الفراغ حاكمًا فى الوطن العربى الكبير لبنان نموذجًا..

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 29 ديسمبر 2015 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

هل يكتب لنا «الغير» تاريخنا الجديد بدمائنا، أم ترانا نمحو تاريخنا الذى لم نعرف كيف نكتبه ثم لم نعرف كيف نصونه، بدمائنا؟

إن الخرائط الجديدة لمنطقتنا بالدول المهدَّدة فى وحدة كياناتها أو فى وجودها ذاته تُرسم بدمائنا ومن خارج إرادتنا ومصالحنا، وعلى حساب هويتنا الواحدة، فى الغالب الأعم.
إن قوى جديدة، من خارج التوقع، قد اقتحمت علينا حياتنا بمرتكزاتها الهشة والمصطنعة بالطلب، وعلى مقاس أصحاب المصالح، فزعزعت القائم منها من دون أن تهتم بالبديل، فإذا نحن فى مهب عاصفة دموية قد تتمكن من اقتلاع الأوضاع القائمة ثم تتركنا نهبا لرياح التغيير الذى لا نستطيع منعه ولا نحن قادرون على إعادة صياغة ما كنا عليه بما يناسب طموحاتنا إلى غد أفضل.
انتبهنا، فجأة إلى أن كياناتنا التى كنا نعترض على اصطناعها تحت حكم الأجنبى قد غدت بالاضطرار، والتعود، أوطاننا التى لا بد من حمايتها حتى لا يأخذنا التيه إلى الحروب الأهلية..
فأحلام الوحدة العربية تكسّرت تحت جنازير دبابات الانقلابات العسكرية..
وأحزاب التقدم فى اتجاه الوحدة والحرية والاشتراكية دخلت لعبة السلطة بالعسكر، ومن خارج مبادئها، فلم يتبقّ منها غير الشعارات ذات الرنين العاطفى الآخذ إلى الحلم، بينما الحكم للسلطان المفرد مقابل خيار محدد أمامها: الاستسلام عبر الالتحاق الدونى بسلطة تحكم بشعارها بعد اغتيال دلالات الشعار وأهداف الذين آمنوا به فناضلوا لتحقيقه ثم انتهوا خدما للسلطان يبرر طغيانه على مدى الساعة، أو معتقلين تغلق عليهم أبواب السجون ثم لا تفتح إلا لإخراجهم أمواتا بلا مشيّعين.
أما أحزاب النضال الوطنى من أجل استقلال البلاد وتحريرها من المستعمر الأجنبى، فقد انتهت إلى قائد فرد له حق القرار فى مختلف الشئون، سياسيا واقتصاديا، تربويا وثقافيا، حزبيا ونقابيا: هو الكل فى واحد، رأيه هو القرار، وليس على الشعب الذى بات تحت قيادته «رعية» إلا السمع والطاعة، وإلا.. فالعصا لمن عصى! وبنتيجة المطاف انتهى الأمر إلى العسكر الذى أطاع طويلا قبل أن يكتشف أن القائد قد شاخ وأنه بات أضعف من أن يقرر، وأن الأقوى إلى جانبه ــ امرأة كان أو قائد حرس أو مدير مخابرات ــ قد بات صاحب القرار الذى قد يحمل بصمة القائد حرصا على «الشرعية».
***
كانت السلطة أرض صراع مفتوح، للخارج أساسا، ثم للأقرب إلى الخارج من قوى الداخل.
وإذا كان «الكاريكاتور» يغلب على عملية «انتخاب» رئيس للدولة فى لبنان، مرة كل ست سنوات، ثم مرة كل تسع سنوات أيام عهد «الوصاية السورية» على الوطن الصغير، فإن عملية تناوب الحزب والجيش منفردين، ثم متحدين تحت راية الحزب، ثم عبر «القائد الفرد» للجيش والحزب، وإن هو موَّه التفرد بجبهة وطنية تضم «هياكل» الأحزاب التى أُفرغت من مضمون شعاراتها ومن جماهير مناصريها، قد باتت هى القاعدة فى كل من سوريا والعراق واليمن ــ جنوبا وشمالا قبل أن تستعيد اليمن وحدة دولتها فى العام 1994، وعبر الحرب.
***
أما فى الدول العربية التى تولى «الميدان» التغيير فيها بطوفان الجماهير التى أقامت فيه حتى تمّ خلع المقيم فى القصر، فإن عملية التغيير قد اصطدمت بواقع أن الجماهير بلا رأس، بلا قيادة وتنظيم، وبالتالى بلا خطة عمل تواجه بها ما بعد إسقاط الطغيان، إذا ما هى نجحت فى إسقاطه.
الشعوب العربية، الآن، فى التيه: دولها التى ظلت مشاريع دول، يختصرها فى الغالب والأعم «الحاكم» الفرد الذى جاء بانقلاب عسكرى، أو بتسوية سياسية يفرضها «الخارج» عربيا كان أو خارجيا، أو ــ فى الغالب عربيا ــ أجنبيا فى «صفقة» لتسوية مشتركة.
ليس من بلد عربى يعرف يقينا مَن يحكمه، وإلى متى سيستمر هذا الحكم، ومَن سيكون البديل، فى حال تم التوافق من فوق رأس شعبه، على هذا البديل..
وإذا ما اعتمدنا لبنان نموذجا لاستطعنا اكتشاف بعض ركائز الواقع السياسى العربى، فى هذه اللحظة:
1 ــ مع استقلال الدولة فى أواخر العام 1943، ونتيجة غلبة النفوذ البريطانى فيه على نفوذ الانتداب الفرنسى بعد هزيمة فرنسا أمام الاجتياح الألمانى، تم انتخاب الشيخ بشارة الخورى ــ فى اللحظة الأخيرة ــ بديلا من «المرشح الطبيعى» إلى ما قبل شهور قليلة إميل اده لموقع رئيس الجمهورية للبنان المستقل..
... وكان لا بد من موافقة سوريا التى كانت القوات الفرنسية لا تزال فيها، تواجه الهبات الجماهيرية والانتفاضات، ولم تخرج منها إلا مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفى حين تعرضت سوريا لمجموعة من الانقلابات العسكرية فى أعقاب الهزيمة العربية أمام إقامة الكيان الإسرائيلى بالقوة على أرض فلسطين، فإن «الدولة» الوليدة فى لبنان ظلت ثابتة.. بل وتبدى أن لها رعاية دولية استثنائية.
بعد ثورة 23 يوليو 1952 فى مصر، ثم تقدمها إلى دور عربى كانت مغيَّبة عنه، والحفاوة الاستثنائية التى حظى بها شعبيا، باتت مصر جمال عبدالناصر قوة مؤثرة فى لبنان، خصوصا وقد نشأت شراكة ضمنية حول هذا البلد الصغير، بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية التى باتت قيادة الغرب جميعا ومصدر القرار.
ولقد استمرت هذه الشراكة فى القرار حتى رحيل جمال عبدالناصر واعتماد أنور السادات سياسة مغايرة وصلت فى أعقاب حرب أكتوبر ــ تشرين ــ مع العدو الإسرائيلى إلى الانسحاب الكامل من موقع التأثير والشراكة فى القرار فيما يتصل بالمشرق العربى عموما، بل وبالعرب عموما، مع استثناء يتعلق بدولتى الجوار: ليبيا والسودان، ولأسباب تتصل بأمنها القومى.
فى هذه الأثناء تقدمت سوريا حافظ الأسد، الذى كان الحاكم الفعلى من خلف ستار قبل أن يتولى الحكم رسميا، وبمختلف مواقع القيادة فيه مدنيا وعسكريا، لتكون «الشريك» العربى للغرب بالقيادة الأمريكية، مع حفظ حصة معينة للمملكة العربية السعودية.
***
فى أواسط السبعينيات انفجر لبنان، ذو الدولة الأضعف من طوائفه، بالحرب الأهلية، التى كان بديهيا أن تنزلق إليها المقاومة الفلسطينية التى كانت قد استقرت، بقياداتها وكتلتها العسكرية المهمة، فى لبنان، محدثة خللا فى التوازنات الهشة لهذا الوطن الصغير بطوائفه العديدة. وكان بديهيا أن تنخرط أطراف عربية عديدة فى هذا الصراع، أولها النظام السورى ومقابله نظام صدام حسين فى العراق، ودول أخرى كل بحسب موقفه من هذا الطرف أو ذاك. وكان أن أقرت جامعة الدول العربية إنشاء «قوات الردع العربية» التى شكلت القوات السورية أكثريتها الساحقة... وصار الصراع عربيا ــ عربيا، وفيه ومن خلفه «الدول»، وصار لبنان ساحة صراع مفتوح تملأه الدماء. وكان ذلك أقصى ما يطمح إليه العدو الإسرائيلى، وهكذا تقدمت قواته بقيادة أرييل شارون لاحتلال جنوبه وبعض بقاعه وجبله ومعظم بيروت فى أوائل حزيران (يونيو) 1982 مرتكبة مسلسلا من المذابح أشهرها وأفظعها فى مخيمَى صبرا وشاتيلا. وتدخلت «الدول» لإخراج قيادة المقاومة الفلسطينية ومعظم مقاتليها من لبنان.
فى ظل الاحتلال الإسرائيلى انتُخب بشير الجميل رئيسا للجمهورية فى ثكنة عسكرية وبحماية الدبابات، لكنه اغتيل بعد فترة وجيزة فجىء بأخيه أمين الجميل رئيسا بين مميزاته أنه لم يزُر إسرائيل، مثل أخيه، ولم يعقد اتفاقا مباشرا معها.. ولكنه تورَّط فى اتفاق 17 أيار (مايو) 1983 معها، بذريعة التمهيد لإخراج عسكرها، متسببا بإيقاظ الحرب الأهلية النائمة.. معتمدا بنسبة ما على دعم من صدام حسين، لم يستمر طويلا، بسبب طغيان النفوذ السورى وحلفائه الأقوياء داخليا.
استدعت هذه التطورات الدراماتيكية مؤتمرات للحوار بين الأطراف المتقاتلة برعاية سورية ـ سعودية تحت المظلة الأمريكية، انتهت باتفاق سياسى فى مدينة الطائف السعودية تمّ التوصل إليه عبر النواب المنتخَبين قبل خمسة عشر عاما، وكان قد توفى بعضهم« على الطريق» إليه. وهكذا صار لبنان، بالمعنى السياسى «محمية سورية»، بشراكة سعودية معلنة مثّلها رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريرى، تواصلت حتى اغتياله فى 14 شباط (فبراير) 2005، فكانت نهاية الشراكة وانسحاب سوريا ــ سياسيا وعسكريا ــ من لبنان.
على امتداد السنوات العشر الماضية عاش لبنان وضعا قلقا ومقلقا، تفاقمت خطورته مع انفجار الحرب فى سوريا وعليها وعجز الشريك الثانى، أى السعودى، عن ملء الفراغ، على الرغم من الرعاية الأمريكية المباشرة... وها هو فى فراغ سياسى يمنع ــ منذ أكثر من سنة ونصف السنة ــ انتخاب رئيس جديد، ويضرب بالشلل الحياة السياسية فيه، فالمملكة المذهّبة لا تكفى وحدها لتأمين الاستقرار فيه وإدامته.. لا سيما أن إيران كانت قد تقدمت لاحتلال موقع الشريك، عمليا، بقوة نفوذها وأبرز تجلياته دعمها المفتوح لـ«حزب الله» الذى سطر صفحات مجيدة فى مواجهة العدو الإسرائيلى كقوة احتلال.
* * *
فى غياب مصر، ومع تدمير الدولة فى العراق، ثم فى ليبيا معمر القذافى وغرق سوريا فى بحر دمائها، تقدمت السعودية لاحتلال الدور القيادى، بالاضطرار أكثر مما بالرغبة... لكن التجربة تدل على أن المملكة المذهّبة غير مؤهلة للقيادة (أقله المنفردة..) وتجربة اليمن قاطعة فى دلالاتها.
ولبنان، بفراغ السلطة فيه، يفضح الفراغ العربى الشامل.

رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

اقتباس
على امتداد السنوات العشر الماضية عاش لبنان وضعا قلقا ومقلقا، تفاقمت خطورته مع انفجار الحرب فى سوريا وعليها وعجز الشريك الثانى، أى السعودى، عن ملء الفراغ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved