للمجلس العسكرى قدرة هائلة على صناعة الأزمات غير المبررة له وللبلاد والعباد. فمنذ تولى المجلس مسئولية إدارة البلاد وحتى الآن ورط المجلس نفسه والمجتمع والناس فى الكثير من الأزمات المفتعلة، من اختياراته لأعضاء الحكومات المتعاقبة إلى إطلاق وثيقة مبادئ دستورية وحتى تفجير قضية منظمات المجتمع المدنى.

فقد ارتكب المجلس العسكرى وحكومة الإنقاذ الوطنى خطأ كبيرا بفتح ملف تمويل المنظمات فى هذا التوقيت الذى جعل الأمر يبدو وكأنه تحرك انتقامى ضد المنظمات التى علا صوتها تنديدا بتجاوزات المجلس العسكرى وأجهزة الدولة المختلفة فى حق المواطنين.

لا يمكن لمنصف أن ينفى ضرورة فتح ملف تمويل المنظمات غير الحكومية فى مصر باعتباره من الملفات الملغومة التى ورثتها الثورة عن نظام الرئيس المخلوع المحبوس مبارك. فعلى مدى 30 عاما ترك مبارك ونظامه الحبل على الغارب للدول الأجنبية الغربية منها والعربية لتضخ ملايين الدولارات إلى منظمات وكيانات شرعية وغير شرعية مادامت لا تمثل تهديدا لعرش مبارك وعائلته، فظهر الكثير من المنظمات التى يصفها الحقوقيون الشرفاء ونشطاء المجتمع المدنى الحقيقيون بأنها «دكاكين» لا يسعى أصحابها إلا إلى التربح.

فى الوقت نفسه، فإن فتح الملف بهذه الطريقة كان خطأ كبيرا حيث اقتصرت عمليات التفتيش والتحقيق على المنظمات المعنية بحقوق الإنسان والنشاط السياسى رغم وجود آلاف الجمعيات الخيرية تعمل بتمويلات أجنبية أيضا بما فى ذلك الجمعيات الإسلامية التى تحصل على تبرعات خليجية بعشرات الملايين من الدولارات سنويا.

ملف المنظمات غير الحكومية يحتاج إلى جهد كبير من أجل التعامل معه بما يضمن تحقيق المصالح العليا. وهذا الجهد يتجاوز قدرة بل وصلاحيات المجلس العسكرى وحكومته المؤقتة لأنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالصورة الأوسع لمستقبل مصر وخريطة القوى المجتمعية فيها. لذلك كان من الواجب تأجيل قضية هذه المنظمات بكل ما لها وما عليها حتى تنتهى هذه المرحلة الانتقالية، فتتعامل معها حكومة منتخبة ذات شرعية شعبية دستورية لا يتطرق إليها الشك ويتعامل معها نائب عام لا تحوم حوله الاتهامات بسبب علاقته بالنظام السابق، بل ومن خلال برلمان منتخب وفى إطار دستور يحظى بتأييد الأغلبية.

إن تجاوزات منظمات المجتمع المدنى إن كانت هناك تجاوزات موجودة منذ سنوات ولن يضير المجتمع لو استمرت شهورا أخرى حتى نوفر على المجتمع أزمة جديدة تثير الكثير من الضجيج وتشتت بعض الجهد والوقت بعيدا عن القضايا الأشد إلحاحا فى هذه المرحلة.