مُجابهة التمويظ - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 1:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مُجابهة التمويظ

نشر فى : الخميس 3 نوفمبر 2011 - 9:40 ص | آخر تحديث : الخميس 3 نوفمبر 2011 - 9:40 ص

أُقدر مقولة إن «التاريخ يكرر نفسه ولكن بصورة ساخرة أحيانا»، ولكننى أعدلها قليلا حيث أرى أن تكرار التاريخ لنفسه فى عالمنا العربى يشكِّل مسخرة فى معظم الأحيان، وهذا ما يجعلنى مضطرا الآن لتكرار ما عبَّرت عنه سابقا حيال جريمة تمويظ عربية كان طرفاها فتح وحماس، عندما اشتبكا فى اقتتال لم يكن دافعه طلب الحق بقدر ما كان حافزه باطل الرغبة فى الاستئثار بالسلطة والنفوذ، سلطة على سجن! ونفوذ داخل سجن!

 

التمويظ الذى عنيته حيال الاقتتال الفلسطينى الفلسطينى من قبل، والذى أعنيه حيال الاشتباكات المصرية المصرية حاليا، هو نظير ما يحدث بين اثنين من ثيران الموظ يتنافسان بغباوة للفوز بأنثى مغوية، فينتهيان إلى مصيدة ذاتية تقرر لهما نهاية بشعة، وأبشع منها ذلك التهديد الذى تستدرجه هذه النهاية الفردية لأمن الجماعة ككل، وهذا يحدث فى عالم «الموظ»!

 

والموظ، كما أسلفت، نوع من الأيائل الضخمة ذات الظلف تحيا فى منطقة المراعى القطبية الشمالية، أو «التوندرا»، والتى تغطيها الثلوج معظم السنة باستثناء ثلاثة أشهر لدفء محدود لا ترتفع درجة الحرارة فيه على 10 درجات مئوية، تسمح بالكاد بنمو غطاء عشبى شديد الفقر، وتدفئ الدماء فى عروق ذكور الموظ، فتنبت فى رءوس هذه الذكور قرون تنمو بسرعة عجيبة، تتسع وتتشعب ويكسوها زغب قطيفى، لتبدو كأزواج من مظلات جريدية مفلطحة تتوج الهامات! وهى ليست مظلات فقط، بل هى أجهزة تكييف مدهشة، تسحب الحرارة من داخل الجسوم، وتبددها عبر الزغب، فيبرد الجسم الحرّان ويُنفِّس عنه الكثير مما يتسلل إليه من «سخونة» الجو.

 

آلية ربانية مذهلة العبقرية لمنع غليان الدماء فى عروق كائنات متآلفة مع الصقيع والجليد وشديدة الحساسية للحرارة، خاصة الذكور الذين تهدد الحرارة النسبية الزائدة خصوبتهم، ولعل هذا هو السر الإلهى فى اختصاص الذكور دون الإناث بهذه القرون المُبرِّدة، لكن التنافس الذكورى الدميم يجلب الغليان السلوكى لرءوس بعض الذكور، فلا نعدم موظين فحلين تعميهما غواية الاستئثار بموظة مغرية، يندفعان فى العراك متناطحين بقرونهما المُحلِّقة، وتكون لتناطحهما ضوضـــاء تمــــــلأ الآفاق وتشـــــل حركـــــــــة القطيع رعبا من هول التناطـــح، فيعجــــــز آباء القطيــــــع وأمهاتــــــــه عن إيقاف الاقتتال.

 

لا يستمر القتال بين الموظين طويلا بل يخمد كالنار التى تأكل نفسها بنفسها، ويرتمى الفحلان على الأرض معا وفجأة، فقد تشابكت قرونهما تشابكا لا قدرة لهما ولا لغيرهما على فك التحامه. ولا يكون أمام القطيع المصدوم إلا تركهما والمضى بعيدا عن بقعة ورطتهما المشئومة، فثمة ضرورات لسد الجوع وإرواء العطش وإرضاع الصغار من حليب ما تأكل الأمهات وتشرب، وثمة رعب متوقع من الضوارى التى ستجذبها أصوات وروائح لهاث فريستين، مكبلتين بالقرون، وجاهزتين للأكل!

 

 فى عراء «التوندرا» التى تعصف بها الرياح الباردة الهُوج، يواجه الموظان المشتبكان مصيرين لا ثالث لهما: إما أن يموتا فى المكان جوعا وعطشا ثم ينتفخان وينفجران وتجذب روائح عفنهما ضباع الشمال وعقبان الثلوج وديدان الأرض. وإما أن يتم نهشهما حيين بأنياب ثعالب الثلج وذئاب الجليد ومخالب الدببة القطبية، وهى أنياب ومخالب لا تشبعها وجبة واحدة من موظين، لأن لواحم المنطقة القطبية الشمالية كما معشبيها، لا تأكل لمجرد الشبع، بل تأكل لتكدس رصيدا من الشحم واللحم تسحب منه ما يبقيها على قيد الحياة طوال أشهر الشتاء البارد المعتم الطويل، فبعد أن تقضى الضوارى على الموظين المربوطين بالقرون، ستهاجم بقية القطيع، وتفترس منه الدانى والطرى والبطىء، أى الصغار. لهذا لا تأسى جماعة الموظ على الغبيين المطروحين على الأرض، فتسارع بالفرار لتنجو بصغارها وكبارها، مصغية لنداء الحياة والنجاة، وملبية دعوات أرض الله الواسعة، الواعدة بالأمان والعشب.

 

هذه الهجرة التى تنقذ جماعة الموظ من دفع فاتورة دامية ثمنا لغباوة ذكرين منتسبين لها، تمثِّل ترفا يعز على المجتمعات البشرية المأزومة بل يستحيل، فالدنيا باتت مثقلة بسكانها الذين بلغ تعدادهم يوم الاثنين الماضى سبعة مليارات نسمة، ثم إن هناك حدودا وجوازات سفر وتأشيرات دخول، وما من هجرة بغير ذلك إلا بزوارق متهالكة تغرق بمعظم راكبيها قبل أن تبلغ شواطئ الحلم أو الوهم. فماذا يفعل الناس أمام جرائم التمويظ البشرى الذى يرتكبه أفراد كذبة لغايات شخصية دنيئة واضحة، ليس من بينها أبدا تلك الغايات التى تحركها دوافع مشروعة لدى ذكور حيوانات الموظ، فى نطاق غريزة التزاوج وهدف استمرار النوع. فماذا تفعل الجماعة البشرية حيال أمواظها البشر؟

 

ماذا تفعل جماعة المصريين حيال اشتباكات غبية وأنانية لأمواظ من المصريين، يقامرون بأمان ونهوض أمة، ليحوذوا نفوذا تتشهاه نفوسهم النرجسية وينالوا سلطة تتلمظ عليها ساديتهم المخبأة؟ ماذا تفعل الأغلبية المصرية التى يتاجر فيها طائفيون متعصبون، وفئويون متربصون، وذيول وفلول.. جميعهم لا يبتغون وجه الحق، بل يتطلعون إلى طيف سلطة، أى سلطة، وصولجان تسلط؟!

 

ماذا يفعل سرب أمتنا الممثل للأغلبية الصامتة فى مواجهة عبث وجنوح وإجرام تلك الاشتباكات والتقاذفات العدوانية التى تنتشر فى أكثر من موقع، وتجتذب إليها أكثر من شر؟ ومنها، على سبيل المثال الصارخ الواضح الفاضح القريب: ما يحث من تحريض وإزكاء لنار الفتنة بين القضاة والمحامين، ويرتكبه أفراد محددون واضحو الدوافع الشخصية المتهافتة أو خفيو النوايا التخريبية اللئيمة، دون أى اعتبار من ضمير لصالح الأمة المُرهَقة التى تنشد الطمأنية وترتجى الأمان، ولا يسأل معظم أبنائها الله إلا الستر والعافية؟

 

هل ينتبه الطيبون والمخلصون والشرفاء الكُثر فى جماعة المحامين كما جماعة القضاة، أن ذلك الاشتباك الذى ظاهره الكرامة الفئوية، إنما يصب فى صالح حفنة من المحرضين من الجانبين ويفتك بقلب الدولة؟ وهل هناك قلب للدولة أكثر وجيبا من جناحى العدالة الممثَّلين بالقضاء والمحاماة، بعد أن قصم المُجرمون ظهرها الأمنى ولا يزالون يفعلون؟ أم أن الشعور بالمسئولية الوطنية والأخلاقية والروحية التى هى فوق كل الذوات المنتفخة بأناها، باتت فى خبر كان، ومن ثم صارت كينونة الأمة فى خطر فوضى تبرر أو تمهد لصرخة الفزع الأكبر، وطلب الأحكام العرفية؟!

 

نسأل الله بحق هذه الأيام المباركة أن يراجع مشعلو الحرائق أنفسهم فى رحاب أيام العيد التى تغسل بالروحانية والود أدران النفوس، وإن لم يفعلوا فلتكن لنا عنهم هجرة جماعية، لا كهجرة جماعة أيائل الموظ بعيدا عن فخاخ وتهديد حماقة بعض فحولها، ولا كهجرة زوارق الغرق إلى شواطئ غريبة باتت مكتظة بأصحابها، بل هجرة فى هجران يبتعد بنا عن كل هذا الشر الذى يستسهل إيقاد نيرانه مشعلو الحرائق هؤلاء، من كل لون وصنف وملة.

 

حفظ الله الخير فى بلادنا وناسها.. وكل عيد وأنتم بخير.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .