جيليه عبدالحليم - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 1:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جيليه عبدالحليم

نشر فى : الخميس 4 أبريل 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 4 أبريل 2013 - 8:00 ص

«مجرم من لا يحب الموسيقى» قالها دوستويفسكى منذ أكثر من قرن، ولم تكف مقولته عن إثبات صحتها، ولأن الغناء هو صوت الموسيقى البشرية، فإن كاره الغناء مجرم بطريقة ما. ولاحظوا معى كيف أن الظواهر العدوانية، ذات القلب الإجرامى والأقنعة العديدة، تنتشر فى الفترات التعيسة التى يُستكرَه فيها ويُحارَب حب الغناء وتذوق الآداب والفنون، لأن ذلك يرتبط بنشوفية القلب ومواته، ويرتبط بتمويت خاصية بثها فينا رب العالمين، تجعلنا نغتسل من كدر الدنيا بصوت الغناء عندما تنعكس على صفحة دواخلنا أشجان وعذوبة ومباهج الأغانى، وكذلك جماليات الآداب والفنون، فعلم دراسة الأعصاب منذ ثلاثين عاما أو يزيد، يشغله اكتشاف مبهر لخلايا عصبية فى المخ أسماها مكتشفها عالم فسيولوجيا الأعصاب الإيطالى جياكومو ريزولتِّى: «العصبونات المرآتية» MIRROR NEURON، وهى بالانعكاس تجعلنا ننفعل بكل ما ندركه رؤية وسماعا وقراءة، فالأغانى التى تشجينا تجعلنا نعيش حياة الأغنية وعواطف المغنى، فتهز أرهف وأعمق أوتارنا، تهدهد قلوبنا وترقرق الشجون، تعيد إلينا ما فقدناه شعورا، وتروى حنيننا بحنان رحيم. فحب الغناء فطرة لا يجافيها إلا قلب سقيم، وما أكثر القلوب السقيمة فى أيامنا الفظة هذه، التى لا يستطيع شاهد عدل إن ينكر ثقل وتكاثف ما تنضح به من إجرام، إجرام سياسى وإجرام جنائى، إجرام بأقنعة دينية، وإجرام بسفور دنيوى. وفى واقع كهذا، تأتى ذكرى رحيل عبدالحليم حافظ فى 30 مارس 1977، فتذكرنا بشجو أغانيه، وتحضرنى من زمنه حكاية..

 

كنت صبيا بينما كانت ظاهرة تقليد عبدالحليم حافظ تجتاح حناجر وقلوب الشباب، حتى لكأن فى كل حارة أو زقاق واحدا يقلد عبدالحليم حافظ، ويزعم أو يزعم مشجعوه أنه يكاد يكون عبدالحليم نفسه، وطبعا كان هناك بين صوت عبدالحليم وكثيرين ممن عرفتهم بين مجانينه أميال وفراسخ، لكن ثمة شيئا حقيقيا كان موجودا ويماثل غناء عبدالحليم فى غناء المتشبهين به، هو «الإحساس»، فعبدالحليم كان قلبا يغنى، وكانت قلوب مقلديه الشابة تعيش أحاسيسه، لأنهم بالبديهة كانوا فى عمر الحب، شبانا صغارا، يحلمون بالحب أو يعيشون بداياته، لهذا كان غناؤهم جميلا أيَّا كانت أصوات حناجرهم وأشكال جسومهم، ومن هؤلاء اثنان كانا صديقين ومتنافسين فى حب عبدالحليم، وكانا برغم رعشة العاطفة فى صوتيهما الجهوريين أبعد ما يكونان شكلا عن عبدالحليم، فهما قويا البنية، بعضلات مفتولة، أحدهما صلاح ابن عمى، وصديقه محمد عوض الذى كان بطلا فى كمال الأجسام له شكل مصارع وتسريحة شعر عبدالحليم، وكان نجما فى «نقوط» الأفراح، لأن نقوطه كان أغنية من أغانى عبدالحليم، أما صلاح ابن عمى فكان مشرفا زراعيا فى الصباح، ويعمل بقوته الضاربة فى ورشة أبى وأعمامى بعد الظهر، يستملح صوته عندما يجأر بالغناء تحت سقف الورشة العالى الذى يجلو الغناء بأصداء مؤثرة ورنين صافٍ، وله قدرة عجيبة على مواصلة الغناء من الظهيرة حتى الليل دون توقف، لكنه لم يكن منفرا ولا مزعجا فيما تختزنه ذاكرتى كواحد من المستمعين الجبريين لغنائه فى بيتنا الذى يعلو الورشة. كان من مجانين عبدالحليم هو وصاحبه، وقد اجترحا فى هذا الجنون مأثرة ترجَّعت أصداء مجدها فى آفاق المنصورة حينها.

 

صلاح ومحمد عوض، لم يحتملا تباريح الوجد تجاه محبوبهما، فشدَّا الرحال من المنصورة إلى القاهرة وقررا أن يرياه وجها لوجه مهما كان الثمن، وبالفعل وصلا بعد ضياع يومين إلى مسكن عبدالحليم فى الزمالك، وبقوة المحبة اقتحما شقته فاستقبلهما عبدالحليم بشوشا مدهوشا، وصبر عليهما صبرا جميلا وهما يُريانه كيف يؤديان أغانيه، وأكثر من هذا ألحَّا عليه أن يأخذا منه تذكارا، وكان يرتدى «جيليه» ظهر به فى أحد الأفلام فأشارا إلى الجيليه بتردد، وخلعه عبدالحليم دون تردد ليمنحهما إيَّاه وهو يتلوَّى من شدة الضحك! دوت قنبلة ذلك الجيليه فى حيِّنا، وتوافد غير المصدقين من عشاق العندليب، ولعلهم كانوا مئات، أو حتى آلافا، ليروا المعجزة المقسومة على اثنين!

 

لقد قرر الصديقان بعد حصولهما على الكنز، أن يتناوبا على ارتدائه وقد صار من معالم الحى والأحياء المجاورة وربما المنصورة معظمها فى ذلك الزمن الجميل، وفود وراء وفود كانت تأتى لترى «جيليه» حقيقيا لعبدالحليم حافظ ظهر به فى السينما، ولابد أن هالة الجيليه الحقيقى لمحبوب الملايين قد أبهرت عيون المحبين، فلم يلتفتوا لمفارقة أن جيليه عبدالحليم نحيف ورقيق العود كان يبدو وكأنه يتفسخ بفعل امتلاء الجسدين المتينين اللذين كانا يتبادلان ارتداءه بجدول محدد الأيام، ومعروف للجميع، أى الأيام لصلاح وأى الأيام لمحمد عوض، أما مشاهدة المعجزة فهى مفتوحة للجميع من كل الأرجاء طوال أيام الأسبوع!

 

لم يكن الناس فى تلك الأيام كفارا، ولا كانوا فاسقين، بل أوقن بأن التدين فى ذلك الزمن الجميل كان جميلا وصادقا أيضا، ولوجه الله تعالى لا لوجهة أخرى، فلم تكن هناك تجارة للدين فى دنيا النفوذ والفلوس، ناهيك عن أكاذيب استثمار الدين فى السياسة. كان ذلك المناخ المتسامح لا يُشيطن الغناء، وكانت الشياطين أقل عددا وأوهن عضدا مما هى الآن، ولعل فى استعادة الغناء الجميل ما يُجمِّل بعضا من القبح الذى نعيشه، وهو بالتأكيد نوع من العلاج النفسى الذاتى لإزاحة الكثير مما ينهال علينا من كدر الغلظة والغباوة التى صار أصحابها مديرى شئون هذا الزمان، فالخلايا المرآتية فى أدمغتنا تجعلنا نُعايش ما تشدو به الأغانى، وتجعلنا هذه المعايشة نستعيد لحظات حلوة من أعمارنا، وهذا فى علم النفس نوع من التطهير النفسى المُستحدث NEW CATHARSIS، يماثل ما نحصل عليه من الالتقاء والائتناس باصدقاء وأحباء قدامى، لكن الأغانى تتفوق على ذلك بجعلنا نستحضر، بعواطف غامرة، أصدقاء وأحباء ربما لم يعودوا فى حياتنا ولا حتى فى الحياة. بل يصل الأمر بالكائن البشرى إلى مُعايشة تجارب حب وألوان ود لم يعشها إلا فى خياله، فتنساب أندروفينات الارتياح والنشوة السامية لتغسل تعب النفس والروح. فأى نعمة بديعة بثها الله فينا بتلك المرايا الحية فى دواخلنا؟! وقد أدهشنى وأنا أستعيد سماع عبدالحليم فى ذكرى رحيله، أن أجد ما أسلفته من مقاربة نفسية عضوية ماثلا فى كلمات أغنية لعبدالحليم. فلنتأمل، ويُستحسَن أن نسمع الأغنية ونحن نتأمل:              

 

أحن إليك

 

مع جراحى أحن إليك وأقول يمكـن يداوينى

 

فى أفراحى أحن إليك وأتمنى توافينى

 

أحن إليك وأنادى الماضى من دنياه

 

أحن إليك وأعيش ويَّا الهوى وذكراه

 

وأقول أنساك ألاقى هواك يـنادينى

 

أحن إليك

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .