.. أهمية أن تكون إنسانًا..؟!.... - علاء الأسواني - بوابة الشروق
الخميس 16 مايو 2024 2:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

.. أهمية أن تكون إنسانًا..؟!....

نشر فى : الثلاثاء 5 يناير 2010 - 9:55 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 5 يناير 2010 - 9:55 ص

 عزيزى القارئ..

تخيل أنك مواطن غربى من السويد أو فرنسا أو الولايات المتحدة.. هل تفضل أن تقضى إجازة عيد الميلاد ورأس السنة فى بلدك أم تحب أن تقضيها نائما على الأسفلت فى شوارع القاهرة؟.. الاختيار الأول طبيعى لأن كل إنسان يحب أن يقضى الأعياد منعما مكرما وسط أهله، أما الاختيار الثانى فهو ما فعله 1400 ناشط أجنبى من محبى السلام ينتمون إلى 42 دولة حول العالم، جاءوا إلى مصر ليعلنوا تضامنهم الكامل مع الفلسطينيين المحاصرين فى غزة، وقد حملوا إليهم كل ما أمكنهم من الأغذية والأدوية.. وافقت السلطات المصرية فى البداية على استقبال هؤلاء الناشطين، لكنهم لما وصلوا إلى القاهرة قررت فجأة منعهم من دخول غزة ولما اعتصموا واحتجوا حاولت الحكومة أن تصرفهم وقدمت لهم رحلات سياحية مجانية، لكنهم رفضوا وأصروا على إيصال الطعام والدواء إلى الفلسطينيين.. عندئذ قامت الشرطة المصرية بالاعتداء عليهم وسحلهم على الأرض وضربهم بوحشية.. هذه الوقائع المؤسفة تحمل أكثر من معنى:

أولا: هؤلاء الناشطون الأجانب مثقفون وكتاب وفنانون ومهنيون، أى أنهم يتمتعون بحياة كريمة فى بلادهم وبعضهم بلغ مرحلة الشيخوخة، التى يحتاج فيها إلى الراحة.. لكنهم جميعا يتمتعون بضمير إنسانى يقظ جعلهم يرفضون أن يقفوا متفرجين على تجويع مليون ونصف مليون فلسطينى فى غزة، بعد حصار إسرائيلى خانق استمر لأكثر من عامين ومجزرة استعملت فيها إسرائيل الأسلحة الممنوعة دوليا مما أدى إلى مقتل ألف وأربعمائة شخص معظمهم من المدنيين إن هؤلاء الشرفاء، الذين جاءوا من بلادهم ليدافعوا عن حقوق أهلنا فى فلسطين، مجرد عينة من محبى السلام والعدالة فى الغرب.. هؤلاء الذين يتظاهرون ضد العنصرية وتوحش الرأسمالية وسياسات العولمة وتدمير البيئة بواسطة الشركات الصناعية العملاقة.. الذين خرجوا فى مظاهرات بالملايين لإدانة العدوان الأمريكى على العراق، وهم وإن كانوا لم ينجحوا، حتى الآن فى التأثير على صناع القرار فى حكوماتهم إلا أنهم يتبنون حركة واسعة تزداد قوة وشعبية يوما بعد يوم.

ثانيا: الدرس الذى يقدمه هؤلاء الناشطون الأجانب أن واجبنا الأول الدفاع عن المضطهدين فى أى مكان وأن انتماءنا للإنسانية يجب أن يسبق أى انتماء آخر، السؤال هنا: هل يعتبر أى واحد منا نفسه فى المقام الأول مسلما أو قبطيا أو عربيا أم أنه يعتبر نفسه إنسانا قبل أى شىء..؟ الإجابة الصحيحة ليس فيها تناقض. لأن الديانات جميعا جاءت لتدافع عن القيم الإنسانية الكبرى: العدل والحق والحرية.. لكننا فى اللحظة، التى نعتبر فيها أنفسنا أفضل من سوانا فى الدين أو العنصر سرعان ما ننحدر إلى الكراهية والتعصب.. فى نفس الأسبوع الذى وصل فيه هؤلاء الأجانب حاملين المساعدات إلى أطفال غزة صدرت دعاوى متطرفة مؤسفة فى مصر تحذر المسلمين المصريين من مشاركة إخوانهم الأقباط فى الاحتفال بعيد الميلاد المجيد.. هنا تتمثل أمامنا رؤيتان متناقضتان للعالم.. واحدة متسامحة تدافع عن حقوق البشر جميعا بلا تمييز والأخرى متطرفة تكره المختلفين عنها وتحتقرهم ولا تعترف بحقوقهم.. إن معظم هؤلاء الناشطين الأجانب ينتمون إلى الديانة المسيحية وبعضهم يهود، لكنهم معادون بشدة لسياسة إسرائيل الإجرامية. وقد جاءت معهم سيدة على كرسى متحرك عمرها 85 عاما اسمها هيدى ابستين، وهى إحدى الناجيات من المحرقة التى أقامها النازيون لليهود، وبالرغم من شيخوختها وصحتها المتدهورة.. أصرت هذه السيدة على أن تحمل بنفسها الطعام والهدايا لأطفال غزة لعل فى هذا التضامن الإنسانى الراقى ما يجعلنا نتريث قبل أن ننساق إلى الأفكار المتطرفة، التى ترى فى المسيحيين واليهود، جميعا بلا استثناء أعداء للإسلام والمسلمين.

ثالثا: الاعتداء الهمجى العنيف الذى تعرض له هؤلاء الناشطون على أيدى أفراد الشرطة المصرية، تم تصويره بعشرات الكاميرات وهو يبث الآن عبر الإنترنت فى كل أنحاء العالم.. وقد رأيت بنفسى تسجيل فيديو يظهر فيه ضابط مصرى، وهو يجذب متظاهرة أجنبية من شعرها ويسحلها على الأرض ثم يوسعها ضربا وركلا بيديه وقدميه.. هكذا يثبت النظام المصرى أنه لم يعد يتورع عن ارتكاب أى جريمة من أجل إرضاء إسرائيل حتى تضغط على الإدارة الأمريكية لتقبل بتوريث الحكم من الرئيس مبارك إلى ابنه جمال.. ما زالت وسائل الإعلام المصرى مستمرة فى ترديد الأكاذيب من أجل تبرير جريمة الجدار الفولاذى، الذى يقضى على آخر فرصة للفلسطينيين فى الحصول على الطعام والدواء.. كل يوم يخرج علينا منافقون من أعضاء الحزب الحاكم ليؤكدوا أن الجدار الفولاذى ضرورى وأن الأنفاق بين مصر وغزة تستعمل فى تهريب المخدرات وفتيات الليل الروسيات (!).. هذا الكلام الخائب لم يعد يقنع أحدا.. إن سمعة النظام المصرى، العربية والدولية، لم تكن فى أى وقت أسوأ مما هى عليه الآن.. إن عبارة «تواطؤ الحكومة المصرية مع إسرائيل فى حصار غزة» تتردد الآن بقوة فى وسائل الإعلام العالمية على أن الاعتداء على الناشطين الأجانب يكشف أيضا أن الحكومات الغربية واقعة بالكامل فى قبضة التأثير الصهيونى، فهؤلاء الأجانب الذين تم سحلهم وضربهم فى القاهرة، لو تعرضوا لأقل اعتداء فى ظروف عادية، لكانت سفاراتهم قد بعثت إليهم فورا بمندوبين ومحامين وبذلت كل جهدها للحصول على حقوقهم. لكنهم هذه المرة يمارسون نشاطا علنيا معاديا لإسرائيل وبالتالى لاذت سفاراتهم فى القاهرة بالصمت.. بل إن الحكومات الغربية، التى تثير ضجة كبرى عندما يقمع المتظاهرون فى الصين أو إيران (أو فى أى دولة تتبنى سياسات معادية للغرب).. لم تنطق بكلمة وهى تشاهد مواطنيها يسحلون فى شوارع القاهرة.. والسبب أنهم يتظاهرون ضد إسرائيل، التى لا يستطيع سياسى غربى واحد أن يغضبها ويفلت من العقاب.

أخيرا.. يبقى سؤال محرج: إذا كان هؤلاء الأجانب قد قطعوا آلاف الأميال وتركوا حياتهم المريحة ليفكوا الحصار عن أطفال غزة.. فماذا فعلنا نحن المصريين..؟!..ألسنا أولى من الأجانب بنصرة أهلنا فى غزة..؟

صحيح أن المصريين جميعا متعاطفون تماما مع إخوانهم فى غزة لكن رد فعل الشارع المصرى يظل أقل بكثير من الواجب.. لماذا لم يخرج ملايين المصريين إلى الشوارع ليضغطوا على النظام من أجل فك الحصار عن غزة..؟ الأسباب عديدة وأولها القمع.. فى البلاد الديمقراطية من حق الإنسان أن يتظاهر تعبيرا عن رأيه، المظاهرات هناك تخرج فى حماية الشرطة.. أما فى مصر، المنكوبة بالاستبداد، فإن كل من يتظاهر يتعرض إلى الاعتقال والضرب والتعذيب فى مباحث أمن الدولة.. أضف إلى ذلك أن كثيرا من قادة الرأى العام فى مصر إما متواطئون مع الحكومة أو خائفون من إغضابها.. وهكذا بينما كان الناشطون الأجانب يتلقون ضربات الأمن المركزى وهم يهتفون «الحرية لغزة».. لزمت أحزاب المعارضة المصرية الصمت البليغ بينما اكتفى الإخوان المسلمون بإدانة الجدار فى مجلس الشعب ولم ينظموا مظاهرة واحدة فى الشارع.. ويبدو أن تنظيم المظاهرات عند الإخوان المسلمين، مسألة صعبة للغاية تخضع لحسابات معقدة لم يعد بمقدور أحد أن يفهمها.. وقد فوجئ المصريون بفتاوى شرعية رسمية تؤكد أن إقامة الجدار الفولاذى لخنق الفلسطينيين حلال شرعا.. هكذا أكد أعضاء مجمع البحوث الإسلامية وشيخ الأزهر ومفتى الجمهورية ووزير الأوقاف.. أما مشايخ السلفيين فقد أبدوا تعاطفهم الكامل مع أهل غزة لكنهم فى نفس الوقت نهوا أتباعهم بشدة عن التظاهر.. وهم يؤكدون أن المظاهرات غير مفيدة إطلاقا لأنها لن تغير شيئا كما أنها قد تضم نساء سافرات غير محجبات (!).. هذا المنطق المتخاذل، الذى يخلط الأولويات يفسر سبب تسامح النظام المصرى الدائم مع مشايخ السلفيين، الذين يتشددون دائما فى العبادات والمظاهر، أما فى السياسة فهم يعرفون الخطوط الحمراء جيدا ولا يتجاوزونها أبدا.

إن المصريين، مثل الفلسطينيين، محاصرون تماما بجدار فولاذى من الاستبداد والظلم والقمع يخنقهم ويحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية.. الجدار واحد والهم واحد والخلاص أيضا بإذن الله واحد.

..الديمقراطية هى الحل..

علاء الأسواني طبيب أسنان وأديب مصري ، من أشهر أعماله رواية عمارة يعقوبيان التي حققت نجاحا مذهلا وترجمت إلى العديد من اللغات وتحولت إلى فيلم سينمائي ومسلسل تليفزيوني ، إضافة إلى شيكاجو ونيران صديقة ، وهو أول مصري يحصل على جائزة برونو كرايسكي التي فاز بها من قبله الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا ، كما أنه صاحب العديد من المساهمات الصحفية.
التعليقات