زهرة من خفة وهشاشة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 6:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

زهرة من خفة وهشاشة

نشر فى : الأربعاء 2 مارس 2022 - 9:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 2 مارس 2022 - 9:45 م

فى سوريا نوع من الزهور اسمه «كسار الزبادى»، أتذكره كثيرا هذه الأيام. الزهرة هى عود عليه خيوط بيضاء شفافة تقف كأنها شعر على رأس شاب، إن نفخت على الزهرة تطايرت الخيوط وبقى العود فى يدى. تكثر هذه الزهرة فى الربيع تكثر ويكثر شعرها المتناثر فى الجو. كنت فى طفولتى، ككثيرين من أولاد عمرى، ألتقط هذه الزهرة الهشة وأنفخ على أوراقها لتتطاير خيوطها فى الجو وأحاول أن ألتقط الخيوط.

• • •

اليوم أتساءل عما يحدث للزهرة إن لم ينفخ عليها أحد. هل تبقى متماسكة حتى تجف؟ أم هى عرضة للتفتت أصلا بحكم رقتها، والأطفال كتلك التى كنتها ما هم إلا عوامل تسرع من نهايتها؟ أسأل نفسى عن الزهرة أو عن حياة الإنسان وأنا أتابع الحرب الجديدة التى تفرد قصتها هذا الأسبوع أمام المشاهدين، تماما كحروب سبقتها وتابعها الملايين محاولين أن يفهموا السياسة والجغرافيا وربطهما بالتاريخ حتى يتكون لديهم، أو لدى ولدينا رأى، وكأن رأيى سيغير من تسلسل الأحداث.

• • •

هى زهرة هشة لا تصمد أمام الرياح وأمام عبث من يقطفها، وكأن الهدف من قطفها هو تدميرها. هى زهرة تدل، فى ذاكرتى، على انتهاء الشتاء وقدوم الربيع، وكأن فى موتها قربانا للحياة، فتموت الزهرة مقابل أن تتفتح غيرها وتملأ العالم بهجة وألوانا.

• • •

هو وجود لا تحتمل خفته، كما قال الكاتب الكبير ميلان كونديرا. هى حياة شديدة الهشاشة يمكن أن تتفتت بأى لحظة. أتأمل فى الفترة الماضية مفهومين متناقضين: صلابة الإنسان وقدرته على الصمود، وهشاشته وخفة وجوده بشكل يجعله قادرا على الانهيار وكأنه قصر من الرمل أكلته موجة بلقمة واحدة.

• • •

هناك نوع من الفن يلعب على تمازج الضوء والظلام، فتظهر أشكال مضاءة على خلفية قاتمة أو تظهر الأشكال غامقة اللون على خلفية بيضاء. يبدو لى أحيانا أن الحياة عبارة عن عبور مستمر من النور إلى الظلمة ومن الظلام إلى الضوء، وأن فى العبور الكثير من المخاطر كعبور تلك الزهرة الحساسة من أرضها حيث نبتت إلى يد من سينفخ عليها.

• • •

أدخل وأخرج من الهشاشة إلى الصلابة ومن الظلام إلى النور، ربما هو تقلب الطقس ومحاولة الدنيا أن تنفض الجليد من على وجهها وأن تديره نحو الشمس فتختفى الشمس للحظات خلف غمامة عابرة ثم تشرق بابتسامة ربيعية فيكتسب الكون ألوانا وأشكالا.

• • •

أسمع قصصا عن أشخاص «أوسع من الحياة» كما يقال، يتمسكون بالدنيا بأسنانهم قبل أيديهم ويعيشون طويلا رغم مطبات كثيرة. هؤلاء، إن كنا سنظل فى مقاربات مع النباتات، هؤلاء كشجر الصنوبر لا يفقد خضاره رغم شتاءات قاسية فى الجبل. قد يقعون أحيانا بسبب بحصة لا يرونها على الطريق، قد يهيأ لمن يراهم أنهم تفتتوا على الأرض لكن ها هم يقفون من جديد ويستمرون. كانت لحظات هشة تلك التى قضوها على الأرض لكنهم ينفضون التراب عن أنفسهم ويستمرون. يخرجون من الظلمة إلى الضوء.

• • •

اليوم أتابع مشاهد الحرب على التلفزيون وأتساءل وأنا أرى وجوه الفارين من الدمار والموت من منهم أشجار الصنوبر ومن هم زهرات «كسار الزبادى». أسمع تعليقات مذيع الأخبار وضيوفهم فأشعر أننى سمعتها من قبل، كما هى باهتة من كثرة التكرار. لم يعد يعنينى أى حرب تناقش فأنا وغيرى نقف عاجزين أمام مقتلة أخرى تبدأ تحت أنظارنا.

• • •

هى هشاشة وخفة لا يحتملان، هى حياة ناس تنقلب رأسا على عقب مع يد تدوس على مفتاح الحرب. اليوم فى عالمنا الحديث، ما زالت هناك أصابع تدوس على زرار فتبدأ الانفجارات والصواريخ. تكرار لا يطاق لحماقة لا تطاق هى الأخرى. فى كل حرب تنبت شقائق النعمان حيث يموت الناس، فيطغى لون الزهرة الأحمر على لون الدم، وتذكر شقائق النعمان بأن الموت مر من هنا.

• • •

تدخل خيوط الفجر على ليلة مظلمة وكأنه خيوط الزهرة الهشة فيصبح باستطاعتى أن أرى ما حولى. أسمع خطوات ابنتى الصغيرة تتحرك فى غرفتى وها هى تندس قربى فى السرير. تنفسها المنتظم يساعدنى على تنظيم أنفاسى أنا أيضا بينما يستيقظ عقلى تماما على ما حولى. ما حولى عالم هش، كزهرة رقيقة قد تطير أوراقها الشفافة مع الريح. هو أيضا عالم قاس قد ينكمش على أى شخص فى لحظة غير متوقعة. أنقل نظرى إلى الشباك فأرى السماء بألوانها الصارخة لحظة تحول الليل إلى صباح. هنا، حيث تنفس ابنتى وجسدها الصغير الدافئ فى فجر يوم جديد أتأمل تحول السماء فأرى قدرة النور أن تزيح ستارا ثقيلا من على الكون ومن على قلبى. وهكذا، أبدل هواجس الليل بألوان النهار وأنا أفكر بهشاشة ما حولى وأتساءل كيف لكل هذه الهشاشة أن تكون عالما ما زال ينتج حروبا تقطف حيوات الناس لتنبت مكانها شقائق النعمان.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات