رحلة مع رضيع

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 31 ديسمبر 2014 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

كانت رحلة موفقة، جرى التنظيم لها على مدى شهور عديدة. جمعت كبارا وصغارا، رجالا ونساء، مصريين وأجانب. بخبرات وتجارب متفاوتة. ضمت الطبيب والمهندس ورجل الأعمال وربات البيوت والكاتب والقارئ والطالب والتلميذ ولاعب الكرة. بذل كل فرد جهدا ليملأ فراغ المعلومات عنه لدى الآخرين وحاول كل منهم أن يشبع حنينه، فالوقت المتاح قصير، وبرنامج الرحلة مكثف وضغط الشوق شديد.

•••

اثنان فى الرحلة انفردا بالملاحظة والمراقبة، أحدهما كاتب هذه السطور، والآخر شخص انضم إلى المجموعة حديثا جدا. بدا هذا الشخص منذ اللحظة الأولى غريبا عن الباقين. الباقون يسمعون ويعلقون إلا هو فيسمع ولا يعلق. كلهم يناقشون ويختلفون إلا هو فموجود ولا يناقش، يشرحون ويبررون فيبالغون إلا هو فلم يبالغ أو يتكتم أو يكذب.

شخص، ترضيه ابتسامة وحضن وربتة كتف ومسحة على شعر رأسه. لا يتشدد كالمتشددين والمتعصبين، ولا يستسلم كالجبناء والمتقاعسين. يتشبث بحقوقه كافة، ولا يسمح لأحد بالتعدى عليها أو الاستهانة بها. سعادته عند اكتمال حقوقه واستمتاعه بها فى حرية تامة لا تعادلها سعادة أى من الحاضرين بكل ما يملكون أو يحظون.

اثنان يرصدان ويتأملان، أحدهما أكبر المشاركين سنا، والثانى أصغرهم لم يتجاوز الشهر السادس من عمره. الاثنان كانا يرصدان ما يحدث حولهما ويرصدان فى الوقت نفسه نفسيهما. لم أكن أعرف أن طفل الشهر السادس نادرا ما ترمش عيناه. قضيت ثوانى عديدة، امتدت أكثر من مرة إلى دقائق. أنظر إلى عينين لا يرمش جفناهما. وأسأل. أسأل، كما سأل الكثيرون من قبلى، يا ترى فيم يفكر هذا الطفل خلال ثوانى أو دقائق الشرود؟

•••

اكتشفت خلال التأمل أن هذا الطفل، وربما أى طفل، يحب الناس الذين يتحدثون بصوت هادئ وينزعج من أصحاب الصوت العالى. هذا ما كانت تعلنه العينان بوضوح وصدق. عرفت أيضا أنه، وربما غيره من الأطفال، يجيد التعبير عن مشاعر الحب. رأيت فى عينيه حبا، سبق أن رأيت مثله فى عيون كبار أعتز بأننى قابلتهم فى حياتى، وما زلت أعتز بما رأيت. لفت نظرى نظرة منه تعبر عن مشاعر حب تجاه إنسان لاحظ أنه يشفق على إنسان آخر بسبب ضرر أصابه خلال جلستنا. رأيته فى جلسة أخرى يعبر بنظرة أخرى عن «غضب» ولا أقول «كره»، لشخص رآه يعنف شخصا آخر بصوت عال، ويد المعنف مرفوعة استعدادا للضرب.

<<< 

علق متخصص على ملاحظتى عن الحب والكره عند الأطفال الرضع، فقال لعلك يا صديقى لا تعلم أن طفل الشهر العاشر مثلا سوف يغضب إذا رأى طفلا آخر يستولى على لعبة يلعب بها طفل ثالث، ويرفض إعادتها إليه. وخلال تجارب عملية، شوهد أطفال يمدون أيديهم تجاه الطفل المغبون تعطفا ومساندة. هذا الطفل، هؤلاء الأطفال يعرفون معنى العدل ويقدرونه حق قدره. الرضيع يتعاطف مع المظلومين حتى لو كانوا بعيدين عنه. للتأكد كلف العالم الشهير داروين مساعدته بأن تبكى أمام طفل. راقب داروين الطفل ولاحظ تأثير البكاء عليه، وبالفعل مد الرضيع يده فى اتجاه مساعدة داروين وفى عينيه عطف بالغ. ألم يلاحظ أغلبنا خلال مسيرات حياة أنشأنا فيها أطفالا بغير عدد، أن الرضيع يصرخ إذا سمع أطفالا على البعد يصرخون؟ هذا الطفل نفسه لن يصرخ إذا استمع لشريط مسجل عليه صراخه هو نفسه.

•••

رأيت الطفل الذى شاركنى خلال الأيام القليلة الماضية متعة ملاحظة ومراقبة أشخاص آخرين. رأيته عاشقا للوجوه، يتأمل فى كل وجه منها طويلا، بل أطول من اللازم إذا أعجبه الوجه. ويتأمل قليلا، بل أقل من اللازم، إذا لم يعجبه الوجه. وجوه تعجبه ويرتاح لها ووجوه لا تعجبه فينفر منها ويدير نظره بعيدا. إلا أنه فى كل الأحوال يسعى بكل ما أوتى من ذكاء وخفة ظل إلى تحقيق التواصل. شغله الشاغل هو تحقيق تواصل مع الآخرين. أكد لى مخضرمون فى تربية الأطفال وفى علم النفس أنهم لم يقابلوا فى حياتهم رضيعا لا يسعى للتواصل مع بشر آخرين، أطفالا كانوا أم كبارا. أكدوا أيضا أن الطفل يفضل أن يرى الأشياء والوجوه متحركة. قد يركز فى وجه الشخص الواقف أمامه بعض الوقت فإذا بقى الوجه ساكنا لا يتحرك أو يرسم ابتسامة أو يداعب بعينيه انتقل بعينيه فورا إلى وجه آخر، أو شىء آخر، بشرط أن لا يكون هذا الآخر ساكنا. الأطفال عموما لا يحبون الأشياء الثابتة فى مكانها، والأشياء التى لا تستطيع إثبات أنها حية تتحرك، لذلك يقلقه السكون الطويل، تماما كما يقلقه الصخب والضجيج.

•••

سألت، هل يولد الطفل وفى قلبه رحمة أو شر، طيبة أو خبث، عدل أو ظلم؟. هل يولد الطفل وفى قلبه بذرة ضمير واستعداد للشعور بالذنب ؟. هل يولد ومعه القدرة على التمييز بين مبدأ أخلاقى جيد وآخر سيئ؟. أسئلة كثيرة شغلت بال الفلاسفة منذ القدم، وبعدهم علماء النفس قبل أن تشغلنى. كان الظن فى أغلب العصور يدور حول أن الطفل يولد صفحة بيضاء يتولاها المجتمع، وبخاصة العائلة، برعايته لتلويثها أو تلوينها أو تزييفها بمبادئ أخلاقية ومعايير سائدة. وفى غالب الأمر كانت المبادئ «الحضارية «هى تلك التى تعنى بتنشئة الرضيع كإنسان، أى مختلفا عن الحيوان. هذه المبادئ هى أن يحظى بضمير يكون دائما متيقظا، وبقدرة على التواصل السلمى مع الآخرين، وبإرادة ليتحكم بها فى الغرائز، وبموهبة نصرة الضعيف وردع الظالم.

•••

حان موعد العودة. عدت أنظر فى عينى ابنة الشهور الستة مودعا، ومتمنيا أن يكون المستقبل الذى سوف تعيش فى رحابه أفضل من مستقبل سعى آباؤنا إليه بحسن نية وطيب خاطر، عشنا فى أزقته وأوكار عنفه ووحل مستنقعاته مكرهين وغاضبين، وتركناه خلفنا ليعيش فى سجلات التاريخ ماضيا سيئ السمعة ومنبوذا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved