عن أزمة الصحافة والإعلام فى زمن الصمت العربى.. بالأمر!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 31 مايو 2016 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

بقدر ما يتزايد عدد المطبوعات السياسية، صحفا يومية ومجلات أسبوعية، فى مختلف أنحاء الوطن العربى، مشرقا ومغربا، تكاد تختفى الحياة السياسية حتى الاندثار، وتنطوى الصحف التى كانت مؤثرة فى القرار السياسى أو عليه على ماضيها وهى التى كانت تبشّر بالأحداث الكبرى أو تشرحها لتبررها، سواء أكانت انتصارات أم هزائم.

فى ماضى الزمان العربى، وحين كان للعرب دور مؤثر فى السياسة الدولية، كانت القاهرة هى مركز الحدث فى الوطن العربى جميعا، سواء بالفعل أم برد الفعل.. بل إن تأثيرها كان يتجاوز الحدود العربية وترصد صحفها بعنوان أهرام محمد حسنين هيكل، أساسا، لقراءة الحركة السياسية، باحتمالاتها وتداعياتها، ليس داخل مصر فحسب بل فى مختلف أرجاء الوطن العربى، وانطلاقا من أن قاهرة جمال عبدالناصر هى مركز القرار عربيا، والباقى ردود فعل بالموافقة أو بالاعتراض.

وحتى فى أيام أنور السادات ظلت القاهرة هى المركز، ولو إلى حين، وإن اختلفت الوجهة السياسية للقرار.. برغم الانشقاق العريض الذى صدَّع الموقف العربى وحوّله لمواقف متواجهة كادت فى لحظات معينة تفتح الباب لحروب عربية عربية (بين مصر وليبيا، كما بين سوريا والعراق وإن كان لأسباب مختلفة..).

أما بعد فتح مسار الصلح مع العدو الإسرائيلى (كامب ديفيد) فقد تعددت مراكز القرار، عربيا، وتم تجاوز الثوابت التى كانت معتمدة، ولو نظريا، فإذا بعراق صدام حسين يشن الحرب على إيران الثورة بقيادة الخمينى، وإذا بالعدو الإسرائيلى يقتحم حدود لبنان الجنوبية وتصل قواته إلى قلب العاصمة بيروت، مرورا بالقصر الجمهورى فى بعبدا... وعلى الطريق بينهما ترتكب بعض الميليشيات الطائفية وتحت تغطية النار الإسرائيلية مذبحة صبرا وشاتيلا فى بعض مخيمات اللاجئين الفلسطينيين فى لبنان، بعد «طرد» القيادة الفلسطينية من بيروت ومعها قوات الفصائل المسلحة التى أبعدت إلى أقصى حدود الوطن العربى غربا وجنوبا، وصولا إلى اليمن.

***

كانت بيروت، بعد القاهرة ومعها ـ عاصمة الإعلام والثقافة عموما.. بل لقد اعتبرت، ذات يوم، مكبر الصوت، أو الناشر والشارح والمترجم لسياسات مصر جمال عبدالناصر. أما بعد غيابه فقد اجتهد كل من صدام حسين ومعمر القذافى وبعض الخليج (فضلا عن ياسر عرفات) لاتخاذها منبرا، لكن الأحوال كانت قد اختلفت جذريا، وتعاظمت الخلافات العربية حول مركز القرار وأدوار الدول فيها، مما سهَّل لـ«الأغنى» أن يتقدم ليقاسم «الأقوى» الدور السياسى.. تمهيدا لأن يحاول احتكاره فى وقت لاحق، وإن ظلت لسوريا حافظ الأسد حصانة مميزة، برغم فقرها، خصوصا وأن الحنكة السياسية وحسن قراءة خرائط الاستراتيجيات الدولية كانت أشد تأثيرا من الذهب، وكان من نتيجة ذلك أن دمشق قد نجحت فى توظيف بيروت فى خدمة مشروعها السياسى، متجاوزة بذلك «فقرها» المادى بدهاء قيادتها السياسية.

أما اليوم، فإن عاصمة الإعلام العربى قد صارت إلى أهل الذهب فى الجزيرة والخليج، قبل الحديث عن مدى تأثيره السياسى، وهل هو فى مصلحة وحدة الأمة ومشروعها السياسى العتيد أم أنه يناقض فى التوجه والممارسة هذا المشروع، ويقلب المعادلة فيقزم دور الكبير (كمصر) ويعظم دور الصغير (كقطر)... ويلغى قيما ومفاهيم كانت فى طريقها إلى الرسوخ ليحل محلها سياسات طالما كانت موضع اعتراض من قبل «الجماهير العربية» يوم كانت تملأ «الشارع» بهتافاتها المدوية وشعاراتها ذات الرنين المطرب كالوحدة والحرية والاشتراكية، فضلا عن تحرير فلسطين.

***

إن فى الوطن العربى اليوم، وخلافا لما كان فى الأمس القريب، أكثر من 320 مطبوعة سياسية، يصدر أو كان يصدر ـ أكثر من نصفها فى سوريا، تمشيا مع النظام الحزبى الذى له صحفه المركزية ثم صحفه الجهوية، ثم الصحف المتخصصة (الشباب، المرأة، العمال، الجامعات، الجمعيات التى تشكل عصب الحزب.. إلخ) وحوالى مائة مطبوعة بين يومية وأسبوعية ومتخصصة فى اليمن، تليها المغرب (28 مطبوعة) فالجزائر (23 مطبوعة) فالكويت (22 مطبوعة) فالبحرين (6 مطبوعات) فقطر (4 مطبوعات) تليها تونس (4 صحف) وانتهاء بعمان (3 صحف)..

هذا بالطبع عدا المواقع الإلكترونية التى باتت تستعصى على الحصر، فى المشرق كما فى المغرب، على حد سواء.

على أن تزايد عدد الصحف والمجلات ومعها المواقع الإلكترونية لا يعكس بالضرورة حيوية سياسية، ولا يعبّر عن احتدام الصراع السياسى.. بل إنه يعبّر، فى الغالب الأعم، عن الضياع السياسى وعن الافتراق والتنافس داخل «الخط الواحد»، «بعدما انقسم هذا الخط على نفسه وتم تشتيت القوى التى كانت ذات يوم موحدة فى تنظيم واحد أو مؤتلفة فى «جبهة وطنية».

وعلى سبيل المثال، فإن الصحف السياسية محدّدة، قانونا وعرفا، فى لبنان، بحوالى مائة امتياز.. لكن ما يصدر، حاليا، من الصحف اليومية هو أقل من عشر صحف، ومعها ثلاث مجلات سياسية. أما الباقى فامتيازات مجمدة لا تظهر إلا فى انتخابات النقابة. وعندها فقط تظهر الأرامل أو الأيتام الذين آلت إليهم الامتيازات فى «حرب» الأصوات بالثمن.

ثم إن الزعامات وحتى الوجاهات السياسية قد دخلت معركة التحديث فى وسائل الإعلام، فصار لكل زعيم أو وجيه أو نجم اجتماعى أو مطرب أو مطربة موقعه أو موقعها الإلكترونى بما يغنى عن الصحافة المكتوبة.

***

الأخطر أن السياسة قد اندثرت فى الوطن العربى، بعدما تحولت إلى احتكار لأصحاب السلطة وأصحاب المال، وفى الغالب الأعم للتحالف الشيطانى الذى يجمع بين هؤلاء وأولئك فيلغى دور «الشعب» أو يكاد.

يعنى هذا ببساطة إلغاء «الرأى العام».. وبالتالى إلغاء الرقابة الشعبية على الحكم. ولقد كان هذا مفهوما فى عصر الملكيات المطلقة أو الزعامة السياسية المفردة.

أما الحديث عن الديمقراطية وحكم الشعب بالشعب فمجرد لغو، قبل الإشارة إلى سقوط أسطورة الانتخابات كإحدى وسائل التعبير الديمقراطى عن إرادة الناس.

لا حكم ديمقراطيا فى أى بلد عربى... إذن لا صحافة حرة ولا إعلام حرا فى أى بلد عربى. والاستشهاد بالمواقع الديمقراطية وانفلاتها بعيدا عن الرقابة الرسمية هو حديث عن الفوضى الإعلامية أكثر مما هو تأكيد لتعميم مناخ الحرية. فالفقراء قد «يثرثرون» بشعاراتهم الثورية على المواقع، وقد يفيدون منها للتعارف وللتواصل، لكن الخطوة التالية، أى الاتفاق على التحرك بالنزول إلى الشارع مثلا، وتوحيد هتافات الاعتراض فمرصود ومرصود مرصود... بل إنه يسهّل وصول عسس النظام إلى معارضيه وإفشال تحركهم قبل مباشرته.

إلى ماذا يدل تعاظم أعداد الصحف فى البلاد العربية متزامنا مع تناقص تأثيرها على الرأى العام الذى تساعده ثقافته السياسية، أو ربما إحساسه البديهى بالصح والغلط على التمييز بين المتشابهين، وعلى الاعتكاف وعدم المشاركة فى الحياة السياسية، ولو بالرأى؟

***

إن الصحافة العربية، عموما، تعانى أزمة مصير. والعلة فى هذه الأزمة لا تكمن فى حجم الإنفاق على الصحف أو تناقص حجم الإعلانات (فالصحف الملكية والأميرية وأهل النظام عموما تطفح بالإعلانات التى تؤكد الولاء والإخلاص فى التبعية لأصحاب القرار)... بل هى تكمن فى خواء الحياة السياسية، بل انعدامها، ووضع «الرعايا» أمام خيار محدد: إما الخضوع والانصياع لما يقرره أولو الأمر فينا، وإما الدخول فى مغامرة ستنتهى به إلى الإفلاس حتما، ومعه خسارة رصيده المعنوى لعجزه عن إكمال الطريق.

وعنوان الأزمة الوحيد هو: انعدام السياسة فى الوطن العربى.. فالسياسة، بمعناها الأصلى، أجلّ من أن تختصر بموالاة أهل النظام أو الاعتراض على أشخاصهم. إنها صراع بالمبادئ والنضال من أجل الغد الأفضل.. والشعب بحقوقه الكاملة، وأخطرها أن يكون صاحب القرار فى شئون وطنه، وبالتالى فى اختيار النظام السياسى وقياداته التى يراها الأقرب إلى برنامجه العتيد.

أما فى بلاد بلا أحزاب أو تنظيمات شعبية قادرة ومؤهلة على النضال من أجل حقوق الناس فى بلادهم، فسيظل الملك هو الملك، وهو صاحب الحق بالقرار، ولو خاطئا.

إن الأنظمة العربية تتشابه إلى حد التطابق، وتكاد تسقط الفروق بين «الجمهورية» منها و«الملكية» و«الأميرية» و... الاتهامات بالدكتاتورية، التى يتبادلها بعض القيادات ضد بعضهم الآخر فى حالات الخلاف والتصادم سرعان ما ينسونها فيبتلعونها فى حال «التصالح» و«الوئام» حرصا على «مصالح الأمة».

العلة ليست فى الصحافة، بل فى مَن يمتلك الصحافة وسائر أجهزة الإعلام، وهذا يعيدنا إلى قلب الدائرة بالسؤال البديهى: هل الحرية حق بديهى من حقوق الإنسان أم هى منحة من الحاكم لرعيته المخلصة؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved