عروسة زعتر وبعض المربى - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 10:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عروسة زعتر وبعض المربى

نشر فى : الأربعاء 3 فبراير 2021 - 7:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 3 فبراير 2021 - 7:20 م

يستخدم الأمريكيون عبارة «طعام الروح» حين يصفون طعاما يذكرهم بأيام سعيدة ولقاءات عائلية دافئة وصداقات قديمة. الكلمة أصلا من الولايات الأمريكية الجنوبية ذات أغلبية سكان من أصول أفريقية، حيث ثقافة العائلات الكبيرة المجتمعة حول الموائد العامرة والأحاديث الصاخبة والاحتفالات الجماعية.
***
أظن أن لكل منا طعام الروح خاصته، تلك النكهة التى نلجأ إليها وقت الضيق، طعمة تذكر بحضن الأم وقصص الجدة. أظن أن طعام الروح من أصدق الأماكن التى يمكن أى يهرب المرء إليها غالبا دون قرار واع ودون تفكير.
***
عروسة زعتر: طبقة كاملة من رغيف الخبز الشامى مفرودة على رخامة المطبخ أمسح عليها بزيت الزيتون البكر ثم أنقش على الزيت أشكالا بالزعتر قبل أن ألفها وأغطى نصفها عاموديا بمنديل ورقى أبيض. هذه اسمها عروسة زعتر، هى طعام روح ملايين السوريين داخل سوريا وفى الشتات. عروسة الزعتر لا يفكر فيها أحد، هى جزء من المجال الحيوى، مادة بصرية أكاد لا أراها لأنها معلقة بى منذ أول ذكرياتى. يعنى لا ترف فى عروسة الزعتر، أو هكذا يفترض إن كان أحدنا من بلاد الشام، حيث زيت الزيتون والزعتر مكملان لأى حياة يومية دون أن تسأل الأم فى الصباح «ماذا تريدين على الفطور»، هى عروسة زعتر!
***
طبقان صغيران من الخزف الملون أضع فى أحدهما بعض الزيت وفى الآخر عدة ملاعق من الزعتر. لا يتحرك الطبقان من على الطاولة أو من على رخامة المطبخ. هما هنا كما هى المملحة، يعنى «من غير ليه». لقمة بين الوجبات، قطعة خبز واحدة تغطس فى الزيت ثم فى الزعتر فتلتصق حبيبات السمسم على الخبزة. لا داعى لمناسبات لأكل الزعتر، هو هنا كأى فرد فى العائلة السورية، هو طعام الروح، صباحات باكرة أنتظر فيها حافلة المدرسة، هو باص أصفر أجلس على مقعده الجلدى البارد وأقشر المنديل الورقى لتظهر لى عروسة الزعتر.
***
هناك طبق آخر كثيرا ما يجلس على الطاولة قرب طبقى الزيت والزعتر: المربى، أو الـ«معئود» أى المعقود، فاكهة معقودة بالسكر على النار أو فى الشمس. على عكس الزيت والزعتر، يتغير طبق المربى مع تغيير الفصول ومواسم الفواكه، النارنج (البرتقال المر) وجميع الحمضيات فى الشتاء، المشمش فى الصيف، كل ما عدا ذلك إضافات مرحب بها، كالفراولة مثلا أو التين، فمناخ سوريا والمشرق عموما يسمح بتنوع الفاكهة، ولطالما كان السكر مادة مدعومة من الحكومات، لذا فلا ترف فى المربى، بل بالكمس، صنع المربى من ألفباء البيوت الشامية أو المشرقية.
***
طعام الروح أصبح اليوم ترفا فى بيوت كثيرة. قرأت على صفحة صديقة عن تحايل الأمهات عند لف الخبزة فيضعن نقطا معدودة من زيت الزيتون مكان القضمة الأولى حتى يتخيل الطفل أن الزيت يغطى الخبزة كلها، لكن فى الحقيقة تغطى الأم باقى الخبزة بالماء قبل أن ترش الزعتر فوقه.
***
الفاكهة أيضا والمربى أصبحتا ترفا فى بيوت كثيرة، فمن ذا الذى بوسعه اليوم، فى ظل الانهيار الاقتصادى فى منطقتنا كلها أن يشترى فاكهة فى موسمها ويتصرف بها بشكل مستهتر كأن يصنع المربى؟ لا أعرف ما الذى ما زال طعاما للروح اليوم، فى بيوت كثيرة لم يعد بوسع أصحابها تأمين أبسط الاحتياجات. عروسة الزعتر وملعقة مربى صارت ترفا بالنسبة للكثيرين، بعد أن كانت جزءا من المنظر العام فى أى مطبخ، لا فرق بين الطبقات الاجتماعية أو القدرات المالية، يجتمع الغنى والفقير بحبهما للزعتر والمربى.
***
فى ذاكرة السوريين الجماعية صباحات باردة تطغى فيها رائحة الخبز الطازج والزعتر على البيت وعلى الحارة. فى ذاكرتهم الجماعية رائحة حمضيات يتم عقدها بالسكر فى حلل كبيرة فى مطابخ كثيرة فى الأسبوع ذاته، وكأنه قرار اتخذه سكان الحارة أن يعطروا الجو من حولهم برائحة البرتقال أو المشمش. فى ذاكرة السوريين الجماعية طعام للروح تغرفه الأم كل يوم أو يومين فى أطباق صغيرة لا ترفع من على طاولة المطبخ، فى ذاكرتى البصرية هناك دوما زيت وزعتر وقليل من المربى فى أطباق صغيرة. أضع إصبعى فى الزيت ثم فى صحن الزعتر فتمتلئ سبابتى بحبيبات الزعتر والسمسم والسماق، أضع إصبعى فى فمى بسرعة قبل أن أسمع صوت أمى من بعيد.
***
بعد الظهر أعمل الشىء نفسه مع المربى، أستخدم ملعقة صغيرة تكون دوما موجودة فى الطبق، آخذ مقدار لقمة واحدة فقط، قد يكون مربى الفراولة أو الكرز أو المشمش، أظن أن المشمش يطغى على ذاكرتى، هى ملعقة واحدة كفيلة بأن تطبطب على روحى وترفع عنى ضجر الدراسة أو تعب ما بعد الولادة، هى ملعقة من المربى رافقتنى فى كل مراحل حياتى.
***
عروسة زعتر وبعض المربى، وطن بحاله وذاكرة سنوات من البيت والعائلة والترحال والغربة تذوب فى قلبى حين أصر على أن يبقى دوما وأينما حططت بحياتى، ثلاثة أطباق صغيرة من الخزف على رخامة كل المطابخ التى عشت فيها، ثلاثة أطباق فيها بعض الزيت وبعض الزعتر وبعض المربى: هى طعام روحى.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات