لُوجوُرِيا - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 2:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لُوجوُرِيا

نشر فى : الخميس 4 يوليه 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 4 يوليه 2013 - 8:00 ص

 شىء عجيب. كأن البلد استُبدل ببلد آخر فى عشرين يوما فقط. يفتح صاحبنا عينيه على الشارع الذى يمضى فيه فلا يجد مجرد ورقة ملقاة فى الطريق. حركة المرور منسابة فى نعومة وما من بوق يزعق أو فرملة تزمجر برغم سيل السيارات. الأسفلت نظيف والرصيف الذى انبرى فتيان وفتيات المدارس فى إعادة طلاء أفاريزه بالأبيض والأسود يشرق تحت الشمس. حديقة الجزيرة الوسطى فى الشارع مؤنَّقة وخضرتها زاهية نضرة. يتوقف مغلقا عينيه فى ركن من الرصيف ويأخذ شهيقا عميقا فيحس بامتلاءٍ منعش وكأنه يتنفس فى حديقة على جبل يطل على محيط.

 

منذ أربعة وعشرين يوما خرجت أكبر مظاهرة فى تاريخ البلاد وربما تاريخ البشرية تطالب برحيل الحاكم الذى فشل حكمه وانحدر بالأوضاع إلى أتعس أحوالها وشق صفوف الأمة بانحيازه إلى جماعته الإقصائية وأنصاره المتعصبين دعاة العنف. ثلاثون مليونا من البشر خرجوا إلى معظم شوارع وميادين البلاد يهتفون سلميا بكلمة من حروف أربعة: «ارحل. ارحل. ارحل». فيضان هادر من كل أطياف الأمة باستثناء جماعته وأنصاره خرجوا يهتفون بالكلمة. وكانوا فى خروجهم منشرحى الصدور ومشرقى الوجوه كأنهم يحتفلون بعيدٍ كبيرٍ جامع. آباء شبان مع زوجاتهم ومعهم اطفالهم. أمهات مسنات يتساندن على أذرع أبنائهن والأحفاد. فتيان وفتيات وشبان وشابات وكهول وشيوخ كلهم كانوا يهتفون بلا خوف مطالبين ذلك الحاكم بالرحيل عن سماء أيامهم وهم يلوحون بأعلام البلاد. ملايين الأعلام ذات الألوان الثلاثة.. الأحمر البهيج والأسود النقى والأبيض الناصع.

 

بدت هذه الأعلام مظلة ملونة خفاقة امتدت على مساحة ملايين الامتار التى سارت فيها أقدام ملايين المطالبين برحيل رأس ذلك النظام الذى جر البلاد فى فترة وجيزة إلى مستنقع من التكاره فى النفوس وأكوام القمامة فى الشوارع وعصبية الفوضى وانتشار استباحة الناس ببلطجة من كل نوع ولون. بلطجة استيلاء مقربين غير أكفاء على مفاصل الدولة لتمكين هذا الحاكم وجماعته من الحكم إلى الأبد. وبلطجة جنائية موازية فى حوادث الاختطاف وسرقة السيارت بالسلاح وحوادث الاغتصاب والتحرش.

 

هرم من الجريمة تربع على قمته ذلك الحاكم بممارسات شبه إجرامية بررت إجرام من هم أدنى وأبأس. وضع دستورا بالإكراه ليناسبه واختلس حق التشريع لمجلسٍ مَسْخ. غرس نائبا عموميا لم يكن غير هراوة يهوى بها على رؤوس معارضيه ورأس العدالة. ونزولا من قمة ذلك الهرم الأغبر راحت تتدنى درجات الإجرام حتى سفول جنايات الضائعين والمتعطلين والغارقين فى مستنقع اليأس فى دولة أوشكت على الفشل تحت حكمه.

 

منذ واحد وعشرين يوما كانت قمة خروج عشرات الملايين منادية برحيل هذا الحاكم. وبعد ساعات تجاوبت معها الشرطة التى كانت قد تعرضت لمؤامرة تدمير مؤسستها عندما اشتعلت ثورة اختطفها هذا الرجل وجماعته بشعارات دينية خدعت الناخبين وحيل انتخابية لاشرف فيها. وفى يوم الخروج العظيم ذاك ترك ضباط الشرطة وأفرادها أنفسهم لقلب الطوفان الرافض البهيج فاحتضنهم وهتف لهم وهتفوا له. وما هى إلا ساعات حتى صدر البيان الأول من القوات المسلحة الوطنية بالوقوف إلى جانب الشعب الذى طال ترويعه دون أن يحنو عليه أحد من عصابة هذا الحكم. وراحت طائرات الهليكوبتر العسكرية تطوف فى سماء ملايين الأرواح الهاتفة والأعلام الخافقة بأعلام الوطن والجيش والشرطة مفتوحة بإصرار ومُدلَّاة بنسق بارع أسفل الحوامات الطوافة بمحبة فوق طوفان الميادين والشوارع.

 

فى اليوم التالى لرحيل ذلك الحاكم وانزياح سطوة جماعته بدا أن البلاد تولد فجأة من جديد. تولد فتية وناضجة وقادرة لا على السير فحسب بل على القفز عاليا وبعيدا فى الأفق البديع. تواشُج جهاز الشرطة العائد إلى أحضان أهله والجيش الوطنى ذى المروءة كانا إشارة بدءٍ للعهد الجديد. ثم كان هناك القضاء الذى عاد بكامل أبهته وشموخه ينشر الإحساس بصحوة العدالة حتى قبل أن يقضى بالعدل فى تلال المظالم المعروضة عليه من بقايا ذلك الحكم. مثلث القوة والقانون أعاد شحن بطارية ساعة الوطن الذى توقف زمنه مع ذلك الحاكم وجماعته فعادت هذه الساعة تنبض بانتعاش وتتقدم عقاربها بسلاسة. واستقرت فى أيام قليلة قاعدة هرم الاحتياجات الإنسانية الذى كان مفقودا فى عهد ذلك الحاكم الصدفة. وسماها الناس «أيام القاف قاف». أيام القوة التى تحمى القانون.

 

ثلاثية القضاء والشرطة والجيش. أدوات ترسيخ قاعدة هرم الاحتياجات الإنسانية الممثلة فى الشعور بالأمن والعدالة أطلقت سراح كل الطاقات التى أحبطها النظام الزائل فشرع الناس من تلقاء أنفسهم يبادرون بالأفضل والأجمل. النظافة. الدقة. احترام الوقت. التهذيب. الاحترام المتبادل. التراحم. المصالحة حتى مع من كانوا من تابعى الرجل ونظامه ولم تتلوث أياديهم بدم أو تتوسخ بنهب. وطن جديد وُلِد فى أيام قليلة وأخذ ينمو فى سرعة خارقة. مصانع تعمل بكامل طاقتها. مزارع تفور بحمية الفلاحين وأغانيهم. وطن صار بديعا ووديعا كأنما فجأة فخطف أنظار العالم وأثار انبهاره. ولم يكد يمضى أسبوعان حتى عادت أفواج السياح تتدفق على هذا البلد لتَنعَم بأطايب أهله وأرضه وتراثه الذى انجلى عنه الغبار بعد انقشاع الحاكم الصدفة ومن معه ووراءه.

 

فتح صاحبنا عينيه بعد الشهيق العميق المُنعش مفزوعا. فلم يكن ذلك الهواء بالغ النقاء الذى تنفسه فى تلك الشوارع الآمنة المتحضرة النظيفة سوى حلم. وهاهو الحلم يتلاشى فى الصحو على كابوس. كابوس ذلك الحاكم الذى وضح أنه لم يستجب لنداء العقل ولا تحكيم بقية الضمير. ماذا حدث بالأمس ؟ لقد توقعت الأمة أن يعلو الرجل على ذاته ويقبل بخروجٍ آمنٍ كريمٍ من الحكم نزولا على رغبة الشعب. وكان الناس مفتوحى الأذرع والأحضان لقبوله بينهم مواطنا عاديا ينعم بما يحلمون أن ينعموا به من حرية وكرامة وعدالة. لكنه خرج عليهم بخطاب قرب منتصف الليل عجيب غريب. خرج يتكلم ويعيد الكلام كعادته المكرورة التى تصوروا أنه سيغيرها فى تلك اللحظة الفاصلة. مفردة واحدة كانت مدار الثوانى ثم الدقائق ثم الساعات التى أوغل فيها الخطاب الفارغ إلا من تشبثه بكرسى الحكم. عاد إلى ما عرفوه عنه من إسهاب ممل وجعجعة مكررة وآماد مُنهِكة فى خطب تهد القلوب ولا تُهديها. عاد إلى مايعرفه عنه المحيطيون به فى قصر الحكم والذين كانوا يوصون الإعلاميين الرسميين والتابعين بأن يراعوه عندما يجرون معه حديثا: « لاتتركوه يسترسل فى الكلام». وبالأمس استرسل. لم يغادر مرضه الذى لايفطن إليه كثيرون ويرجحه ويعرفه صاحبنا: «لوجوريا» LOGORRHEA.

 

لقد نام صاحبنا بالأمس، بينما الحاكم الصدفة يواصل خطابه الذى يدور فى متاهة حلزونية لاتنتهى. لوجوريا عدم القدرة القهرية على التوقف عن الكلام. لوجوريا الخلل فى التواصل الذى ينبئ عن احتمال خلل فى منطقة القشرة المخية بالفص الجبهى المرتبطة بالكلام. يضعه البعض ضمن أعراض المرحلة الهوسية من الاعتلال النفسى ثنائى قطبية الهوس والاكتئاب. ويضعه آخرون ضمن الإصابات الموضعية فى قشرة المخ بمنطقة المِهاد.

 

صحا صاحبنا على الدنيا راكدة مكدسة بأكوام الزبالة والفوضى والإحباط. لايعرف إن كان الرجل قد توقف عن الكلام أم لا. وإذا كان توقف فمتى توقف. فالشاشة التى كان يتابع خطابه عبرها أطفأها أحدهم عندما غلبه النوم من شدة الإجهاد والإحباط. ورجَّح أن يكون الرجل لم يخرج من متاهة لوجورياه الحلزونية إلا بتشبثه بحُكم لم يحسن القيام بمهامه. تنفس صاحبنا هواء صبح حار ورطب ومشبع برائحة قمامة لم تبرح أماكنها فى الشوارع وعلى الأرصفة. وتنهد متألما من عَنَت الضرورة للنزول إلى الشوارع مع الملايين بصيحةٍ وعلم خفاق.. من جديد.

 

........................................

 

ملحوظة: ما سبق مسودة قصة أهديها إلى أستاذنا الدكتور أحمد عكاشة اعتزازا بعلمه ومودَّته وحسن ظنه بى، ووجلا من أن أكون أخطأت التشخيص، فقد كتبتها دفعة واحدة فى ساعة واحدة من ضحى الأمس دون مراجعة. أرحب بالمراجعة.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .