حقوقٌ للإنسان.. أم ترويضٌ للحكام؟ - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:39 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حقوقٌ للإنسان.. أم ترويضٌ للحكام؟

نشر فى : الإثنين 1 سبتمبر 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 1 سبتمبر 2014 - 11:58 ص

تُعنى القوانين والتشريعات التى تعتمدها الدول لتنظيم العلاقات بين مواطنيها بتحديد حقوقهم فى مختلف نواحى الحياة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، سعيا إلى استتباب الأمن وتمكين القائمين بالأنشطة المختلفة من أدائها وفقا لما تفرضه الأعراف والتشريعات السائدة. ومن أهم المصادر التى تستمد منها تلك الأسس، الأديان السماوية، والمذاهب الفلسفية التى يصوغها حكماء لمعالجة الأوضاع السائدة حولهم. ولعل أول موسوعة وضعية سجلها التاريخ، «شريعة حمورابى» المكونة من 282 بندا، والتى نقشت فى بابل عام 1790 قبل الميلاد على حجر يعرض حاليا باللوفر. وقد ركزت على قضايا السرقة، والقتل، والزراعة والرعى، وإتلاف الممتلكات، وحقوق المرأة، وحقوق الأطفال، وحقوق العبيد. إلا أنها ميزت بين الطبقات التى ينتمى إليها المعتدى والضحية فى تحديد العقوبة، فكانت مِنّة من الحاكم على الرعية وفق تقديره لفئات المجتمع، حتى يستطيع أن يُحكم سلطانه عليها.

•••

وظلت العبودية تعتبر قَدَرا محتوما، يفصل بين السادة والعبيد، كما بقيت النظرة إلى المرأة متدنية. وعندما شعرت شريحة السادة أنها لا تتمتع بكل ما تعتبره حقا لها نتيجة تعالى الحكام وانفرادهم بقرارات تنتقص مما يرونه مصالح لهم، عملوا على التخلص من المحنة التى بدأوا يعانون منها، وإن ظلوا يرتضون ما هو أبشع منها للعبيد. ففى عام 1215 الميلادى حُسم صراع بين نبلاء بريطانيا وملكها بعقد «الميثاق الأعظم للحريات» (الماجنا كارتا) الذى قلص من سلطته إزاءهم باعتبارهم أحرارا، دون المساس بالرق والاستعباد، فكان ترسيخا لسلطة الإقطاعيين فى إقطاعياتهم وليس تصحيحا لأوضاع الإنسان بوجه عام.

غير أن الوضع اختلف عند معالجة قضية حقوق الإنسان فى دولة مستجدة. ففى مرحلة بناء نظام فيدرالى للولايات المتحدة، تضمّن إعلان الاستقلال وإعلان فرجينيا للحقوق، 1776 عددا من التشريعات المتعلقة بالحقوق والحريات المدنية، من بينها حقوق «الرجال» فى «الثورة على الحكومة المقصرة». وكان هذا مهما بالنسبة لمجتمع يضم مهاجرين لا تربطهم صلات سابقة، يحرصون على استجابة الدولة المستحدثة لرغباتهم، وتُساوى بينهم فى المعاملة، وتؤيدهم فى حرمان المواطنين الأصليين من حقوقهم. وفى 1789 أصدرت الجمعية التأسيسية الوطنية للثورة الفرنسية إعلان «حقوق الرجل (الإنسان) والمواطن» معرّفا الحقوق الفردية والجماعية للأمة كأساس للدستور، استنادا لنظريات العقد الاجتماعى والحقوق الطبيعية للبشر التى دبجها مفكرون اجتماعيون فى عصر النهضة. ورغم أن الإعلان انصب على البشر بوجه عام، فإنه لم يحدد بصفة واضحة مكانة النساء أو العبودية، فاستمرت التفرقة التى كانت متغلغلة فى نفوس الأوروبيين، وانتقلت معهم إلى أمريكا.

على أن الأخطر من ذلك تَمثَّل فى الممارسات الإمبريالية التى انطلقت فى شكل غارات دول على أخرى، خاصة فى آسيا، من أشهرها التتار والهكسوس، فنكلت بأهاليها واستعبدت شعوبها واستحلت أعراض نسائها. ورغم أن الشرائع السماوية دعت إلى نبذ التفرقة والحكم بين الناس بالعدل، فإن اليهود ادعوا أن التوراة تعطيهم حقوقا تبيح لهم التنكيل بغيرهم. وحينما بدأت الفتوح الإسلامية حرص الخلفاء الأوائل على تأمين حقوق من يرفض الدخول فى الإسلام إذا قبل العيش فى ظله بسلام. بل إن فتح مصر أنقذ الكنيسة القبطية من طغيان الكنيسة الرومانية والبيزنطيين. إلا أن ترهل الخلافة مع اتساع رقعتها أغرى حكام الولايات بالاستبداد بشعوبها ونهب أموالها. وعانى المصريون من ممارسات الإنكشارية والمماليك، وهم جنود مرتزقة التقطوا من أبناء بلدان هُزمت، أغلبها أوروبى، ففرضوا سطوتهم على الأهالى العزل. ووقع الخليفة تحت سطوة قاضى القضاة، الذى يتعامل مع قضايا إصلاح أحوال البلاد وفق هواه، منشئا بذلك نمطا شاذا لنظام مستبد.

•••

ورغم أن الأوروبيين كافحوا من أجل نيل الحقوق السياسية فى بلادهم، فقد فرضوا أنفسهم أسيادا على بلدان استعمروها واغتصبوا حقوق شعوبها السياسية، وحقوقها فى السيطرة على مواردها واختيار نظام اقتصادى يمكنهم من استغلال ثرواتها فيما يعود عليها بالخير. وعندما توارت الكولونيالية السافرة عقب الحرب العالمية الثانية، لجئوا إلى كولونيالية مقنعة فى شكل استعمار جديد، ففرضوا نظما ليبرالية مشوهة، تمكنهم من التلاعب بحقوق الإنسان بلعبة مزدوجة على المستويين الفردى المحلى والجماعى الدولى، قوامها مؤازرة الفرد فى الدول النامية على مواجهة السلطة الحاكمة بموجب ميثاق للحقوق السياسية للإنسان، بدعوى إغلاق الباب أمام عودة النظم الاستبدادية التى تنكل بشعوبها (مستشهدين بالهولوكوست) وتشن حروبا مدمرة. وأرجئت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الدول ذاتها فى التنمية إلى مرحلة تالية. وكانت الحجة أن الأبعاد الاجتماعية تمثل مجالا يُفضِّل كل مجتمع الاستئثار به، ولا يُستحسن تنميطه لجميع المجتمعات.

وبينما قُيدت حركة العمال عبر الحدود، شُجِّع أبناء الدول النامية على الاعتماد على ما توفره لهم آليات الرأسمالية العالمية، من خلال قنوات التجارة العالمية والأجهزة المصرفية والمالية الأجنبية والدولية والشركات عابرة القوميات على حساب مصالح أوطانهم، الأمر الذى أعاق حكومات الدول النامية عن ممارسة سلطاتٍ تحرر اقتصاداتها من الروابط غير المتكافئة باقتصادات الدول المتقدمة. وهكذا أُسقطت الحقوق المجتمعية إزاء المجتمع الدولى، وفى مقدمتها الحق فى التنمية، وحرية السلطات الوطنية للدول النامية فى وضع النظم وسن التشريعات واتباع الإستراتيجيات والسياسات اللازمة لدفع عجلة التنمية، بما ينفع مواطنيها بأفضل مما تتيحه الليبرالية المزعومة؛ وزادوا فنصبوا أنفسهم أوصياء على التزام الحكومات بما ورد فى مواثيق حقوق الإنسان. فاضطرت الدول الساعية للنمو لإيكال النشاط الاقتصادى إلى رأسماليات محلية هشة التكوين، مرتبطة بقواعد عمل الأسواق والمؤسسات الاقتصادية الدولية، وهو ما عرف باسم الرأسمالية الكمبرادورية.

•••

وتمضى اللعبة كالآتى: التصدى للحكومات عن طريق حقوق سياسية تضع الفرد فى مواجهة حكومته. وتمكين الأفراد من السيطرة على القرارات الاقتصادية مع قصر دور الدولة على تنفيذ سياسات وفق تشريعات تضعها برلمانات يمالئ أعضاؤها رجال الأعمال. ويهاجم هؤلاء القطاع العام الذى تجد فيه الدولة وسيلة لتصحيح البنيان الاقتصادى. والهدف هو ألا تجد الرأسمالية العالمية فى مواجهتها منشآت قوية تساندها دولة قادرة على التعامل معها، فنواصل تطويع الاقتصادات النامية مستعينة بقطاعها الخاص المفكك الذى يولى كل اهتمامه لتعظيم أرباحه بالاستجابة لها، بغض النظر عن متطلبات النهوض بالاقتصاد الوطنى. بل إن اتفاقيات الشراكة الاقتصادية التى طرحتها أوروبا على الدول جنوب المتوسط، ومنها مصر، اشترطت احترام حقوق الإنسان، لتفرض وصايتها عليها. واستكملت الوصاية بتمويل وتدريب منظمات مدنية لحقوق الإنسان، مهدرة بذلك أهم حقوقه وهو العيش فى بلد يمتلك حقه فى التنمية.

إنها أبشع صور إهدار حقوق الإنسان بدعوى الدفاع عنها.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات