حكمة الطيرلبلدٍ يتطاير - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 4:48 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حكمة الطيرلبلدٍ يتطاير

نشر فى : الخميس 1 نوفمبر 2012 - 9:50 ص | آخر تحديث : الخميس 1 نوفمبر 2012 - 9:50 ص

كنت أتمنى أن يحل علينا عيد الأضحى المبارك روحانيا صافيا نقيا من كل استثمار للدين فى الفوز بأشقى ما فى الدنيا، السلطة ونوازع التسلط، لكن وقفة عرفات تحولت فى كثير من شوارع مصر إلى مسيرات استعراض للقوة ترفع ألوية الدين وعيونها على الصناديق الانتخابية المقتربة، وكأن الله لا يعرف ما فى القلوب وما تخفى السرائر. ثم جاء صباح العيد الذى يُشرق على الدنيا وضاء داعيا إلى الرحمة والتراحم، حبا لله، فى كل مخلوقات الله، فإذا بكثير من المنابر يعتليها من يعتليها ليقصف غيره، وكأن المنابر صارت طوابى حرب للرمى والقنص، تستهدف كل من ليسوا مع فريق أو عصبة أو جماعة معتلى المنبر، بعد ان يُلبسهم ثوب العلمانية عنوة، وهو نوع من التكفير الباطن المنذر بتكفير ظاهر وسافر.. هذا يعتبرهم «شراذم»، وآخر يطالب باعتقال «الإعلاميين» منهم، وثالث يطالب «بالضرب بيد من حديد» على من قاطعوا لقاءات الرئيس (برغم مظهريتها الغالبة)، ورابع يزعم أن أعضاء جماعته وحدها هم حراس الدين والشريعة. ولم يكن هذا إلا بعضا مما جرى على كثير من منابر المدن، ناهيك عن منابر القرى، وما أدراك ما منابر القرى!

 

إننى مسلم أحمد لله كثيرا على نعمة الإسلام، تلك النعمة الكبرى التى شرح الله بها صدرى ويسر بها الكثير من أمرى، وهى نعمة لم تأتنى ميراثا ولا اتباعا فقط، بل أتتنى زيادة على ذلك عبر امتحانات جادة هدانى الله فيها عقلا وروحا، لكى أميز الخبيث من الطيب، ومن ثم لا أخشى أن أجاهر بنقد هؤلاء الذين يُلبِسون شعارات الدين بمطامع الدنيا، وأوقن بأن صنيعهم لن يفيد صلاح الأمور، بقدر ما يسىء لنقاء الدين. وإزاء فظاظة وغلظة خطاب الكثيرين منهم، أقول بأننى وعامة المسلمين الطيبين المسالمين فى مصر المسلمة، أولى بالإسلام منهم، فهو لنا نور فى القلوب وهدى للضمائر، ورحاب رحمة بأنفسنا وبالآخرين، لا أداة احتراب ولا سيف مبارزة، ولا وسيلة تسلط على عباد الله أو رافعة لركوب السلطة.

 

لقد كان استغلال منابر خطبة العيد التى أشرت إليها، بكل ما حفلت به من تكفيرٍ مُضمَر وتحريضٍ صريح، برهانا لمن يريد البرهان، على عدوانية واضحة مخلة بصفاء الروح، ومكر لا أحسب إلا أنه مُحيقٌ بأهله. وإذا كان أحدهم فى تلك الخطب قد قال للمختلفين مع دعاواه «جددوا إيمانكم»، فهو أولى بالنصيحة: «نق إيمانك»، فتاريخ قصفه الفظ للناس من غير جماعته وأتباعه، ينم عن غرور وغطرسة لا يستقيم معهما نقاء الإيمان. وأعتقد أن استغلال المنابر للمقارعة السياسية والحشد الانتخابى هو اختلاس مما لله فى مساجد بنيت ليُذكَر فيها اسمه ، لا اسم رئيس، ولا حزب، ولا جماعة، ولا عُصبة.

 

لا ينبغى أن نستسلم أبدا أمام فرية أن إيمان وإسلام أىٍّّ كان هو أفضل من إيماننا وإسلامنا، وما صك تسمية: «الإسلاميين»، إلا نوع من الافتئات على أغلبية المسلمين غير المندرجين تحت رايات مستثمرى الإسلام النفيس فى تراب السياسة. بل أقول وأنا مطمئن قلبا وحسا وعقلا، أن استثمار الادعاء الدينى فى كسب مرابح الدنيا، هو دليل على كذب خطير على الله والناس لا يعد بأى خير، وهاهى النذر: لا دنيا انصلحت أحوالها فى مصر ولا بشارة بانصلاح قريب، بل استقطاب مذموم لا يمكن أن تنهض بمثله أمه، صحيح أن من يسمَّون أنفسهم بالإسلاميين، ليسوا وحدهم المسئولين عن هذا الاستقطاب، الذى تشاركهم فى صناعته الردية فصائل سياسية كبقايا اليسار الطفولى والليبرالية الفاقعة، إلا أننا لو سلمنا بحجم المسئولية، على قاعدة أن الأقوى هو الذى يتحمل من الوزر الأكثر والأثقل، فإن من يسمون انفسهم «إسلامين» وقد صاروا فى مواقع السلطة والنفوذ، هم المسئول الأول عما تعانيه مصر من تمزق وتيه وآفاق غائمة لا طمأنينة فيها.

 

المفكر الفرنسى المسلم «رجاء جارودى» الذى كان اسمه قبل أن يُسْلِم «روجيه جارودى» عندما سألوه: « لماذا أسلمت؟»، كانت إجابته: «للغيرية التى فى الإسلام»، وهى غيرية مناطها الإحساس العظيم والعميق لدى المسلم بأنه مؤتمن على كل ما حوله من بحار وأنهار وحيوان وطير وشجر وحجر وبشر، والبشر هم ذروة ما أتُمن عليه المسلم، خاصة الأقربين من الأهل والجيران وإخوة الوطن. وليس بخاف ما يحدث من إقصاء وترويع للغير من هؤلاء المدعين بأنهم حملة لواء الإسلام منفردين فى بلادنا، وجنود الله حصريا على هذه الأرض. وهم ليسوا أفضل منا إسلاما، وليسوا وحدهم المسلمين.

 

 لقد تصاعدت تبجحات تجهر بالقول: «نحن الأغلبية» ومن حقنا أن نحكم، وهذا قول جائز لمن يحتكم فى الدنيا إلى قوانين ألعاب أو ألاعيب الدنيا، أما الذين يزعمون احتكامهم لقوانين السماء، وما قوانين السماء إلا الصدق مع الله والنفس والناس، فإن هذا القول يغدو كذبة ممعنة فى التضليل إذا حسبنا حجم أى تيار منسوبا إلى مجمل تعداد الأمة المقارب لخمسة وثمانين مليونا من البشر، ونتائج الانتخابات التى يتنافخون بها تقطع بذلك، وكلنا يعرف ألاعيب استقطاب الناس انتخابيا، واستغلال هشاشات الفقراء منهم. ومع ذلك نُسلِّم للفائز بالأغلبية فى لعبة الصناديق، فاصدقوا فى السعى لخير البلاد والعباد، لا لإعلاء شأن العصبة فى الحكم والتحكم. فما السلطة إلا تكليف لاتشريف، وما أعجب أن الطير الأعجم هداه الله إلى تلك الحقيقة، فيما لم يهتد إليها كثير من البشر. ولننظر فى بديع خَلقِه:

 

كنت أتأمل موضوع هجرات الطيور فى أكثر من مرجع علمى وشىء من الأفلام العلمية التسجيلية، ولأننى مشغول من قبل بمسألة الطائر «الدليل» الذى يبدو رأس السهم الذى يُشكِّله سرب الطيور المهاجرة، أى قائد السرب، وقد كنت أظن أنه يحتل موقعه توظيفا لعظيم خبرته بمسار الرحلة، أو تشريفا لعلو موقعه فى تراتبية السرب، لكننى اكتشفت أن ذلك كله غير صحيح، وما هو إلا تفسير على المقياس البشرى المُبتذِل لمفهوم السلطة والقيادة والحكم، فالطائر الدليل المُمسِك بدفة القيادة فى هذه الهجرات التى تقطع فيها الطيور آلاف الأميال نزوحا إلى ملاذات رحيمة تقيهم شرَّ تغيرات المناخ فى الشتاءات القاسية بمواطنهم، يتعامل مع القيادة كتكليف ومغرم وواجب يؤديه، لا تشريف ولا مغنم بل امتحان صعب عليه أن يعبره، فالطائر الدليل لا يمكث ولا يحب أن يمكث فى موقع القيادة، لأن هناك نوعا بديعا من تداول الموقع يحرص عليه هذا الطائر كما غيره من أفراد السرب، فما إن تنتهى مناوبته كقائد، حتى ينسحب إلى الخلف ليتقدم ويأخذ مكانه طائر آخر. ويكون فى رجوعه أسعد حالا من ذاك الذى يتقدم لموقع القيادة، لماذا؟

 

هذه المسألة تمت دراستها حديثا من قِبل علماء سلوك الحيوان ومختصى الطيور ومهندسى الطيران والباحثين فى ديناميكيات الهواء، وثبت أن سعادة الطائر الذى يترك القيادة مرجعها أنه سينعم بطيران أقل مشقة من ذلك الذى كان فيه على رأس السرب، لأنه عندما يكون فى المقدمة يعتمد على قوة جناحيه وحدهما فى مواجهة الحد الأقصى من تيارات الهواء المعاكِسة أو المتلاعبة به، أما عندما يصطف داخل السرب، فإنه يتمتع ببذل جهد أقل وطيران ألطف، لأن خفق الأجنحة أمامه، وكذلك وراءه، تشكِّل تيارات حمل هوائية مُساعِدة، تجعله يحلق برهة بلا رفرفة لحظة أن يتعب، أو يرفرف ببعض الاسترخاء ليستريح، فيما تتكفل حركية تيارات الهواء التى تولِدها الأجنحة من ورائه وأمامه بحمله حتى لا يهوى، إلى أن يستعيد نشاطه ويعود بهمَّةٍ يرفرف، فأى نعمة وأى نعيم!

 

وأى نقمة وأى جحيم، فى تكالب على سطوة أو سلطة تدعو البعض إلى الكذب على الله والناس والنفس، فيحتكرون إمارة الدين ووكالة السماء ليفوزوا بسلطة الدنيا والتسلط على الأرض. فليراجعوا أنفسهم، أو يراجعهم أتباعهم طيبو النوايا وحسنو القلوب من الشباب خاصة، فإننى موقن من طبائع الأمور فى دنيا البشر، أن من يطفون على السطح ليسوا غالبا الأفضل ولا الأصدق، بل الأكثر حبا للسيطرة والأفظع انتفاخا بذواتهم. وهذا ليس وقفا على من يسمون انفسهم «إسلاميين»، بل هو شائع أيضا بين من يقولون أو يقال عنهم ليبراليون، ولى معهم وقفة ممرورة قادمة.

 

مصر تتهددها مخاطر تنموية وبيئية وسكانية واقتصادية وأمنية يستحيل أن تنجو منها بينما هذا التكالب على القوة متأجج بهذه الضراوة، وفيما الاستقطاب الحاد بين بنيها تُستخدَم فيه وسائل حرام تدَّعى الحلال. لنقف بين يدى الله بقلب سليم، فهذا البلد أمانة، ولا أرى حتى الآن أن أموره تُدبَّر بأمانة، فذلك القصف السياسى فى خطب صلاة العيد من فوق كثير المنابر يشهد، وينبئنا بمن هو المسئول الأول عن ذلك الاستقطاب الذى لا يودى بأمتنا إلا إلى المهالك. حمى الله مصر وكل بنيها وأنار بصائرهم وضمائرهم حتى لا يتمزق وطننا جميعا ويتطاير بددا، لا قدَّر الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .