أغاني العمل والأمل : الشيخان سيد مكاوي وإمام عيسى - ياسر علوي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 4:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أغاني العمل والأمل : الشيخان سيد مكاوي وإمام عيسى

نشر فى : السبت 3 مايو 2014 - 7:15 م | آخر تحديث : السبت 3 مايو 2014 - 7:15 م

-1-

خلق الإنسان عاملا ومبدعا. تاريخه على الأرض، هو قصة انتقاله من مرحلة تلقي ما تجود به الطبيعة عليه (جمع الثمار، وقنص الحيوانات) إلى مرحلة العمل على الطبيعة وتغييرها.

هذا العمل إذن، هو ما صنع لنا كل ما نعرفه من حضارات، وأنتج كل ما نسميه ثقافة وإبداعا. فقصة تاريخ البشر وحياتهم، هي قصة ما عملوا، وكيف عملوه، ثم كيف اقتسموا ثمار عملهم.

فالعمل الإنساني بطبيعته لم يكن ممكنا أن يكون نشاطا فرديا، وإنما نشاطا جماعيا، يتكاتف فيه البشر، وتنشأ بينهم علاقات تعاون و/أو صراع. وعلى وقع علاقات العمل هذه، نشأت المجتمعات البشرية وانتقل البشر من حياة التوحش المنفردة إلى حياة العمران، فكان الإنسان كما نعرفه، وكانت حضارته وثقافته وثمار إبداعه.

وفي عيد العمال، الذي يحتفي بما جعل الإنسان إنسانا، نستمع اليوم لعملين رائعين من أغاني العمل والأمل. نبدأ أولا مع نشيد "عمال ولادنا" من كلمات الشاعر العظيم فؤاد قاعود، وألحان العبقري سيد مكاوي، وغناء المجموعة، مقام الراست.

نشيد "عمال ولادنا"

-2-

الكلمات الرائعة هي للشاعر العظيم فؤاد قاعود، وهو من شعراء الجيل الثاني في شعر العامية المصرية. ففي البدء كان الأب المؤسس فؤاد حداد ثم صلاح جاهين، اللذان نقلا شعر العامية من مرحلة الزجل (الذي بلغ قمته مع العبقري بيرم التونسي) لمرحلة الشعر المركب في معانيه وبحوره وأوزانه بما يضاهي شعر الفصحى. ثم قام الجيل الثاني على أكتاف الرباعي الذهبي فؤاد قاعود، عبد الرحمن الأبنودي، أحمد فؤاد نجم، وسيد حجاب.

فؤاد قاعود من أكثرهم موهبة و أعمقهم ثقافة، لكنه أقلهم شهرة. بدأ حياته صبيا لترزي، ثم "مطبعجي" في الإسكندرية، ولم يتعلم تعليما نظاميا، وانتقل في مطلع الستينات إلى القاهرة بعد أن اكتشفه وبشر بموهبته صلاح جاهين، وعمل في مجلة روز اليوسف حتى تقاعده.

ورغم عدم تلقي فؤاد قاعود تعليما نظاميا، فإن شعره يمتاز بعمق نظري وفلسفي أوضح من سائر شعراء جيله، مع احتفاظه بوضوح تام في الألفاظ بشكل يمكن أن نرده لجذوره الشعبية التي علمته تجنب التقعر في التعبير عن أفكاره ليصل للجمهور الواسع.

وتزداد أهمية هذا الوضوح بطبيعة الحال عندما نكون بصدد نشيد عن العمل والعمال، وضع لتغنيه مجموعات العمال أثناء عملها، احتفاء بحياتها وإبداعها.

وسنلاحظ في هذا النشيد الجميل، استخدام ضمير الجمع طوال النشيد، فلا مكان في الأغنية من أولها لآخرها لمغني فردي، وإنما النشيد كله عن العمل والعاملين في مجموعهم.

-3-

ويجسد نشيد "عمال ولادنا"، المكون من مذهب وكوبليهين، بشكل رائع هذا التوازن بين وضوح اللفظ والعمق النظري للمعاني، الذي يجيده فؤاد قاعود. كيف؟

نلاحظ أولا طوال النشيد، ما يمكن تسميته بتعدد مستويات الدلالة. ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن تستطيع أن تسمع النشيد أولا بوصفه أحد منتجات العام 1968 (الذي كان عاما حاسما في تاريخ الثقافة المصرية، ففيه بدأ الرد الثقافي المصري على النكسة، ببدء أول معرض للكتاب، وإنشاء فرقة الموسيقى العربية، وصدور العملين الفذين لسيد مكاوي: عمال ولادنا والأرض بتتكلم عربي). إن سمعت النشيد في هذا السياق، تجد الإحالات لدور العامل الذي يبني والذي يحمل السلاح، والذي وهب العمر ليظهر على الطريق الأمل مجددا، في تصوير بليغ لشعار مرحلة حرب الاستنزاف "يد تبني ويد تحمل السلاح".

لكن دلالة النشيد ليست منحصرة في هذا المستوى المباشر، وإنما تجد فيه موقفا نظريا وفلسفيا أعمق يمجد العمل والعمال، بوصفهم صناع الحياة ذاتها في كل زمان ومكان.

فمن أول كلمة في المذهب، نفهم أن قاعود لا يتحدث عن العمال بالمعنى الضيق والمباشر، ولكنه يفهم العمل باعتباره جوهر الوجود والتحضر الإنساني، ومن هنا يشير في المذهب لأن الكل عمال (أولادنا وأجدادنا)، وأن هؤلاء العمال –بما هم عموم البشر- هم الذين تصنع ضربات أيديهم المستحيل (فمن عملهم بنيت الحضارات)، هم المقاتلون في المعركة، ومنشدو المووايل في يوم السلام.

ويزداد المعنى وضوحا مع الكوبليه الأول الذي يوضح أن الأمل مرهون بالعمل، فلا مستقبل إلا عبر كفاح البشر وعملهم لتحسين غدهم. ثم يكرس الكوبليه الثاني نفس الفكرة عند حديثه بشكل قاطع عن عمل العمال الذي هو في حقيقته "غنوة المجد للإنسان". لا لبس هنا، وإنما احتفاء بقيمة العمل بوصفه لب الإبداع الإنساني، ومفتاح الأمل والمستقبل.

-4-

هذا عن المضمون، أما من حيث الشكل، فيتكون النشيد من خمسة مربعات، أولهم يمثل المذهب، ثم يتكون كل كوبليه من مربعين.

في المذهب، ستجد شكل المربع الشهير الذي استخدمه صلاح جاهين في رباعياته، بتوحيد قوافي الأبيات الأول والثاني والرابع، وتختلف عنهم قافية البيت الثالث فقط (عمال/أهوال/ ثورة/ موال).

أما في الكوبليهات، فيتكون كل كوبليه من مربعين، صيغا بشكل آخر هو توافق قوافي البيتين الأول مع الثالث، والثاني مع الرابع. هكذا نجد في الكوبليه الثاني (طالعة/ ولعة و نازلين/ياسمين) ثم (الصنايعية/شدية و الغد/الجد). وتتكرر اللعبة في الكوبليه الثاني.

-5-

أما لحن سيد مكاوي، فنحن أمام ملحن لا يفهم فقط ما يلحنه، وإنما يغترف بسهولة من إرث الموسيقى العربية الذي يختزنه في ذاكرته السمعية واللحنية. كيف يظهر ذلك؟

أ- لاحظوا ابتداء اختيار شكل لحني بسيط، مقدمة موسيقية قصيرة ورشيقة (تعبر بدقة عن فكرة الحركة الدائبة للعمل والعمال) من مقام الراست، ثم كوبليهين بلحن موحد، ومن نفس المقام. أي أننا نبقى في مقام الراست من بداية اللحن لنهايته بدون نقلات مقامية معقدة على النحو الذي يجيده سيد مكاوي عادة (انظر مثلا لبهلوانياته المقامية في أغنية "يا مسهرني" التي لحنها لأم كلثوم). لماذا؟

لأن هذا نشيد جماعي وضع لتردده المجاميع، إذن لا يجب أن تكون فيه نقلات لحنية أو مقامية معقدة تستعصي على جموع المؤدين. لهذا، يقتصر مكاوي هنا على مقام الراست، وعلى لحن واحد يقال منه الكوبليهين، في تصميم وضع لتسهيل حفظ اللحن وترديده. وهذه بالضبط مهمة ألحان المجاميع.

ب- راقبوا أيضا كيف يعبر اللحن في تصاعده ثم هبوطه عن معنى الجملة الأولى في الكوبليه الأول "الله أكبر والإيدين طالعة/ الله أكبر والإيدين نازلين"، بطريقة تذكرنا بالتقنية التي ابتكرها سيد درويش في تلحين الجملة الشهيرة (علشان ما نعلا ونعلا.. لازم نطاطي نطاطي) من مسرحية "العشرة الطيبة". سيد مكاوي هنا لا يكتفي باستلهام فكرة سيد درويش لكنه يطورها، فاللحن يتصاعد أولا مع "الله أكبر والإيدين طالعة" ثم يهبط مع "الإيدين نازلين"، ولكن سيد مكاوي لا يكتفي بهذه اللعبة التي ابتكرها سيد درويش، وإنما يضيف عقب كل شطر، لازمة موسيقية سريعة تتصاعد 5 درجات موسيقية (من درجة الدو إلى درجة الصول) بعد "الإيدين طالعة" لتكرس هذه الفكرة التصاعدية، ثم تهبط عائدة من الصول للدو بعد جملة "والإيدين نازلين". شيء بديع فعلا!

ج- وعلى الرغم من أن سيد مكاوي يلحن نشيدا، لكنه يفهم أن هذا نشيد للعمل والأمل، لذا يبتعد سيد مكاوي عن صيغة "المارش الحماسي" المتبعة في الأناشيد الوطنية (مثال: نشيد الله أكبر أو دع سمائي)، ويستخدم صيغة تمزج بين التطريب الراقص (مثال: جملة "ونغني في يوم السلام موال")، والصياح الحماسي (جملة "إحنا الصنايعية"، التي تستخدم لعبة أخرى ابتدعها سيد درويش أيضا في تلحين صيحة "يا ساتر" الشهيرة في أغنية "الشيطان"، بدون أن يمثل الصياح وسط اللحن نشازا).

نحن إذن أمام لحن مكاوي الصنع (به القفلات التطريبية الحريفة التي تليق بتلميذ العظيم زكريا أحمد)، ولكنه درويشي الهوى تماما!! وهذه سمة أساسية لسيد مكاوي الذي يمثل فكره الموسيقي نقطة التقاطع بين سيد درويش وزكريا أحمد.

د- وفي مواجهة مشكلة تعدد القوافي داخل كل كوبليه (فكل كوبليه يتكون من مربعين، لكل منهما نظام قوافي مختلف)، كان التحدي أمام سيد مكاوي هو كيفية الحفاظ على وحدة النشيد.

وقام الحل الذي أوجده سيد مكاوي على ضلعين: الأول هو توحيد لحن كل الكوبليهات، بما يثبت الوحدة العضوية للنشيد رغم تعدد مربعاته وقوافيه، والضلع الثاني هو إنهاء الكوبليهين بقفلة واحدة، هي بدورها نفس قفلة المذهب (نشعل في يوم المعركة ثورة/ ونغني في يوم السلام موال).

والاختيار هنا لا يتم فقط لأسباب جمالية متعلقة بروعة لحن هذه الجملة وسلاسة انتقالها من صيحة الكورال (نشعل في يوم المعركة ثورة) إلى القفلة التطريبية الراقصة والمبهرة (ونغني في يوم السلام موال)، ولكن أيضا لأسباب منطقية، تتمثل في أن القفلة الموحدة للمذهب، ثم للكوبليهين، توازن تعدد المربعات والقوافي، وتضمن وحدة النشيد.

أخيرا لا تنسوا أنكم استمعتم لكل هذا ما سبق في لحن مدته أقل من 3 دقائق!! لكنها دقائق ثلاث في يد سيد مكاوي، وما أدراك من هو!

فالواقع أن موهبة سيد مكاوي الأساسية في نظري كانت في الألحان المسرحية والتعبيرية، ونظرا لانزواء المسرح الغنائي في عصره، اتخذت هذه الموهبة الأشكال التالية: الأوبريتات التي عرفتها الإذاعة المصرية في الستينات، وكانت تسمى الصور الغنائية (أشهرها أوبريت الليلة الكبيرة، والأوبريت العظيم "المكن" وكلاهما من كلمات صلاح جاهين) بالإضافة لألحان سيد مكاوي الوطنية العظيمة (مثال: الدرس انتهى، الأرض بتتكلم عربي، ولا في قلبي ولا عينيا إلا فلسطين)، وتجربته الاستثنائية، التي لم يسبقه لها ملحن آخر، في تلحين دواوين شعرية بأكملها (ديوان الرباعيات لصلاح جاهين، و ديواني "من نور الخيال" والمسحراتي لفؤاد حداد).

وأعدكم بأن تكون لنا عودة في مقالات قادمة للألحان المسرحية الرائعة للفنان العظيم سيد مكاوي، فهي كنز موسيقي حقيقي.

يا غربة روحي

-6-

قلنا في مطلع المقال أن قصة تاريخ البشر، هي قصة ما عملوا، وكيف عملوه، وكيف اقتسموا ثماره. عن "ما عمل" البشر وأبدعوا كان نشيد "عمال ولادنا". أما اللحن الثاني الذي نستمع له اليوم، فيحكي بقية القصة، أين ذهبت ثمار "العمل"؟

هذا ما سنسمع له في المونولوج الدرامي الجميل "يا غربة روحي" من كلمات أحمد فؤاد نجم، ألحان الشيخ إمام، مقام البياتي.

-7-

هذا اللحن في اعتقادي هو أحد لحنين فقط وضعهما الشيخ إمام لأحمد فؤاد نجم في قالب "المونولوج الدرامي" (الآخر هو لحن الأرغول). والمونولوج كما قلنا في مقالات سابقة هو تعريب لقالب الـaria في الغناء الأوبرالي، وهو فاصل غنائي كان يؤدى في لحظة انتقال حاسمة، كثيرا ما تعكس أزمة وجودية للبطل، وشكوى من عنف (وعبث) الأقدار.

وإذا كانت كلمات المونولوج تعكس لحظة تعبير مكثف عن أزمة وجودية لبطل درامي، فإن ذلك ينعكس لحنيا في أن قالب المونولوج يتخذ مسارا خطيا، لا تتكرر فيه الكوبليهات، وإنما يتطور اللحن دراميا في خط مستقيم وبدون تكرار، وبدون العودة لتكرار الكوبليهات لأغراض السلطنة.

-8-

أما عن الكلمات، فأول ما يلفت النظر فيها، هو طبيعتها الفلسفية والنظرية المركبة. فنحن هنا أمام افتتاح وجودي، يحيل لفكرة نظرية شائعة في تراث الفكر الفلسفي والاجتماعي بشكل عام، هي فكرة الاغتراب.

ثم يمضي النص ليرد هذا "الاغتراب"، جريا على التقليد الفكري اليساري، إلى الظلم الاجتماعي والاستغلال (الفدان محتاج مروة، والإنسان محتاج ثروة)، ثم يحدد أصل الثروة في العمل الإنساني، في تفسير غنائي لنظرية "العمل في القيمة" المعروفة في علم الاقتصاد (الثروة في غيط الفلاح.. والعامل صاحب المفتاح)، ثم يتصاعد النص دراميا ليصل لنهاية "أممية" تمجد الرفاق من كل الناس والأجناس الذي يحرسون الحنة)، عندئذ فقط تزول غربة الروح. نحن إذن أمام درس غنائي في علمي الاجتماع والاقتصاد السياسي!!

ولتأكيد هذه الفكرة، لاحظوا أن عبارة "يا غربة روحي روحي" التي يبدأ وينتهي بها المونولوج، تنطق بطريقتين مختلفتين. ففي أول القصيدة تنطق "روحي" لمرتين بصفتها فعلا، فيكون المعنى (يا غربة اذهبي، اذهبي). أما في المرة الثانية في نهاية القصيدة، وبعد الشرح الفلسفي للفكرة، تنطق كلمة روحي الأولى بطريقة تجعلها مضافا إليه، وليس فعلا، فيتحول المعنى ليصبح "يا غربة الروح.. اذهبي"!!

-9-

أما من حيث الشكل، يتجنب نجم ثقل وطأة هذا النص النظري (أزمة وجودية، أساسها الاقتصادي، نظرية العمل في القيمة...الخ)، من خلال تأصيل هذه الأفكار النظرية في واقعنا المحلي، كيف؟

عبر اختيار شكل تقليدي محبب ومشهور في أغاني الأطفال المصرية وهو "لعبة المتتالية السببية"، على طريقة (النجار عايز مسمار/ والمسمار عند الحداد...الخ).

هكذا يتحرك النص محاكيا هذه المتتالية من خلال مجموعة المربعات شديدة الغنائية، حيث تتطابق قوافي الشطر الأول مع الثالث والثاني مع الرابع. هكذا نجد (وسطوحي يطلع فدان/والفدان يحتاج مروة... والمروة عرق الإنسان/ والإنسان محتاج ثروة)، وهكذا. ثم تتنوع بنية المربعات لاحقا بحيث تتطابق قوافي الشطرين الأول مع الثاني، ثم الثالث مع الرابع، فنجد (والسمرة طرحت فستان/والفستان لابس بستان/والفستان طاقة طاقة/ أحمر أخضر يا رفاقة). وأخيرا يختتم نجم بمربع مصاغ بطريقة ثالثة شديدة الطرافة، فقافية الشطور الثلاثة الأولى متطابقة، أما قافية الشطر الرابع فتعيدنا للقافية الافتتاحية للقصيدة. هكذا نجد قوافي المربع الختامي "الناس/الأجناس/حراس" ثم "سطوحي" (على وزن يا غربة روحي)، تمهيدا لنختم القصيدة كما بدأنا بنفس الجملة، مع لعبة شديدة المهارة في كلمة "روحي" التي تتحول من فعل إلى مضاف إليه كما أوضحنا.

بخلاف ذلك، النص شديد الغنائية، يستخدم كل الحيل التي يجيدها نجم، كالسجع (ثروة/مروة، طاقة/رفاقة)، والجناس (فستان/بستان). هذه الغنائية الشديدة، بالإضافة لصيغة المتتالية السببية التي يعرفها المستمعون من طفولتهم، تلعب دورا أساسيا في تسهيل مهمة هضم المضمون المعقد نسبيا لهذا النص، من خلال أشكال بسيطة، وجمل قصيرة ورنانة.

-10-

أما عن اللحن، فإن ألحان الشيخ إمام لنجم تنقسم بشكل عام لقسمين: ألحان جماهيرية وضعت لترددها جموع كبيرة (مثال: رجعوا التلامذة، هما مين واحنا مين) وهذه تكون بسيطة وخالية من النقلات المقامية الصعبة التي تتطلب قدرات صوتية يصعب توفرها في جموع المؤدين. أما النوع الثاني، فهي ألحان وضعت ليغنيها الشيخ إمام بمفرده، أو بصحبة كورال يردد جملا بسيطة منها (مثال: يا اسكندرية، قيدوا شمعة)، وهذه تكون أكثر تركيبا من الناحية الموسيقية، لأن عبء الأداء يقع على الشيخ إمام أساسا. إلى هذا النوع الثاني ينتمي لحننا اليوم، الذي يتضمن استعراضا نادرا لقدرات الشيخ إمام اللحنية والغنائية.

فالأغنية تبدأ من مقام البياتي، ثم تنتقل لأحد فروع مقام الراست عند جملة (والمفتاح يفتح جنة)، ومنه لمقام راحة الأرواح (يا حنة يا محنية)، لتعود للبياتي في جملة (زرعوكي خضرا خضرا)، ومنه إلى الراست (وعجنوكي حمرا حمرا)، ثم راحة الأرواح (والبستان طاقة طاقة) قبل أن تستقر نهائيا في البياتي اعتبارا من جملة (ورفاقي يا كل الناس). استعراض مقامي يظهر بجلاء قدرة الشيخ إمام العظيمة كملحن ويشبع مزاج أعتى السميعة!!

-12-

تبقى ملحوظة طريفة لاحظتها وأنا أستمع للحن، وهي تسلل جملة من الذاكرة الموسيقية للشيخ إمام إلى لحنه. وجه الطرافة هنا ليس في فكرة هذا التسلل، والذي يحدث كثيرا، ولم ينج منه ملحن أساسي في الدنيا من الشرق أو الغرب، وهو بالمناسبة أمر يختلف جذريا عن السرقة الفنية، وقد يستحق عودة تفصيلية له في مقال قادم.

لكن وجه الطرافة هنا هو أن الجملة المتسللة جاءت من لحن خفيف وراقص لا علاقة له بالمضمون الدرامي وأجواء الأزمة الوجودية في هذا اللحن!! فلحن جملة "ورفاقي يا كل الناس، من كل الناس والأجناس"، مستنسخ حرفيا (مع تغيير في سرعة الجملة لتصبح أبطأ)، للحن جملة شهيرة وضعها محمد فوزي هي جملة "وانا مالي يا حبيبي/تعلالي يا حبيبي" في لحنه الراقص الفرانكو أراب الشهير "يا مصطفى يا مصطفى" الذي غناه في عام 1960 المطرب المصري-اللبناني بوب عزام!!

-13-

تبقى الإشارة للأداء المبهر الذي يؤدي فيه الشيخ إمام في هذا التسجيل بمنتهى السلطنة. يظهر ذلك من اللحظة الأولى من عزفه للازمة الموسيقية بطريقة تتجاوز مستوى أدائه المعتاد على العود (فالشيخ إمام عازف عود تقليدي بتقنيات محدودة نسبيا يعوضها أحيانا بخصوبة خياله)، ثم يلي ذلك أداء غنائي في منتهى السلطنة، يستخدم تقنية ارتجال مستوردة من قالب الدور، تسمى "الهنك"، وتقوم على فكرة قيام الكورال بترديد الجمل في لحنها الأصلي، ثم يرتجل المطرب من فرط سلطنته تنويعات على اللحن الأصلي. نجد هذا هنا بشكل خاص في جملة "يا حنة يا محنية.. عشقوكي الجناينية".

وأظن أن قسما من هذه السلطنة الاستثنائية، يعود لكون الحفلة تؤدى أمام جمهور سميع. فالتسجيل الذي نستمع له هنا من حفلة في تونس، والجمهور التونسي معروف للسميعة من تسجيلات أم كلثوم (فأجمل تسجيل لأغنية الأطلال مثلا، هو من حفلة تونس، وهكذا).

نحن نتكلم عن جمهور عتيد في الاستماع، ومثل هذا الجمهور (بما يطلقه من آهات في اللحظة الصحيحة، أي اللحظة التي يرتجل فيها المغني، ويتوقع الآهة من المستمع الحريف، فيزيد طربهما معا، ويتجلى المغني) يطلق طاقات المغني الإبداعية على آخرها.

وقد كان بعض المغنين، لإدراكهم ذلك، يستأجرون أحد السميعة الفطاحل، ليهلل لهم ويسخنهم، كان يسمى "المطيباتي"، وذلك عند بداية استخدام التسجيلات على الاسطوانة في العشرينات، ومن ثم اضطرار المغنين لتسجيل الألحان بدون جمهور يطرب ويسخنهم.. تسمع صوت هؤلاء المطيباتية مثلا في التسجيلات القديمة لعبد الوهاب وأم كلثوم، وهكذا. فالسميع جزء أساسي من الأداء والسلطنة للمغني كما يعرف الراسخون في فنون الطرب العربي.

أخيرا، تجدر الإشارة إلى وجود تسجيل جميل آخر لهذه الأغنية، مع فرقة موسيقية كاملة، بصوت الفنان الشعبي العظيم محمد رشدي، ولكنه لا يرقى في رأيي لهذا الأداء الفذ في هذا التسجيل للشيخ إمام.

اسمعوا وتسلطنوا، وأبشروا "بحنة" يحميها الرفاقة من كل الناس والأجناس، وبأمل مشرق سيصنعه العمل والعمال. موعدنا الأسبوع المقبل.

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات