العدالة الاجتماعية.. بين التسكين والتمكين - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 2:17 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العدالة الاجتماعية.. بين التسكين والتمكين

نشر فى : الإثنين 2 نوفمبر 2015 - 9:50 ص | آخر تحديث : الإثنين 2 نوفمبر 2015 - 9:50 ص

انتهينا فى المقال السابق إلى أن معالجة البعدين الرأسى والأفقى لسطح يمثل جميع المعاملات بين أعضاء المجتمع، يخضعان لأحكام صريحة بشأن تحقيق العدل، نصت عليها الأديان، وبخاصة الإسلام، وتناولها الفلاسفة من زوايا متعددة. فإذا انتقلنا إلى داخل السطح واجهنا مجموعة من التشابكات بين الأفراد والجماعات، تحكمها القواعد التى تحكم النشاط الإنسانى فى مختلف جوانب الحياة: أثناء العمل والراحة وخلال تحصيل العلم وتطويره أو التمتع بإبداعات الفنون والآداب.
وكانت البداية بابن خلدون الذى وضع أسس العلوم الاجتماعية ومنها الاقتصاد بتأكيده ضرورة التعاون بين الأفراد للحصول على طيبات الحياة، لأن أيا منهم لا يتيسر له توفيرها بمفرده لنفسه. ومن ثم كانت ضرورة التبادل وتوزيع الناتج على نحو يتصف بالإنصاف، وهو ما ترجمه آدم سميث إلى «تقسيم العمل». وعندما كانت الزراعة هى النشاط الأساسى، ساد فكر «الطبيعيين» أو الفيزيوقراط، الذى يقدر ثروة الأمة بما تملكه من هبات endowments. ومع الزمن تتزايد سيطرة قلة إقطاعية على الثروة الطبيعية، ويحرم المزارعون من جنى حقوق توازى استحقاقاتهم. وطبقت دول إمبريالية هذا النوع من التباين الاجتماعى على المستوى الدولى بضم أراضى دول أخرى. وتحولت الخلافة الإسلامية إلى إمبراطورية عثمانية، تسلب خيرات الولايات التى تتبعها ــ ومنها مصر ــ تحت مسمى الخراج والجزية. والغريب أن هذا تم تحت غطاء «الحكم بالعدل» الذى أمر به الإسلام، ليكون أول نموذج صارخ لاقتران الظلم الاجتماعى بالعدل فى صورته المطلقة؛ وهو ما يثبت أنه لا يصح اعتبار العدل الذى عرضنا أبعاده من قبل أساسا لما يسمى «العدالة الاجتماعية».
وذهبت بعض الدول الأوروبية الساحلية وخاصة إسبانيا والبرتغال، بما تملكه من أساطيل، إلى تزيين تجميع الذهب والفضة من خلال التركيز على النشاط التجارى القائم على تبادل منتجات تتفاوت بحكم اختلاف الموارد الطبيعية والمناطق المناخية وتباين منتجات الصناعات الحرفية. واشتهر اسم الخط الواصل بين أوروبا غربا والصين المشهورة بحريرها، برا وبحرا، باسم «طريق الحرير» وشاع عند ذاك المذهب «التجارى أو المركنتالى». فتغيرت الخريطة الاجتماعية، ليس عن طريق الإنتاج، بل البذخ الاستهلاكى لفئة بورجوازية، يكلَف بإعداد أدواته حرفيون مهرة. وظلت الفئة المعتمدة على الكسب من نشاط الوساطة التجارية والمالية، تنافس المنتجين الزراعيين ثم الصناعيين. وحظيت بمكانة متقدمة منذ سبعينيات القرن العشرين، مسببة اضطرابا فى النشاط الإنتاجى وفى عدالة توزيع عائداته، أصاب الدول النامية بأضرار بليغة.
***
على أن الوضع تغير بصورة دراماتيكية عقب بدء الحلقة الثانية من حلقات التطور بعيد المدى مع انطلاق الثورة الصناعية وما صاحبها من حراك اجتماعى، فك ارتباط الفرد بالأرض، حيث تركزت المصانع فى مناطق حضرية أنشئت بها مصانع مصحوبة باحتياجاتها من خدمات النقل والتخزين والوقود والإسكان الحقير الذى خصص لعمال جلبوا من الريف الذى كان يعانى من بطالة بسبب محدودية التوسع الأفقى فى الزراعة. وإذا كانت أجور العمال الصناعيين مشجعة لهم على الهجرة، إلا أنها لم تكن شيئا يذكر بالقياس بالأرباح الضخمة التى انفرد بها أصحاب رأس المال، والتى ساعدت عليها الحكومات بتدبير خامات رخيصة عن طريق الاستعمار. وتحولت الإمبريالية إلى كولونيالية فانتقلت ظاهرة اشتداد الفوارق فى الدخول، وتوجيه جانب من الموارد إلى أساطيل حربية، وتمويل أجهزة بيروقراطية فى المستعمرات تفرض قيودا على اقتصاداتها، وتنشئ رأسمالية كمبرادورية تعمل كوسيط لخدمة تقدمها الصناعى على حساب تقييد إرادة مواطنها. وبدأ اقتصاديو الدول الصناعية يزيفون دعاوى لتقنين عملية النهب الكبرى.
***
فى البداية أرجع آدم سميث ثروة الأمم إلى النشاط الإنتاجى القائم على تقسيم العمل، وتبعت ذلك سلسلة من الاقتصاديين الكلاسيك الذين زيفوا أمورا على أنها حقائق علمية: أولاها أن التخصص فى أنواع معينة من المنتجات ثم تبادل فوائضها عبر الحدود يضاعف القدرة الإنتاجية، وإرجاع هذا التخصص إلى ما يسمى المزايا النسبية. فالمستعمرات تتمتع بمزايا حبتها بها الطبيعة، أما الدول الصناعية فمزاياها تقوم على معارف فتية technical knowــhow. وكأن العقول المولدة والقادرة على استعمال المعرفة غابت عن أهالى المستعمرات. الأكذوبة الثانية أن السعر هو المؤشر الموضوعى للمفاضلة بين المنتجات، استنادا لتحليل جزئى يمنح أمثلية زعمها اقتصادى إيطالى يدعى باريتو لنقطة توازن لا أحد يستطيع عندها تغيير مقدار ما يعرضه أو ما يطلبه حتى ولو كان راغبا فى ذلك. ولم يعنى أى منهم ببيان أن الطالب يجب أن يكون لديه مورد مالى يدفع منه ذلك الثمن. فماذا عمن لا يملكه إما جزئيا أو كليا؟ ثم يستنتج أن هذا يمثل أكفأ استخدام للموارد، غير عابئ ببطالة البشر إذا اعتبروا موردا ضمن الموارد فيصبح تعطله دليلا على كفاءة استخدامه؟!. بل لقد ذهب آرثر لويس وهو اقتصادى بريطانى من أصل كاريبى (شارك فى لجنة شكلتها الأمم المتحدة فى 1954 لدراسة كيفية وضع برامج لتنمية الدول المتخلفة) إلى طرح منهج للتنمية فى ظل عرض غير محدود للأيدى العاملة، وكأنها تحبس فى مخزن لا تملك ما يبقيها حية ليسحب منها ما يحتاجه النشاط القائم إلى أن يأتى وقت تفرع فيه المخازن. متناسيا أن الأموات مأواهم القبور. ورغم ذلك يقال إن هذا النوع من التحليل يكفل الكفاءة الاقتصادية، ملقين عبء تخفيف إهدار حقوق الإنسان على عاتق ما يسمى عدالة اجتماعية، كمسكن لآلام البشر الناجمة عنها.
وبطبيعة الحال لم يترك الاقتصاديون الليبراليون الساحة للداعين للنظم الاشتراكية. فمنهم من تحدث عن اقتصاد اجتماعى (مثل السويدى جوستاف كاسل، 1924) ومنهم من نادى بالعدالة الاجتماعية، بل والمساواة الاجتماعية مثل جون ستيوارت ميل (منتصف القرن التاسع عشر)، اعتمادا على قيم طرحها فلاسفة غربيون ينادون بمبادئ أخلاقية، ويدعون إلى حرية الفرد فى ظل مفهومهم للديمقراطية. ولكن ظلت القاعدة العامة هى معاملة ما يسمى عدالة اجتماعية كعلاج لأضرار لابد من تقبلها تعظيما لناتج نشاط إنتاجى يحقق ما يعتبر كفاءة اقتصادية. والمرشح الأول هو عملية إعادة توزيع الدخول المترتبة عليها. ويكاد يكون هذا هو أكثر ما يطرح على الساحة عقب ثورة 25 يناير، سواء باستخدام ضرائب تصاعدية أو وضع حدود عليا للدخول مع فرض حدود دنيا. والمشكلة أن هذه لا تمثل عدالة اجتماعية بل تصحيحا لأوضاع اقتصادية بلغت من التردى حدا يتعذر معه ضخ موارد ضخمة وإعطاء دفعة قوية لتنمية تراجعت مع مرور الزمن وزادت الانتفاضات المتتالية والتحرشات المضادة من صعوبتها. ومع تخبط السياسات الاقتصادية دخل الاقتصاد المصرى فى دوامة قصور موارد النقد الأجنبى وتدهور سعر الصرف. هناك من يطرحون قائمة من السياسات الاقتصادية كحزمة تعالج المشكلة الأساسية (مثل مقالة د. محمد نور الدين: مفهوم وآليات العدالة الاجتماعية ــ كتبه: 4/10/2015). غير أننى أفضل أن أطلق على مثل هذه المقترحات «عدالة اقتصادية» لتصحيح مشاكل الكفاءة الاقتصادية.
بالمقابل علينا أن نضع البعد الاجتماعى فى إطاره الخاص به. يذكر أننا عندما بدأنا الخطة الأولى 60/1965 أطلقنا عليها خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وكان الشق الاجتماعى ينصب أساسا على الخدمات والمرافق التى تساند الاقتصاد القومى ولا تدر ربحا بذاتها، وتلبى مطالب رفع مستويات المعيشة. غير أن المطلوب، تمشيا مع متطلبات التنمية البشرية المستدامة التى ترتقى بتوعية الحياة بمختلف جوانبها، هو منظومة اجتماعية تقوم على كفاءة اجتماعية تعادلها عدالة اجتماعية. ويكون البدء هنا من جانب العدالة لتمكين البشر من الحصول على ما يرفع مستواهم فى تلك المنظومة، بينما توفر الكفاءة توفير فرص لتعظيم عائدات ذلك الرفع، ويجسد الكرامة الإنسانية. ويتفق هذا مع ما اقترحه العلامة الهندى أمارتيا سن تحت مسمى «التمكين» empowerment الذى أصبح لب تلك التنمية.
وسنتناول تفاصيل هذا المدخل فى المقال القادم بإذن الله.

خبير فى التخطيط

أكثر ما يطرح على الساحة عقب ثورة 25 يناير، سواء باستخدام ضرائب تصاعدية أو وضع حدود عليا للدخول مع فرض حدود دنيا. والمشكلة أن هذه لا تمثل عدالة اجتماعية بل تصحيحا لأوضاع اقتصادية متردية.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات