بَشَـر الأقفاص - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 7:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بَشَـر الأقفاص

نشر فى : الخميس 1 مارس 2012 - 8:40 ص | آخر تحديث : الخميس 1 مارس 2012 - 8:40 ص

مَن هؤلاء الملثمون المسلحون الذين قطعوا الطريق ليلا على الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح واعتدوا على سائقه وعليه وسرقوا سيارته؟ أسائل نفسى بسخط واستغراب وفزع، لأننى ألمح فى هذه الواقعة سلوكا وحشيا شديد الانحطاط وبالغ الدلالة على الخطر، ليس بسبب موقع المجنى عليه السياسى والفكرى والانسانى، ولكن لمجرد أن سمت الدكتور عبدالمنعم مُطمْئن وغير مستفز، وهى حالة يصبح فيها العدوان البشرى متجاوزا لحدود مبررات أى عدوان، حتى الحيوانى منه، ويدخلنا فى نطاق التدميرية البشرية العبثية الأشد خطرا، خاصة وهذه التدميرية تتسع فى مصر الآن، فلا تتوقف عند قُطَّاع الطرق ومجرمى السطو المسلح والبلطجية، بل تشمل أطيافا اجتماعية وسياسية لا تخطر على معتاد البال، وبأنماط مختلفة تُخفى تدميريتها وراء أقنعة متباينة، لكن ملمحا واحدا يكشفها ويجمع بينها، هو: العبث. أو المجانية. أو التدمير الذى لا لزوم له ماديا ولا معنويا حتى فى النطاق الإجرامى. فمن أين طلع علينا هذا الشر؟

 

لا أستطيع أن أجيب على السؤال مباشرة، لكن خاطرى يستدعى صور شاذة لقبيلة شاذة تعيش فى إحدى جزر جنوب المحيط الهادى وتسمى «موندوغومار»، وأجد نفسى أطلق على أبناء هذه القبيلة لقب «بشر الأقفاص» استعارة ذاتية من عنوان فرعى بأحد كتبى التى حاولت أن أرصد فيها أدبيا ردود الأفعال المتسامية كما المنحطة لبشر يعيشون فى أقفاص السجون أو المرض أو الفقر أو القهر، وها هو العنوان يعود لى بعد ثلاثين سنة من نشر هذا الكتاب «رشق السكين»، وإن كانت الدقة توجب علىَّ التحديد بأن بشر قبيلة «موندو غومار» كانوا فى الحقيقة «بشر السلال»، لأنهم منذ مولدهم وحتى الفطام يتربون حرفيا داخل سلال خشنة تحملها أمهاتهم القاسيات كرها فوق رؤوسهن، وكلما جاع الطفل أو عطش أو تألم وبكى، لا يكون من أمه إلا أن تضرب السلة فوق رأسها ضربات ناقمة لإخراس الطفل!

 

أطفال هذه القبيلة لا تلمسهم أمهاتهم تقريبا ولا تضمهم أبدا، وتجربة الرضاعة عند هؤلاء الأطفال مريرة كما معركة بين الأم والرضيع، فالأم التى تتزوج خطفا أو غصبا والتى يكرهها زوجها ويهجرها إلى أخرى متى ما حملت والتى يتوجب عليها أن تعول نفسها فور أن تلد، تكون كارهة لوليدها، ترضعه واقفة بسخط وهى تحمله على ذراع واحدة، وما إن تلقمه ثديها ويسكت عن البكاء حتى تنتزع الثدى منه وترجعه إلى السلة، وبتكرار مرارة التجربة يتعلم الطفل أن يقاتل متشبثا بالثدى ويرضع بسعار وسرعة. ولا يعرف هؤلاء الأطفال الشبع أبدا، وما أن يستطيعوا المشى حتى يكون عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم، ويكبروا متوحشين بطباع حادة غادرة. وتكون طقوس ممارسة الحب عندهم أشبه بالقتال، فالزوج والزوجة يخرجان إلى الأحراش بعيدا عن العيون والأسماع، وهناك ينخرطان فى ضرب وعض وخمش متبادل حتى الإدماء، وبهذا العنف الدامى يصلان إلى قمة الإثارة، فيشتبكان بكره ورغبة كما وحشين يتقاتلان، وينفصلان بانتهاء وكره كما وحشين أنهكهما القتال. فما علاقة ذلك بما يحدث عندنا الآن من مظاهر أصنفها ضمن التدميرية البشرية؟

 

العلاقة تكمن فى منابع التدميرية ثم الصفة المشتركة بين كل أشكالها، والمنابع يمكن تلخيصها فى تلك السلال الخشنة العازلة والحارمة من لمسات الحنان لدى رُضَّع المونتوغومار، وقسوة الأمهات المتوحشات، وغيبة الآباء الأنانيين المفترسين فى هذه القبيلة التى تُصنَّف ضمن القبائل «المتحاربة، صائدة الرؤوس، آكلة لحوم البشر»، وهذه المنابع يعادلها لدينا أقفاص السجون والفقر والقهر وحرمان الرعاية والعدالة فى دولة الاستبداد والفساد، التى لا يوجد مواطن إلا وذاق مرارة سمومها أو على الأقل استشعر ضغطها وإهانتها، يستوى فى ذلك المهمشون والمسحوقون اجتماعيا، والمقهورون والمقصيون سياسيا، بينما كانت دولة الفساد والاستبداد تمثل الأم الجافية الكارهة، والسلطة بقمتها وبطانتها ومحاسيبها تمثل الأب الأنانى الجشع فى استبداده ونهبه.

 

 بالطبع هناك فوارق كمية ونوعية فى تلك المُضاهاة، لكن الشىء بالشىء يُذكَر ويُذكِّر، ولا شك أننا كمجتمع ودولة وأفراد نمر بانتكاسة مرضية نفسية، بعد فورة من السوية العالية والصحة النفسية تجلت بها أمتنا فى أيام الثورة الثمانية عشرة المجيدة. والانتكاس المرضى يتشخص فى ظهور التدميرية البشرية التى يكمن الفارق الأساسى بينها وبين كل العدوانيات البشرية، سواء الدفاعية أو الهجومية، فى أنها مجانية وعبثية وبلا دوافع منطقية سوية أو مرضية، ودليلى من حالة الاعتداء على الدكتور أبوالفتوح نفسها، فقد كان يكفى قطع الطريق وتهديد الدكتور عبدالمنعم وسائقه بالسلاح وتركهما على الطريق وسرقة السيارة. هذا عدوان إجرامى، أما التدمير الذى لا لزوم له، فهو فى المبادرة بضرب السائق بقسوة أوشكت أن تقتله، والاعتداء على الدكتور عبدالمنعم بغباوة كان يمكن ان تكون قاتلة أيضا. فالآفة هى التدمير من أجل التدمير، وسنعثر على الكثير من مظاهرها المموهة فيما نعيشه الآن. ويحضرنى فى ذلك مثال قريب يتعلق بالدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح أيضا.

 

لقد تابعت فى الأيام القليلة الماضية وقائع اللغط الذى أثاره واحد ممن يحملون لقب «الدعاة» المصريين فى بلد عربى استضافته فيه جماعة من «السلفيين» هناك، وحتى أعرف الحقيقة رحت أبحث عن الوقائع وقد صار البحث ميسرا بالصوت والصورة على موقع «يوتيوب»، وقد فُجِعت فى فجاجة هذا «الداعية» وسطحية ما يقدمه وهبوط لغته وافتعاله التحريض فى غير مقامه، وتمثيله المبتذل الذى حاول أن يكون فيه ساخرا فأتى بمسخرة وهو ينطق «تراباتّا التَّاتَّا التّو»، ثم إنه جهم السحنة شتّام مُهدِّد حتى لدعاة معروفين ومرموقين فى مصر، وكانت كل بضاعته هى العدوانية المجانية والمزايدة السياسية الفجة باسم الاسلام، ومن ثم كان يُطرد من كل مكان يذهب إليه ثم يركب موجة هذا الطرد بافتعال بطولة زائفة وفظة، وكان من نصيب الدكتور أبوالفتوح بعض من طرطشة ذلك الفظ الذى لم يعجبه دفاع الدكتور أبوالفتوح عن حقوق المواطنة، فجعر بلغة لا تليق بـ«داعية» متهكما بجلافة وغلظة من الرجل المسلم الصادق الخلوق «أبوالفتوح يروح يدق صليب أحسن له»!

 

مثل هذا الرجل الفظ غليظ القلب هو «داعية مضاد» للإسلام ينبغى أن يراجع نفسه ويجاهدها، وهذا هو الجهاد الأكبر، وأعتقد أن الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح هو مجاهد مسلم حقيقى، استفتى قلبه وأعمل فكره وأسلم لله أمره ففتح عليه بأهم ما ينجو بالإنسان من فخاخ الكِبر وشرور الادعاء ومزالق التداعى، فتحرر من طلب القوة إلى طلب الحق، ومن ثم صار وهو يلتمس القوة من الله والناس مناط ثقة كطالب حق يريد أن يسخِّر القوة فى مرامى الخير، واتسعت رؤيته باتساع سماحة الإسلام حتى أصبح نموذجا للإسلام الوسطى المعتدل القويم الذى هو عنوان الهوية المصرية منذ أربعة عشر قرنا، فمصر لم تكن كافرة أبدا ولا هى تبحث عن دين جديد. وبهذا صار الدكتور أبوالفتوح فكرة خيِّرة جامعة أكثر من كونه شخصا، فكرة ترفض العلمانية التى باتت خارج الزمان حتى فى الغرب، كما ترفض التسلط باسم الدين الذى هو غريب ومستغرب فى مكان كمصر.

 

كل العدوانيات التى لا لزوم لها، مادية كانت أو معنوية، كبرت أو صغرت، هى ألوان وأشكال من التدميرية البشرية خطيرة العواقب فى تراكمها، سواء كانت فى عنف المجلس العسكرى حيال خصومه، أو عنف الخصوم فى تجريح المجلس العسكرى، أو فى تحرش المتظاهرين بوزارة الداخلية ووزارة الدفاع، أو فى غلظة تعبير برلمانى شاب عن ثوريته، أو فى تلويث برلمانى آخر لسمعة الناس بما لا دليل عليه إلا الخطب الحنجورية، أو فى المزايدة برفع الأذان تحت القبة، أو فى طلب إطلاق اللحى فى مؤسسات كالشرطة والجيش ينبغى أن تظل نقية من ملامح التمييز لدرء ما هو أخطر على وحدة الأمة. هذه كلها أمثلة على تدميرية بشرية سيئة العواقب، وما قطع الطرق والبلطجة المسلحة والعنف فى الشوارع إلا ملامح تدميرية «تحتية» زاعقة، تستمد اندفاعها من مناخ الاستباحة الذى تُفشيه كل التدميريات السياسية والاجتماعية «الفوقية».

 

ويبقى التنويه أن ما ذكرته عن وحشية وانعدام رحمة أبناء قبيلة «موندوجومار» الذين نشأوا فى قسوة السلال الخشنة وحرمان الأمهات الجافيات والآباء المفترسين، كانت مما رصده عالم الأنثروبولجى «آشلى مونتاجو» فى أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، أى منذ ما يزيد على تسعين سنة، لكن الصورة اختلفت الآن تماما، فقد تهذبت وتمدنت طباع أبناء هذه القبائل وأضحت صورتهم الوحشية من ذكريات الماضى، ولم يعد لديهم أطفال سلال، وهذا لا يعنى أننا فى حاجة إلى تسعين سنة لنخرج من نفسية «بشر الأقفاص»، فالأقفاص حطمتها بالفعل ثورة يناير، وإن مكثت ظلال قضبانها تحت جلود بعضنا.

 

نحن جميعا، ولا أستثنى نفسى، فى حاجة لجهاد أكبر مع أنفسنا، لمواجهة الذات على أرض دنيا مضطربة تتغير بسرعة، وفى أنوار دينٍ سمح ما عاد ممكنا عزله عن سياقات الحياة، الشخصية، والاجتماعية، والسياسية، ولصالح الحرية والكرامة والعدل لكل البشر فى وطننا، بلا تعصب ولا إكراه.

 

( ملحوظة: صباح الأربعاء: أهلا يا بلال فضل، يا جميل وكبير الموهبة، نوَّرت الشروق، وأبهجت محبيك الكثار، وأنا منهم).

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .