنيين الديمقراطيين يعِدون بتوفير عنكبوت برازيلى لكل مواطن ضمن لافتات دعايتهم للانتخابات البرلمانية النزيهة القادمة! وقد يتخذ بعض المعارضين المنخرطين فى «اللعبة الانتخابية» من ذوى الاتجاهات الدوائية المصرية موقفا وطنيا، فيعِدون المصريين «غير السعداء» والمتعطشين للتغيير، بتصنيع دواء عشبى مصرى خالص، ومالص من أية كيماويات، سجله كيميائى قناوى فى أكاديمية البحث العلمى تحت اسم «مان»! وكان أحرى به أن يسجله باسم «مين»!

و«مين» هو إله الخصوبة المصرى القديم آكل الخَس حامى أخميم وقفط، وتصوره الرسوم الجدارية الفرعونية واقفا مشدودا وعلى رأسه ريشتان بالغتا الطول، ويمناه المرفوعة والمثنية تمسك بالسوط الملكى رمز السطوة والأبهة، بينما يسراه المندسة تحت ثيابه الملفوفة على جسده بإحكام تُشهٍر سلاح خصوبته الأسطورى الثاقب لهذه الثياب، وهى صورة شهيرة جدا نقلها صُنّاع المَحافظ والحقائب الجلدية السياحية وطبعوها بين تلافيف الرسوم الفرعونية على بضائعهم لزوم التنويه عن ثروة مصر القومية الكامنة، والتى تُزرى بها الآن للأسف حوادث التحرش بالسائحات ومناظر المتحرشين الذين تجزم هيئاتهم المتهالكة الصدئة بانقطاع أى صلة بينهم وبين الجد المهيب «مين» أو حتى حفيد أحفاده «على كاكا» التقليد الكاريكاتورى للجد المهيب والمصنوع من حلاوة رخيصة كان يدور بها على عربات اليد بائعو «حلاوة زمان»، زمان الستر المصرى الفرحان بالحد الأدنى من الكفاية والرضا والروقان والضحك الصافى والتنكيت بلا مرارة ولا إحباط، زمن مضى وجاء زمن آخر، صارت فيه مصر مغنما ومنجما لكل مقتحم أو مغامر ما دام سيدفع، يدفع القليل وينهب الكثير، وكان نصيب الصينيين مما تبقى من المناجم والمغانم: الرخام، والملوخية، والسر الجبار فى جِلد الحمار! فالصينيون اكتشفوا فى جلود الحمير المصرية «منشطات» طبيعية خالية من أية عواقب مربكة أو مؤسفة أو قاتلة كما فى الحبوب إياها، ولعل هذا ما حدا بهم لتكوين شركة مصرية صينية مشتركة قدَّمت عرضا لإقامة مزرعة حمير ومصنع خاص لإنتاج معلبات طعام الحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب من لحوم الحمير، إضافة لاستغلال ألبانها فى إنتاج أدوية غير مسبوقة، نظرا لما تحتويه هذه الألبان من مضادات حيوية، على حد تصريح أحد رؤساء هيئة الخدمات البيطرية المصرية! ولو أضفنا لهذا التصريح تصريحا آخر لعضو فى المجلس المصرى لتصدير الجلود كان رئيسا أسبق لغرفة دباغة الجلود وقال فيه «يتم استغلال لحم الحمير، بعد أخذ جلودها والاستفادة بها، فى إطعام الحيوانات المتوحشة كالسباع والنمور فى حديقة الحيوانات». ومن التصريح يتضح أن الأثمن فى كل هذه الشروة هو جلد الحمار. وأثمن ما فى جلد الحمار هو سرُّه التنشيطى الأفرُدتيكى. لكن هذا السر الحميرى لم يكتشفه الصينيون وحدهم، بل سبقهم إليه رئيسى الخبرة، ومن زاوية مختلفة تماما وبعيدة عن الجلود والمفروم وحليب الأحْمِرة...


حتى هبوب عاصفة فرح الرجل العظمة لم أكن أعرف ما أسرَّه للرجل الخبرة عندما طلب الاختلاء به قبل يومين، لهذا أدهشتنى عاصفة فرحه عندما أقبل يحتضن الدنيا ويبوس خدودها الهوائية. ولم ألتقط مما قاله وهو يحمل رئيس القسم ويدور به غير كلمة «تماااااااااااام. تماااااااااااااام. تمااااااااام»، ظل يكررها وهو يدور برئيسى، وبعد أن أنزله على مقعده وراء المكتب وجلس أمامه انحنى يوشوشه، كانت رأساهما متقاربتين بينما العظمة يحكى بهمس والخبرة يصغى بانتباه، وكلاهما يطفح وجهاهما بنشوة انتصار عجيب.

بعد انقشاع عاصفة فرح الرجل العظمة واستتباب الأمن، نادانى الرجل الخبرة وأجلسنى أمامه ومال نحوى فخورا منتشيا وملت نحوه فى فضول، وراح يوشوشنى بسر هذه العاصفة، سر انتصاره العلمى على حالة عسيرة، سر الوصفة السحرية التى حلَّت «رباط» الباشا العملاق بكلمة. كلمة واحدة هى: «الحمار». ففى تجلٍّ سيكو سوماتى، أى نفسى جسدى، يستند على النباهة و«السِنس»، قال رئيسى للعظمة بعد ان سمع شكواه. «لازم بتفكر فى حاجة تشتت تركيزك بعيد عن العملية نفسها. شوف انت الحمار. عمره ما يحصل له إللى بيحصل للناس واللى حصلك. لأنه ما بيفكرش إلا فى اللى قدامه واللى هايعمله. يعنى كل تركيزه بيبقى فى الموضوع نفسه».

وصْفة نفسية بسيطة تلقاها العظمة ببساطة أكثر. وهو ما حكاه لى الرجل الخبرة ورأسانا متقاربان، نقلا عن الرجل العظمة عندما تقاربت رأساهما. فالعظمة عندما همَّ بالألمانية وهمَّت به كاد يكرر إخفاقه، لكنه تذكر كلام النفسانى، وسأل نفسه داخل نفسه، بتحدٍّ: «هوه الحمار أحسن منى؟».

وبغضب أجاب على نفسه داخل نفسه: «لأ الحمار مش احسن منى». ثم فى برهة خاطفة من المفاضلة قرر أنه لا يريد أن يكون احسن من الحمار ولا أن يكون الحمار أحسن منه. هو فقط يريد فى هذه اللحظة الحاسمة أن يكون مثل الحمار. «حمار. حمار. حمار»، أخذ العظمة يكرر الكلمة فى سرِّه بحسم وهو لا يريد إلا أن يكون حمارا. مجرد حمار غير قابل للفشل فى هذا الشىء. وإذ به يحس بنفسه متوهجا فى قلب اللحظة توهج حمار عفى وعاشق على أتان ريانة أو فرسٍ فارهة. وشهدت الألمانية أنها لم تتصور ولا تتصور أن تكون هناك عرامة وسخونة وقوة وحنان أمتع من هذه المرة. بل أكثر من مرة. قالت له إنها صارت امرأة برية تلتقى برجلها البرى فى قلب غابة بكر، لا وحوش فيها ولا زواحف ولا دبابير ولا بعوض، وتمارس فيها كل الكائنات الحب من حولهما، الحيوانات على الأرض، والطيور على الأغصان، والأسماك فى غدران المياه الشفافة، وقوارض الخُلد فى أنفاقها.. تحت الأرض!

طقس بدائى صاخب وعارم وجنونى اللذة. لكن العظمة لم يبح للألمانية بسر الحمار الذى كانه وهو يُنجز هذا الأداء العظيم. ولا أنا تخليت عن وصفة «الحمار» طالما قابلتنى مثل هذه الحالة للرجال الذين يختنقون بأسرارهم أمامى ويوشكون أن يهموا بضربى فى اللحظات الأولى من أخذى لحالاتهم فى غرف العيادات النفسية التى عملتُ بها قبل أن أهجر المهنة!

وبالمناسبة، ليس درس الحمار هذا بدعة فى الطب النفسى الجسدى، بل هو كشف رائد لم يتم تسجيله شأن الكثير من الكشوف العلمية التى يطويها النسيان فى مصر المحتفية بمعجزات طب البردقوش وعلاج السبيكة وشراب البول، فهذا المحتوَى الرؤيوى لحالة الرجل العظمة كما شخّصها وعالجها الرجل الخبرة، هو جوهر أحد أكثر الكتب مبيعا وشعبية فى العالم، ويتناول تأثير الحالات النفسية على الصحة الجسدية أو «الـسيكو سوماتيك»، للدكتور «روبرت سابولسكى» والمنشور فى نيويورك عام 1994 تحت عنوان «لماذا لاتُصاب حمير الزرد بقرحة المعدة» WHY ZEBRAS DON`T GET ULCERS. أى بعد اكتشاف رئيس قسمى، الخبرة، لهذا الجوهر بحوالى أربعة عشر عاما. أما الفارق بين حمير سابولسكى الزرد، وحمير الرجل الخبرة الحصاوى، فهو اختلاف طفيف لا يغير من النتيجة العلمية كثيرا، ولا يهز رسوخ درس الحمار عندى.

هذا الدرس فى العلاج « بلا عيا بلا دوا بلا مر»، فهل يكفى هذا العلاج الآن لـشفاء 90% من حالات النوم فى البصل التى تقضُّ مضاجع كثرة من المصريين دون أن يتوافر لهم، على الأقل، الحد الأدنى للشعور بالأمان، والحد الأدنى للأجور كما حكمت المحكمة، دون أن تمارس عليه الحكومة هوايتها المُعاصرة فى الالتفاف على أحكام القضاء، فترفع الأسعار أو تطبع البنكنوت بلا رصيد فتُزيد من نسبة التضخم وتهبط بقيمة اللحلوح إلى أدنى مما تدنَّت إليه مستوياته؟

إن الكثرة من المصابين بافتقاد «هذه السعادة» وتدنّى «الأداء»، يرجع مصابهم لأسباب نفسية مدارها الاكتئاب والتوتر، والشعور بالمهانة، والقهر، والإحباط، وقلة الحيلة! وهل هناك بالذمة والأمانة، غير أمانة السياسات والحاجات والمحتاجات طبعا؟! هل هناك فى حياتنا المصرية الآن أوضح من الأسباب التى تنفسن أى «شعور بالسعادة» فى هذه العملية، بل فى كل عمليات الحياة؟! وهل تُجدى فى علاجها سيكو سوماتية الحمار؟ وإذا لم تكن تُجدى، فهل نستبعد من بحثنا الحمار؟

(فاصل، وفى الجمعة القادمة، أيضا أيضا، نواصل)

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .