العروبة فى قلب الخيبة والأنظمة المعادية!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 28 يونيو 2016 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

لم تكن العلاقات العربية – العربية «أخوية» دائما، يسودها الشعور المشترك بوحدة المصير.

حجزت الحدود التى رسمها «المستعمر» فى الغالب الأعم، من خلف ظهر الشعوب الشقيقة، الطموحات والأمانى المشتركة زارعا فيها مشاعر عدائية متبادلة بين «الأشقاء» حسبا ونسبا ومصالح، صار تجاوز أى فرد من هذه الدولة إلى تلك، من غير ترخيص وختم على جواز سفره «اعتداء» على السيادة. صارت الشقيقة الجارة فى موقع العدو.

بديهى، والحالة هذه، أن يسقط العداء عن «العدو الأصلى» إسرائيل عندما يصنف الإخوة «أعداء» تتبدل صورة «العدو»، تغيم ملامحه الأصلية.. ننسى حروبه المدمرة ومجازره المتوالية. ننسى احتلاله فلسطين وتشريد شعبها وتحويله إلى «لاجئين فى دول الجوار». تتناقص مشاعر الإخوة بينما تنتعش الكيانية القابلة، دائما، للتحول إلى شوفينية أو عنصرية.

***

يعيش «العرب» هذه الأيام، حالة من انفصام الشخصية تدفع بعضهم إلى التبرؤ من عروبتهم. البعض يعتبر العروبة موروثا آتيا من الماضى ليس قابلا للحياة فى زمن العولمة. بعض آخر يعتبر العروبة «بدعة» وكل بدعة ضلالة... بعض ثالث يتطرف إلى حد اعتبار العروبة «اختراعا مسيحيا» فى تقليد للغرب حيث كانت «القومية» هى الرابط بين مكونات الأوطان وليس الدين. بعض رابع يُحمِل العروبة المسئولية عما آلت إليه أحوال العرب، فيتنكر لها ويتهمها بالعقم.

وكان «المشرق العربى» هو المنبت أو المصدر، وهو الذى تولى أهله تحويل العروبة من صلات هيولية مرتكزها عاطفى بين الناطقين بالعربية إلى نظرية فعقيدة اتخذتها الأحزاب السياسية مرتكزا فكريا ونهج عمل (حزب البعث العربى الاشتراكى– حركة القوميين العرب..) ثم تسلقها ــ المغامرون بالانقلاب العسكرى غالبا – للوصول إلى السلطة (فى سوريا بداية وبعدها فى العراق، ثم فى اليمن).

لا ينكر أن هذه الأحزاب والقوى السياسية ذات الشعار القومى قد خاضت سنوات طويلة من النضال فى الشارع ــ سياسيا ــ رافعة مطلبها «القومى» الجامع، معارضة «الأنظمة الكيانية»، رافضة الهيمنة الأجنبية، منادية وضاغطة على الأنظمة بمطلب مواجهة إسرائيل لتحرير فلسطين.
وفى البدايات، أى فى أواخر الأربعينيات والخمسينيات وحتى الستينيات، خاضت الأحزاب والمنظمات القومية (أى العربية) النضال فى الشارع حاملة شعاراتها الوحدوية، مناضلة من أجل تحقيق الهدف الذى تبدى حلما.. ولقد شاركت فى الانتخابات النيابية، فى سوريا على وجه الخصوص، ودخل بعض قيادييها المجلس النيابى... بل إن المناخ كان يسمح حتى للحزب الشيوعى فى سوريا، وهكذا صار أمينه العام نائبا فى دمشق.

وقد وصل تأثير هذه الأحزاب القومية إلى اليمن، شمالا وجنوبا، وهكذا تولى مناضلون من حركة القوميين العرب السلطة فى الدولة التى تم تحريرها من الاستعمار البريطانى، فكانت «جمهورية اليمن الديمقراطى» وعاصمتها عدن، وهرب السلاطين التى كانوا يحكمون «جهات» فيها مع المستعمر البريطانى الذى جلا عنها بعد حقبة استطالت دهرا.

***

مع إقامة «إسرائيل» بالقوة على أرض فلسطين، سقطت هيبة الأنظمة القائمة، فى الدول العربية المحيطة بها.. سقطت الجيوش العربية، التى كانت غاية فى الضعف، والتى لم تكن تظهر إلا فى الاستعراض لمناسبة الأعياد (عيد العرش، مثلا، أو ذكرى الاستقلال.. الخ). وكان بديهيا أن ينتصر المشروع الإسرائيلى المخطط له منذ عقود، والمعدة له «العصابات المسلحة» التى كانت قد سلخت أجزاء مهمة من أرض فلسطين، بالمال، وحولتها إلى قواعد فى انتظار الحرب التى ستنتهى بهزيمة العرب مجتمعين وإقامة الكيان الإسرائيلى بالقوة، معززة بقرار من مجلس الأمن الدولى.. وهى سابقة فى تاريخ هذه المنظمة الدولية، خصوصا أن القرار اتخذ بالإجماع، ومن دون أى صوت معارض.

انكشفت غربة الأنظمة القائمة، آنذاك، عن الواقع، وجهلها بالعدو القومى والمخططات التى كان العمل جاريا لتنفيذها على الأرض مباشرة بعد احتلال البريطانيين فلسطين فى الحرب العالمية الأولى.. واستنادا إلى وعد بلفور الذى كان أعطى فلسطين للحركة الصهيونية فى العام 1917، أى بعد سنة واحدة من معاهدة سايكس ــ بيكو، التى تقاسم فيها البريطانيون والفرنسيون أقطار المشرق العربى ( لبنان، سوريا، العراق...) وكان الأردن جزءا من سوريا قبل أن يقتطع ليصير إمارة للأمير عبدالله ابن الشريف حسين مطلق الرصاصة الأولى باسم «الثورة العربية» بطلب من الإنجليز لمواجهة الأتراك. البعض يفضل أن يسمى هذه «الغربة» تواطؤا، وله من الأدلة ما يؤكد ادعاءه.

***

من الضرورى، هنا، الإشارة إلى تقدم الولايات المتحدة للعب دورها فى المنطقة، خصوصا أن إسنادها العسكرى للحلفاء كان له الدور الحاسم فى الانتصار على «المحور» مع نهايات الحرب العالمية الأولى.

و«تصادف» أن كان للرئيس الأمريكى اهتمام بالنفط... وهكذا أدخلت السعودية، التى كانت قيد الإنشاء إلى الخريطة الجديدة للمنطقة، مع «نصيحة» بأن تظل بعيدة عن مشكلات المشرق، وعنوانها فلسطين.

على أن هذا النفط السعودى سيكون المحرك أو الدافع الفعلى لأول انقلاب عسكرى، فى سوريا قاده الزعيم حسنى الزعيم (شتاء 1949)، وهو انقلاب سيسقط أول رئيس منتخب فى الجمهورية السورية حديثة الولادة والاستقلال (شكرى القوتلى).. وستكون المخابرات الأمريكية هى «المنظم» و«الموجه» لهذا التغيير المؤثر.

وستمضى سنوات قبل أن تدرك القيادات العربية مدى الترابط بين الحدثين: الهزيمة فى فلسطين، ومشاريع الغرب (أمريكا وبريطانيا ومعهما فرنسا ولو بحصة أقل) حول السيطرة على منابع النفط فى كل من السعودية وبلاد الشام بعنوان العراق.

أما على المستوى العربى فستكون الانقلابات العسكرية (أى الالتفات إلى الداخل وتحميل الأنظمة القائمة المسئولية عن الهزيمة) هى الرد المباشر على فضيحة العجز عن مواجهة المشروع الإسرائيلى.

ولسوف تواجه مصر الثورة التى قام بها ضباط قاتلو فعلا فى فلسطين، الضغوط الأمريكية، فضلا عن الحصار الغربى، لمنعها من تشييد السد العالى فى أسوان.. و«لتأديبها» شن الغرب ممثلا ببريطانيا وفرنسا ومعهما إسرائيل العدوان الثلاثى فى خريف العام 1956.

ولقد أثبتت الأمة العربية وحدتها فى مواجهة ذلك العدوان، فوقفت جميعا إلى جانب مصر، من أقصى المغرب إلى أدنى المشرق.. وخرجت الجماهير إلى الشوارع تطالب بتسليحها لتقاتل مع الجيش المصرى، ولترد العدوان الإسرائيلى..

ولعل تلك الهبة كانت بين المقدمات التى أوصلت إلى قيام دولة الوحدة، عبر اندماج مصر وسوريا فى «الجمهورية العربية المتحدة».

كان الإنجاز أعظم من أن تتحمل مسئوليته دول تنقصها القوة، وشعوب ينقصها الوعى وإن لم تنقصها العاطفة والأمل بإثبات وجودها وتحمل مسئولية قرارها التاريخى.

وكانت قوى الاستعمار قديمه والجديد (الأمريكى) قادرة، بعد، على اللعب على التناقضات بين الأنظمة العربية التى كان معظمها فى موقع «التابع» إما لتورطه فى علاقة مخابراتية وإما لعجزه عن القرار.

أما الجماهير فلم تكن تملك إلا أحلامها، أما دولها فلم تكن – عمليا ــ دولا مؤهلة لتحقيق إنجاز تاريخى كالوحدة من شأنها أن تغير العالم. وهكذا تساقطت الأحلام فى انتظار قيادة مؤهلة على حملها.

وفى انتظار استكمال ولادة «الأمة» كانت الأنظمة فى مختلف الأقطار تعمل على إجهاض ذلك الانجاز التاريخى الذى تطلب مثيله فى الغرب الأوروبى حقبات طويلة من الحروب بين الأديان والمذاهب والبروتستانت قبل أن تتبلور صورة «القوميات» التى سوف تستولد «الدول» بحدودها الراهنة التى رسمت بالدم، فى عهود الظلام... بينما «العرب» يتحركون تحت الضوء، وأنظمتهم فى الغالب الأعم معادية لأحلامهم التى تراها خطرا على وجودها، ولذلك تقاتلهم فيها باعتبارها «بدعة» مجافية للعصر. العروبة، بهذا المعنى، انجاز تاريخى عظيم.

ولذلك تستنفر العصبيات جميعا، الطائفية والمذهبية والعرقية والجهوية لضرب العروبة فى المهد ومنعها من اجتياح حلبة السياسة بذريعة أنها تستنفر وتستدعى الأعداء والخصوم جميعا وتمنع «الدول» حديثة الولادة، هزيلة البنيان من أن تستكمل جاهزيتها لخوض معركة التحرير بالوحدة أو الوحدة بالتحرير.
وهكذا تغرق الأمة الآن فى مستنقع الطائفية والمذهبيات الآخذة إلى الصلح مع إسرائيل، بشروطها، وإلى التبعية المطلقة للولايات المتحدة باعتبارها «القدر الذى لا راد له».

وتبقى الأحلام معلقة فى سماء الأرض العربية فى انتظار القادر على تحقيقها، بينما تعمل الأنظمة بالتحالف مع الغرب الأمريكى وإسرائيل لاغتيالها وهى فى المهد وقبل أن يتكامل الحلم وتكتسى الفكرة بالقوة المؤهلة على صنع الغد الأفضل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved