أسنان فى المخ - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 9:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أسنان فى المخ

نشر فى : الخميس 3 مايو 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 3 مايو 2012 - 8:00 ص

هو عدَّاء مسافات طويلة ظل يمارس هواية الركض لمسافة عشرة كيلومترات يوميا على جانب طريق ملوث بعوادم السيارات وأبخرة قاتلة لمصانع لا تخضع لأية شروط بيئية ولا صحية منها مصنع ينتج مادة « دى دى تى» المبيدة للآفات الزراعية وللبشر، وكان من نتائج ذلك أن ظهرت عليه أعراض الشلل الرعاش مبكرا، وهو مرض مزمن سريع التدهور ينتهى بالعجز عن الحركة وافتقاد القدرة على الكلام والبلع مما يجعل المصاب به مقعدا قبل الأوان، ثم مُحتضرا يختنق باللقمة التى يطعمونه إياها وبالأنفاس التى يعجز عن التقاطها، لكن قبل وصول هذا الرياضى إلى هذه النهاية ظل يلتمس أى وسيلة للشفاء ولو بعلاجات تجعله فأر تجارب بين أيادى أطباء لا أخلاق لهم إلا التطلع للصعود، وقد وقع فى حبائل واحد منهم.

 

« ماكس ترو»، كان بطل الولايات المتحدة فى سباقات المسافات الطويلة، ومثل بلاده فى مباريات دورة الألعاب الأوليمبية بروما عام 1960، وفى الوقت الذى كان ينبغى له أن يبدأ فى قطف ثمار تفوقه الرياضى ظهرت عليه أعراض مرضية تمثلت فى نوبات حمَّى وإغماءات تجعله يسقط قبل أن ينهى سباقاته، وتم تشخيصه مصابا ببوادر الشلل الرعاش نتيجة تعرضه الطويل لمواد سامة، وكان ذلك التشخيص بمثابة كارثة تسارعت وقائعها، ليس فقط لأنه اضطر للتوقف عن العدو الذى يحبه، ولكن لأنه كان محاميا لم يعد يطاوعه صوته المُمزَّق والمُحتَبَس فى المرافعات، ثم إنه كان أبا لطفلين وزوجا محبا، فراح يلتمس الشفاء بإلحاح، ويُبدى فى ذلك أقصى درجات الاستعداد للمخاطرة ما أن يلوح فى الأفق أى أمل.

 

مرض الشلل الرعاش تم تفسيره بموت مجموعة من خلايا المخ تنتج ناقلا عصبيا اسمه «دوبامين»، ومن ثم كان أقصى علاج متاح له هو عقار يعوض نقص هذه المادة ليخفف أعراض المرض لفترة قصيرة وسرعان ما يفقد تأثيره، وبعد سنوات من تفاقم مرض ماكس ترو وتصاعد يأسه بزغ فى عام 1987 أمل فى شفاء المرض بزرع خلايا من أمخاخ أجنة بشرية فى مكان الخلايا المُدمَّرة فى الأمخاخ المصابة وكانت البداية فى السويد، ثم أجريت أول عملية مماثلة فى الولايات المتحدة عام 1988 على يد فريق بحثى بعد تجارب معمقة على الحيوانات، وكانت العملية ممولة من منح خاصة بعد إيقاف التمويل الحكومى عن عمليات زرع الخلايا الجنينية البشرية فى عهد حكومة ريجان.

 

كانت الفرصة المتاحة أمام ماكس ترو لتجريب هذا العلاج البازغ ضئيلة لكن فسحة الأمل كانت بلا حدود، ووجد فى طريقه جراح أعصاب مغامر وشره فى تطلعاته وغير معنى كثيرا بضوابط هذا العلاج ولا أخلاقياته، وأمام انغلاق الأبواب الأمريكية أمام شهوته الوحشية فى تسجيل سبق فى هذا المجال الذى لم يكن مؤهلا له، راح هذا الدكتور المدعو «أيا كونو» يطرق أى باب فى العالم يسمح له بالمغامرة، وكان أن وجد ضالته فى مستشفى اسمه «زينج زو» فى بلدة منسية بالصين دعاه إليها جراح صينى أفاق التقاه صدفة فى مؤتمر للجراحين. وصحب أياكونو مريضه فى رحلة مرعبة من الولايات المتحدة إلى أعمق أحشاء الصين بعد أن ثقب جمجمته وأدخل فى مخه ثلاث أنابيب بلاستيكية لتكون جاهزة حتى يحقن فيها خلايا المخ الجنينية متى ما حصل عليها مقابل عدة آلاف من الدولارات تُدفع لشبكة مافيا طبية صينية وعدته بتحقيق تطلعاته.

 

   كانت زينج زو مستشفى صينيا شبه قروى بإمكانات بدائية، وكانت الأجنة المجهضة تؤخذ من «جردل» العمليات، وحتى تكون العملية «شرعية» راحت طبيبة نساء وتوليد بالانطلاق على دراجتها بحثا عن النساء اللائى أجريت لهن عمليات إجهاض حديثة حتى يوقعن بالموافقة على أخذ أنسجة من أجنتهم المجهضة لعملية الزرع التى سيقوم بها طبيب أمريكى فى مخ مريض أمريكى، وهكذا سار كل شىء «على الورق» قانونيا! بينما لم يكن وراء هذا كله أى شىء من روح القانون ولا الأخلاق ولا الإنسانية ولا العلم، فقد قام الجراح «أيا كونو» بتشريح أجنة عمرها أسابيع وطولها لايتجاوز عقلة أصبع ليحصل من أمخاخها على أنسجة تحتوى خلايا مختصة بإنتاج الدوبامين! وهى عملية دقيقة تحتاج مجاهر فائقة التطور لم تكن موجودة فى زينج زو، ولا كانت لدى «أيا كونو» هذا أى خبرة باستخلاص هذه الأنسجة.

 

حقن أياكونو خليط الأنسجة الجنينية فى مخ ماكس ترو ثم نزع من دماغه الأنابيب البلاستيكية وقطب فروة الرأس وعاد به إلى الولايات المتحدة مزهوا بالنتيجة التى بدأت بشائرها بعودة الروح إلى ماكس إلى درجة أنه كان يطارد بحماس بالغ ونشوةٍ طروب ممرضات زينج زو الشابات فى كل أرجاء المستشفى ناشرا حالة من المرح والفرح بنجاح العلامة أياكونو فى عمليته الرائدة فى هذا المستشفى الصينى الذى دخل التاريخ. وقد كان دخول التاريخ حقيقيا لهذه العملية، لكن من باب الفضائح الكبرى فى تاريخ الطب.

 

استمرت حالة «الحماس» الحركى واللغوى مسيطرة على ماكس لبعض الوقت، لكن سرعان ما بدأ تدهوره، وفيما كان يبدو فى احسن حالاته أسرَّ لزوجته بما لم تصدقه إلا بعد حدوثه، قال لها «إننى أحتضر»، وكان أن مات جالسا فى مقعده بعد فترة قصيرة، وببحث ملابسات موته تبين أن النشاط الذى انتابه بعد عملية الزرع فى مخه، لم يكن مرجعه نجاح هذه العملية على الاطلاق، بل كان راجعا لتعاطيه عقار «دوبرينيل» المكتشف لتوه ضمن أبحاث علاجات الشلل الرعاش حينها، وكان من الآثار المرصودة لهذا العقار انه يصيب متعاطيه بحالة التصرف بحماس والشعور بالنشوة! أما ما خفى وكان أفظع، فهو الذى كشفت عنه عمليات التشريح والفحص المجهرى لمخ ماكس ترو بعد وفاته!

 

 تبين أن هناك ورما مسخيا TERATOMA تشعب فى بطينات المخ ناميا من خلايا الانسجة التى استخلصها أياكونو من الأجنة الصينية المجهضة المأخوذة من جردل غرفة عمليات زنج زو وحقنها فى مخ صاحبنا فى غيبة الأخلاق المهنية والضوابط العلمية والتقنيات والأدوات الملائمة لعمل كهذا، فكان ما استخلصه جراح الأعصاب الشره المغامر ليس أنسجة بها خلايا مخ تنتج مادة الدوبامين المُعالجة للشلل الرعاش، بل أنسجة مما اتفق للمشرط الأعمى أن يطالها من أجنة بالغة الضآلة، ومن أماكن أبعد ما تكون عن أمخاخها، ويُرجَّح أنها من المناطق التناسلية لأن الورم المسخى ينتج عن خلايا منشأ قادرة على إعطاء طيف واسع من الانسجة المختلفة، لهذا يحتوى هذا الورم على خليط عجيب : شَعر، أسنان، غضاريف، جلد، وهو مرعب الصورة رعبا لم أنسه منذ كنت طالبا فى كلية الطب ورأيت عينة منه محفوظة فى وعاء زجاجى داخل خزانة زجاجية بأحد معامل الكلية.

 

هذه القصة كانت مطمورة فى ذاكرتى حتى عدت من المنيا إلى القاهرة فى الجمعة الماضية بعد أن قضيت يومين من أطيب أيامى الأخيرة ضيفا على المؤتمر العلمى السنوى لكلية الطب هناك، شىء مختلف كثيرا عما يثقلنا فى القاهرة من زحام وهوج وكآبة منظر، مدينة لاتزال متشبثة ببعض وداعتها وطيبة أهلها وجمال شاطئها النيلى الممتد البديع، وكلية طب ناشئة تصعد فى أناة نقية بكوكبة من أساتذة يسودهم التواضع وإدارة منتخبة تدرك أن المناصب تكليف لا تشريف وطلاب يشاركون أساتذتهم فى النهوض ببيتهم المشترك، ولهجة صعيدية جميلة الوقع تداعب مسامعك فتدرك أن الصعيد نشيد جميل حُرِمنا من التغنى به طويلا. كل هذا وأكثر كان يطوف بخاطرى حتى وصلنا إلى مشارف حلوان، ورأينا مداخن مصانع الأسمنت تردم بترابها الأفق، وعرفنا أن التحرير مغلق بـ «مليونية إنقاذ الثورة» فرحنا نفكر فى طرق توصلنا إلى بيوتنا بعيدا عن هذا الاختناق، والاختلاق!

 

أى حفاظ على الثورة هذا الذى تزعمه قوى بادرت بزرع أورام الفرقة فى كيان هذه الثورة الذى كان جامعا، وخدعت الأمة عندما دعت من فوق المنابر بجهير الحناجر لـ«نعم» لتعديلات دستورية شائهة نسفت حلم البدء الصحيح بدستور توافقى لكل الأمة لمجرد أن لاحت لهم السلطة دانية عبر فرية «الانتخابات أولا»، ثم هاهم يصرخون من فخ هذه التعديلات المسخية التى كانوا رأس حربة فى صياغتها وتسويغها وتسويقها باعتبارها «غزوة» ونصرة لدين الله، فى استثمار شقى لربح سلطات الدنيا بسلطان الدين، فأساءوا للدين والدنيا جميعا.

 

بعضهم لايزال يكابر بطمعه وبعضهم يتشبث بكذبه، والأغرب أن يكون هناك من نفترض براءتهم أو سذاجتهم يدافعون باستماته عن الطماع المراوغ والكذاب العاق. والأكثر غرابة هو هذا الاحتشاد المتنافر الذى ترتفع فيه خلطة من أعلام سوداء وبيضاء وحتى حمراء فيما يندر صعود علمنا الوطنى فى تلك الجمعة العجيبة. فأى عبث هذا إلا أن يكون مسخا فى العقول نتج من زرع معيب لخلايا تضليل جنينية فى أمخاخ أعياها تلوث فساد واستبداد عشرات السنين. نسأله النجاة والعافية، فهو أرحم الراحمين بمصر وأهلها، وعقلها.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .