فى انتظار أردوغان العربى

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 31 مارس 2010 - 9:54 ص بتوقيت القاهرة

 غلب الفضول على الاهتمام بالقمة العربية الثانية والعشرين التى انعقدت يومى السبت والأحد الماضيين فى المدينة الصغيرة «سرت» المقر الأقرب إلى قلب العقيد معمر القذافى، الذى يرفض أى منصب رسمى (بروتوكوليا) مكتفيا بلقب «الأخ القائد» الذى لا حدود لاختصاصاته وصلاحياته.. عمليا.

لقد ثبتت فى أذهان الجمهور صحة المثل القائل «من ليبيا يأتى الجديد»، مع احتمال أن يكون الجديد طريفا وظريفا وغير مسبوق فى تنافره مع السائد والمعتمد. وهكذا ظهر الهجانة على ظهور الجمال، وظهرت النساء يزغردن كما للذاهبين إلى الجهاد، بينما استعرض الفرسان براعتهم الموروثة من أيام المقاومة الباسلة للغزو الإيطالى متناسين أن بين الضيوف رئيس الحكومة الإيطالية الذى يغلب عليه النعاس فينام إن لم تكن فى جواره حسناوات يتنافسن على...رجولته!

ولولا ذلك الخطاب التاريخى الذى ارتجله رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان من خارج النص الرسمى، ومن خارج المتوقع على الأرجح مستحضرا فيه القدس بقوة، لما وجدت الفضائيات عامة والصحف خاصة ما تضعه عنوانا لصفحاتها الأولى وهى تنقل وقائع هذه القمة التى غابت عنها «الأخبار»، وإن حضرت اللطائف والطرائف بكثافة.

وإذا كان من الظلم اعتبار أردوغان «العربى الوحيد» أو «المسلم الوحيد» فى قمة سرت التى غاب عنها بعض أبرز أركان النظام العربى، فمن الإنصاف القول إن المواطن العربى البسيط قد سمع من هذا الزعيم التركى ما كان (وما زال) يتمنى سماعه فى صيغة قرارات جدية وقابلة للتنفيذ من أى قمة عربية.. وهذا التمنى يقع فى مرتبة الأحلام، وليس محتملا أن نسمعه فى المدى المنظور.

مصير اسطنبول لا يختلف عن مصير سرت وطرابلس، ودمشق والقاهرة وبغداد، ولا عن مصير القدس. «إن تاريخنا وعقيدتنا لا تجعلنا مجرد أصدقاء.. إنها تجعلنا أشقاء.. لقد دونا التاريخ الغنى لهذه المنطقة، ويجب ألا نشك فى أننا سنكتب المستقبل معا»!

فى أى حال، فإن أهل النظام العربى قد صفقوا لحماسة هذا «الأصولى التركى» الوافد عليهم لكى يشهد على ضعفهم وتشرذمهم، ثم انصرفوا إلى شئونهم وشجونهم، يتداولون كيف يمكنهم الرد على استفزازات نتنياهو وإهاناته المتكررة إلى مجموعهم وقد تلاقوا فى قمة سرت المحاطة بالشعارات الثورية الآتية من عهد مضى، بينما المقدسات فى القدس الشريف كما فى الخليل وبيت لحم تتهاوى أمام زحف المستوطنات التى عجز عن وقفها صديقهم الكبير الرئيس الأمريكى الأسمر وقد راهنوا على سمرته وبعض الإسلام فيه بأكثر مما هو مقبول.

***

تداولوا فى الأمر... ناقشوا الأوضاع طويلا.. واختلفوا فصار النقاش اتهامات بالتقصير،وحتى بالخيانة. فتفجر الغضب: تفضلوا إلى الميدان وستجدوننا فى الطليعة!

كانت أمامهم «على الطاولة» المبادرة العربية.. التى سفهها بعضهم، وراهنت عليها أكثريتهم.. واحتار دليلهم هل يعلنون سقوطها، خصوصا وقد هدد صاحبها، ذات قمة، بأنها لن تبقى على الطاولة إلى الأبد، أم يمددون صلاحيتها حتى القمة الثالثة والعشرين، لعل الغضبة الأمريكية من نتنياهو تجبره على البحث فيها، فتدب فيها الحياة وتصير مشروع حل مرتجى لازمة النظام العربى وأهله المدانين بالتخاذل والهرب من ميدان فلسطين؟

فى نهاية المطاف،استبقوها على الطاولة بأمل نقلها إلى طاولة القمة الطارئة التى اتفقوا على عقدها ــ استثنائيا ــ قبل نهاية العام الحالى، لعل الزمن يوفر حلا ما، يحفظ الكرامة وان هو لم يحفظ الأرض!

على أن أهل السلطة وإن غفروا هذه المزايدة عليهم فإنهم لم يغفروا للقذافى إنه لم يستقبل رئيس السلطة بالمراسم التى يستقبل بها الملوك والرؤساء، واعتبروا هذا التقصير دليلا جديدا على التخلى العربى عن القضية المقدسة.

***

ماذا عن «القضية» التى غيبت لبنان عن قمة معمر القذافى؟!

لقد ارتأى أهل الحل والربط أن يكتفى لبنان بمذكرة حول «قضية الإمام موسى الصدر ورفيقيه» الذين زاروا ليبيا فى أواخر أغسطس 1978، بدعوة من العقيد معمر القذافى تلبية لطلب الرئيس الجزائرى هوارى بومدين بضرورة التدخل لدى قيادة المقاومة الفلسطينية لكى تراعى أوضاع الأهالى فى جنوب لبنان، خصوصا أن إسرائيل كانت قد اجتاحته فاحتلت أرضه حتى مصب نهر الليطانى، فى مطلع ذلك العام، وباشرت إقامة شريط عسكرى خاضع لاحتلالها، مستعينة ببعض الخارجين على وطنهم من عسكريين ومدنيين.

..ولقد أخذت القمة علما بهذه المذكرة، وقبلت أن يدخل سفير من لبنان فى زمرة أهل القمة، بعدما تعذر ذهاب وفد رئاسى طبيعى، كما جرت العادة فى سائر القمم.

أما العراق فقد انقسمت سلطته فريقين،وللمصادفة كان رئيس كل فريق كرديا:

لقد اعتذر رئيس الجمهورية جلال طالبانى عن الحضور، مفضلا الذهاب إلى قمة أخرى فى طهران، بضيافة الرئيس الإيرانى المقاتل ضد الهيمنة الأمريكية محمود أحمدى نجاد، جنبا إلى جنب مع الرئيس الأفغانى قرضاى الذى قرر الاحتلال أن يبقيه رئيسا توكيدا لديمقراطيته، برغم افتضاح عملية التزوير فى الانتخابات بصناديق محمولة على البغال والحمير والحوامات قاتلة النساء والأطفال بتهمة الإرهاب فى مختلف أنحاء تلك البلاد المجوعة، ومعهما رئيسان لبعض الجمهوريات الإسلامية التى كانت ضمن الاتحاد السوفيتى السابق، فلما انهار سقطت سهوا من خارطة العالم.. الجديد!

وهكذا جاء وفد العراق إلى القمة العربية برئاسة وزير الخارجية هوشيار زيبارى، وهو خال رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزانى.
ولأن النتائج النهائية للانتخابات التى جرت بإشراف الاحتلال الأمريكى معززا بشهود زور يمثلون الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية (؟!) وبعض منظمات المجتمع المدنى، والتى غالبا ما تكون واجهات لدوائر مخابرات دولية، أمريكية أساسا، لم تكن قد أنتجت حكما جديدا فى العراق، بهوية محددة.. فلقد ارتأى أهل النظام العربى إرجاء البت بأمر أن تكون قمتهم الثالثة والعشرين فى بغداد، فى انتظار أن يتمكنوا من التمييز بين الخط الأبيض والخط الأسود.. وهذا ما أثار غضب وزير الخارجية الذى كاد يتهم «العرب» بالعنصرية، وكاد يتهم القمة بولائها للإدارة الأمريكية.. بل لقد هدد بالانسحاب لفضح اعتراض العرب ــ على مستوى القمة ــ على الاحتلال الأمريكى للعراق!

لا يملك أهل النظام العربى ما يقدمونه للعراق الجديد. لقد قدمت له الإدارة الأمريكية الاحتلال والحرب الأهلية التى أودت بحياة مئات الألوف من العراقيين، وهجرت الملايين منهم إلى دول الجوار وديار الشتات.. وكذلك فقد قدمت له نعمة «الديمقراطية»، عبر انتخابات مشهودة أسهم فى إبراز نظافتها إعلام العالم كله، وأساسا الأعلام الصادر عن دول عربية لم تعرف الانتخابات(فضلا عن بدعة الديمقراطية) فى تاريخها كله..

صحيح أن هذه اللعبة الديمقراطية لم تحسم الصراع بين القوى السياسية المختلفة داخل العراق، والتى يتنازعها فضلا عن النفوذ المسلح للاحتلال الأمريكى، تأثير دول الجيران، وهو قوى وفعال، وإن كانت لإيران الحصة الكبرى فيه، نتيجة حكم الطغيان الذى أورث العراق الاحتلال الأمريكى.. فهناك سوريا، ثم السعودية،ومعها دول الخليج العربى، ومعها الأردن أيضا.. وهناك تركيا وعلاقتها الخاصة بالتركمان، وعلاقتها الملتبسة بالأكراد و«حلمهم التاريخى» بكيان خاص بهم، يعرفون أن الاعتراض عليه سيجمع كل المختلفين اليوم من الجيران: إيران والسعودية، سوريا وتركيا، فضلا عن الكويت وسائر أقطار الخليج. وهذه الاعتراضات ستحرمه من الدعم الأمريكى المكشوف، فلماذا ترضى بالجزء طالما الكل متاحا لها؟

برغم هذا كله، فقد تعذر على القمة قبول اقتراح الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى بضرورة تعزيز الحوار مع إيران، سواء بصفتها واحدة من كبريات دول الجوار العربى، أو بوصفها دولة إسلامية «شقيقة» كتركيا، أو نظرا لتأثيرها فى جوارها، خصوصا وهى تخوض معركة شرسة فى مواجهة الضغوط الأمريكية لتدجينها وإلحاقها بركب الخاضعين للهيمنة الأمريكية (وفيها دائما إسرائيل).

***

وكان الرفض الفورى لهذا الاقتراح، على لسان ممثلى مصر والسعودية فى القمة ملفتا، خصوصا أن الدولتين كانتا متحمستين لإبقاء الباب مفتوحا أمام السلطة الفلسطينية للعودة إلى المفاوضات غير المباشرة(!) مع الاحتلال الإسرائيلى، تحت الرعاية الأمريكية التى ثبت عجزها،بدليل التحدى العلنى الذى أطلقه نتنياهو فى وجه الرئيس الأمريكى الأسمر.

المفاوضات العبثية، سواء أكانت مباشرة أم غير مباشرة، كما دلت تجارب السنوات الماضية،مع العدو الإسرائيلى.. «حلال»، والحوار مع دولة كبرى جارة وإسلامية، وتجتهد لأن تبدو صديقة.. «حرام»؟!

أين الحكمة؟ وأين العقل السياسى؟ وكيف نخسر من يعرض علينا صداقته،برغم بعض الاختلافات التى يمكن أن تسقط بحوار المصالح لا العواطف، ثم نذهب إلى محاورة من يغصب كل يوم المزيد من أرضنا فى فلسطين، ويقتل كل يوم المزيد من أبنائها العزل، ويسجن أكثر من أحد عشر ألف أسير من أبنائها، بينهم نساء وأطفال،ثم يرفض التفاوض ــ ولو تحت الرعاية الأمريكية ــ ويمضى فى التهام الأرض الفلسطينية، وفى اجتياح المقدسات، بدءا بالحرم القدسى الشريف، مرورا بالحرم الإبراهيمى فى الخليل، وصولا إلى مسجد بلال فى بيت لحم.. وها هو يزيل أحياء عربية ــ إسلامية كاملة من القدس ليبنى فوق أنقاضها مزيدا من المستوطنات التى تطمس نهائيا تاريخ القدس وعروبتها وإسلامها جميعا؟!

***

كان الأمل أن يكون لانعقاد القمة العربية الثانية والعشرين فى ضيافة معمر القذافى فى ليبيا تأثير مختلف، بفضل «الخطاب الثورى» لهذا العقيد الجالس على رأس السلطة فى بلاده منذ أكثر من أربعين عاما، برغم أن ليس له أى منصب رسمى..

ذلك أن ليبيا تملك ثروات غير محدودة،داخل أرضها، كما فى خزائن مصارفها، فضلا عن استثماراتها الهائلة فى أربع رياح الدنيا، والتى أعطتها وتعطيها نفوذا مكن «قائدها» من أن يذل فيخضع دول أوروبا مجتمعة.. بل لقد مكنه من أن يجبر إيطاليا على الاعتذار عن الجرائم التى ارتكبتها خلال احتلالها ليبيا،وأخطرها إعدام المجاهدين وشيخهم الشهيد عمر المختار، بل والتعويض عما أصاب ليبيا والليبيين من أضرار، خصوصا وهى قد أجبرتهم على ترك المدن (طرابلس وبنغازى) ودفعتهم إلى الصحراء.

ثم أن ليبيا بموقعها الممتاز،لها جوارها مع مصر ومع السودان، ثم مع تونس والجزائر، ولها نفوذها فى المغرب وفى موريتانيا، فضلا عن علاقاتها الوثيقة عبر الاستثمارات المشتركة مع أقطار الخليج العربى، وصداقتها مع إيران، وتخلصها من صفحة الخلافات مع الإدارة الأمريكية وشعار «طز فى أمريكا». كل ذلك كان يؤمل أن تخرج القمة العربية التى انعقدت فيها بقرارات أكثر جدية وأقرب إلى الأهداف المرجوة من النتيجة الهزيلة والمخيبة للآمال والتى صدرت عنها.

***

لطالما رفعت ليبيا القذافى شعار فلسطين، خصوصا وان كلمة السر فى «ثورة الفاتح» التى قادها ذلك الملازم الشاب مع حفنة من رفاقه الضباط الصغار برتبهم، كانت «القدس».. ثم إنه بعدما استتب له الأمر،وافترض نفسه خليفة للقائد جمال عبدالناصر قد أغدق المساعدات العسكرية والمادية على الثورة الفلسطينية قبل أن تتحول إلى سلطة لا سلطة لها على حساب فلسطين ــ الأرض والقضية.

لكن موجبات «المضيف» قد غلبت،على ما يبدو،واجبات صاحب القضية،و»الأمين على القومية العربية»التى لم يعد اثر فى الخطاب الرسمى العربى، وحتى «الثورى» منه..

وهكذا ضاعت فرصة أخرى للفرز بين المواقف، بإدانة المنحرف والمتواطئ والمستسلم، وتزكية المؤتمن الحريص على القضية.. وظهر الجميع فى الصورة مبتسمين وقد أسقطوا خلافاتهم فى البحر من حول سرت التى تكاد تكون بوابة للصحراء وحبة العقد فى الشاطئ العربى الطويل جدا والممتد ما بين تركيا والمغرب حيث خاف رجال الفتح العربى من «بحر الظلمات»،كما اسموا المحيط الأطلسى، فامتنعوا عن ركوبه إلى العالم الجديد، أمريكا، تاركين هذا الشرف لبعض من كانوا تحت ظل أعلامهم فى الأندلس..أو هكذا افترض الأديب الليبى الكبير الراحل الصادق النيهوم.. ليس القصد تشبيه فلسطين بالأندلس.. لكن القمم العربية كفيلة بتحقيق مثل هذا الإنجاز.. وأكثر!

فلنأمل ألا ندفع أثمانا إضافية من أوطاننا لعجز أهل النظام العربى عن حمايتها، خصوصا عندما يواجهون «الخيار الصعب» بين سلطاتهم والأوطان..

وإلى القمة الجديدة التى ستكون استثنائية بينما أهل النظام العربى من أركانها فقدوا استثنائيتهم فى القدرة على الإنجاز، وإن كان مازال بإمكانهم أن يتسببوا فى نكبات إضافية فى العديد من الأقطار العربية المهددة بالتمزق، من اليمن إلى موريتانيا، مرورا بالعراق تحت الاحتلال الأمريكى.

فى انتظار أردوغان عربى أو أكثر؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved