نظرة من الداخل على ما جرى داخل الكرملين فى أثناء حرب أكتوبر المجيدة

إيهاب وهبة
إيهاب وهبة

آخر تحديث: السبت 27 أكتوبر 2012 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

تزخر المكتبات، فى الداخل والخارج، بعدد وفير من الكتب والمراجع التى أرخت لحرب أكتوبر 1973. ونكاد نعرف الآن أدق التفاصيل عن خطة القيادة المصرية للحرب، والأهداف التى حرصت على تحقيقها، وكيف استطاعت أن تؤمن الجبهة الداخلية، وأن تحشد التأمين والدعم العربى والدولى. نعرف أيضا وقع الصدمة على إسرائيل، وكيف استغاثت بالولايات المتحدة لإنقاذها، وذلك منذ اللحظة الأولى لاندلاع المعارك، ثم نتائج التحقيقات التى صدرت عن اللجان الإسرائيلية التى شكلت لمعرفة أسباب الفشل، وأوجه القصور. ونستطيع الآن أيضا أن نرى أمامنا صورة شبه كاملة للموقف الأمريكى أثناء الحرب من خلال ما كتبه هنرى كيسنجر، ونصوص محادثاته التليفونية أثناء الحرب ساعة بساعة، بل ربما دقيقة بدقيقة، ومن خلال ما كتبه الرئيس ريتشارد نيكسون، وبيل كوانت وغيرهم.

 

اللغز الوحيد الذى ظل حبيس الأدراج، كان ذلك الذى دار بالفعل داخل أسوار الكرملين أثناء الحرب، ومواقف القادة فى المكتب السياسى للجنة المركزية للحزب الشيوعى، وفى الحكومة وفى وزارة الخارجية ووزارة الدفاع، بطبيعة الحال كانت تتم اتصالات يومية بين مصر والاتحاد السوفييتى إلى الحد الذى جعل السفير السوفييتى النشط فى مصر حينئذ، فينوجرادوف، يحصى لقاءاته مع الرئيس الراحل أنور السادات طوال مدة الحرب بخمسة وثلاثين لقاء. أيضا زار مصر رئيس الوزراء السوفييتى كوسيجين فى 16 أكتوبر 1973 وبحث الموقف بكل تفصيلاته مع الرئيس السادات والقيادة المصرية. ولكننا لم نعلم يقينا ما كان يدور وراء الكواليس.

 

ربما لم يكن لنطلع على كل ذلك لولا ذلك الكتاب المهم الذى ألفه دبلوماسى سوفييتى محنك وهو السفير فيكتور إسرائيليان، الذى كان واحدا من أربعة مسئولين شكلوا فريق معالجة الأزمة برئاسة نائب وزير الخارجية كوزنتسوف. حضر هذا الفريق كل اجتماعات المكتب السياسى، بل وحتى الاجتماعات المصغرة التى كانت تتم فى مكتب بريجينيف سكرتير عام الحزب الشيوعى.

 

 

 

غير أننى أجد نفسى مضطرا، قبل أن أتعرض لبعض ملامح ما أورده إسرائيليان فى كتابه عما كان يجرى داخل الكرملين أثناء الحرب (بالمناسبة كان ذلك هو العنوان الذى اختاره المؤلف لكتابه)، ــ أن أشير إلى وضع العلاقات المصرية السوفييتية قبل اندلاع الحرب. كان الرئيس السادات قد قرر فى 8 يوليو 1972 الاستغناء عن خدمات كل الخبراء العسكريين السوفييت فى مصر (18 ألف خبير) وأوضح فى خطبه وفى كتابه «البحث عن الذات» مختلف الأسباب التى دعته لاتخاذ ذلك القرار الخطير، ومن أهمها حرصه على عدم خوض الحرب المرتقبة فى ظل وجود الخبراء السوفييت على الأراضى المصرية. ومع ذلك فإن المشكلة التى كان على مصر مواجهتها هى العمل على احتواء الموقف بحيث لا يصل الأمر إلى حد القطيعة بين البلدين، فى الوقت الذى مازال الاحتلال الإسرائيلى جاثما على أراضينا، وكنا نعد أنفسنا لدخول المعركة، ثم حقيقة اعتمادنا شبه الكامل على الاتحاد السوفييتى فى الحصول على السلاح والعتاد وقطع الغيار. وإحقاقا للحق. وكنت وقتها منتدبا للعمل فى مكتب مستشار رئيس الجمهورية للأمن القومى السيد حافظ إسماعيل، فقد تلقى القادة السوفييت القرار بقدر كبير من ضبط النفس، وخلال أشهر معدودات جرت خلالها زيارات متلاحقة من كبار المسئولين المصريين إلى موسكو للقاء القادة السوفييت، أمكن إيقاف التداعى السلبى فى الموقف، بل تمكن وزير الحربية الفريق أحمد إسماعيل من التوصل إلى صفقة ضخمة من الأسلحة المتطورة خلال الزيارة التى قام بها إلى موسكو فى أواخر فبراير 1972. ثم زار موسكو فى نهاية شهر يونيو 1973 السيد حافظ إسماعيل، حيث استمر اللقاء مع سكرتير عام الحزب الشيوعى بريجينيف  ثلاثة ساعات ونصف الساعة. وفى هذا اللقاء أكد الزعيم السوفييتى استمرار الدعم العسكرى لمصر، مؤكدا حق القيادة المصرية فى تقرير ما تراه بالنسبة للعمل العسكرى، ولو أن الاتحاد السوفييتى يفضل أن يكون الحل دون إراقة الدماء. وفى ذلك اللقاء المهم للغاية طلب بريجينيف من السيد حافظ إسماعيل إبلاغ الرئيس السادات أنه اتخذ قرارا ــ على عكس ما أوصى به العسكريون السوفييت ــ بإمداد مصر بصواريخ سكود لتكون بمثابة سلاح ردع سيعمل له الإسرائيليون ألف حساب.

 

فى مساء يوم 6 أكتوبر حضر السفير السوفييتى فينوجرادوف للقاء الرئيس السادات كى يبلغه تهنئة بريجينيف بنجاح مصر فى عبور قناة السويس، وذكر السفير للرئيس السادات أن بريجينيف يعتبر ذلك اليوم هو أسعد أيام حياته.

 

 

 

بعد هذه المقدمة، التى أشعر بأنه كان لابد من ذكرها، أعود إلى كتاب الدبلوماسى السوفييتى السفير إسرائيليان. يقول المسئول السوفييتى فى كتابه أنه عند بدء القتال تشكك بعض أعضاء المكتب السياسى وعلى رأسهم جريشكو وزير الدفاع ــ الذى كان يعتبر طرد الخبراء السوفييت من مصر بمثابة إهانة شخصية له ــ وكذلك جروسبيكو وزير الخارجية ــ الذى لم يحمل ودا تجاه الرئيس السادات وكان حريصا على الحفاظ على الوفاق مع أمريكا ــ أقول تشكك هؤلاء فى قدرة كل من مصر وسوريا على تحقيق أهدافهما، غير أن النجاحات التى بدأت تتوالى أخبارها، كانت بمثابة مفاجأة كبيرة وسعيدة للغاية لكل القادة السوفييت.

 

ويستعرض الدبلوماسى السوفييتى مستوى الدعم العسكرى لكل من مصر وسوريا خلال الحرب من خلال الجسر الجوى الذى بدأ اعتبارا من 8 أكتوبر مشيرا إلى أن طائرات الشحن الضخمة من طراز انتينوف كانت تهبط فى المطارات المصرية بمعدل طائرة واحدة كل ثلاثين دقيقة، هذا بالإضافة إلى الإمدادات عن طريق البحر.

 

ويشير المؤلف إلى عدم استجابة الرئيس السادات للرغبة التى كان قد أبداها الرئيس حافظ الأسد للسفير السوفييتى فى دمشق، وهو وقف إطلاق النار بعد أن تكلل الضربات الأولى بالنجاح، على اعتبار أن سوريا ليست فى وضع يسمح لها بمواصلة الحرب لأمد طويل. ويوضح الكاتب أن السوفييت نجحوا فى إقناع القيادة العراقية بإرسال قوات لدعم الجبهة السورية. ويتحدث إسرائيليان أن الهدف الأساسى من زيارة كوسيجن رئيس الوزراء لمصر يوم 16 أكتوبر وهو إقناع الرئيس السادات بطلب وقف إطلاق النار، خاصة مع تواتر الأنباء الخاصة بالثغرة. غير أن السادات رفض ذلك مستخفا بأهمية الثغرة، وخرج كوسيجن بانطباع بأن السادات غلب عليه العناد، ولم يقدر العواقب تقديرا صحيحا.

 

 

 

ثم يتحدث الكاتب تفصيلا عن الأزمة المتصاعدة فى العلاقات السوفييتية الأمريكية، وحضور كيسينجر إلى موسكو يوم 20 أكتوبر بناء على دعوة سوفييتية، وذلك بالتزامن مع طلب الرئيس السادات ترتيب وقف إطلاق النار عن طريق مجلس الأمن، وفض الاشتباك، وعقد مؤتمر للسلام. أصر بريجينيف فى مباحثاته مع كيسينجر على بدء سريان وقف إطلاق النار لحظة صدور قرار مجلس الأمن، غير أن الأخير رفض ذلك، مما خلق الانطباع لدى السوفييت بأن كيسينجر يريد إعطاء إسرائيل مزيدا من الوقت لمواصلة عملياتها الحربية.

 

ثم يستعرض الدبلوماسى السوفييتى كيف أدى عدم امتثال إسرائيل لقرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، إلى تدهور الموقف بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة، حيث رأت القيادة السوفييتية أن كيسينجر قد تعمد خداعها. وكنتيجة مباشرة للخطاب الذى بعث به بريجينيف إلى نيكسون يوم 25 أكتوبر (والذى ذكر فيه أن الاتحاد السوفييتى سيواجه بضرورة بحث إمكانية اتخاذ خطوات انفرادية بسبب استمرار الانتهاكات الإسرائيلية)، قامت الولايات المتحدة بوضع القوات الأمريكية على مستوى العالم فى أعلى درجات التأهب، وأن تكون القوة النووية الأمريكية على أهبة الاستعداد أيضا.

 

ويتحدث الكتاب عن وقائع اجتماع المكتب السياسى يوم 25 أكتوبر بعد وصول المعلومات عن رفع حالة الاستعداد الأمريكى العسكرى والنووى، وعن المناقشات المستفيضة التى جرت، والبدائل التى طرحت لمواجهة الموقف الأمريكى، غير أن بريجينيف رأى فى النهاية أن أفضل موقف سوفييتى إنما يكمن فى تجاهل الإجراء الأمريكى، وذلك من أجل عدم تصعيد الموقف بالمزيد وتجنب مواجهة نووية.

 

ثم يفند الكتاب الاعتقاد الأمريكى بأن الاتحاد السوفييتى كان على وشك اتخاذ إجراء انفرادى بالفعل بإرسال عدة فرق عسكرية محمولة جوا إلى المنطقة على متن طائرات سوفييتية تقلع من بودابيست. ويشير الكاتب أن كل الإجراءات التى كان الاتحاد السوفييتى قد اتخذها منذ بدء المعارك هى إجراءات احترازية فقط لحماية الجسر الجوى السوفييتى والإمدادات البحرية لمصر وسوريا. ويؤكد أنه لم تجر مناقشة إرسال مثل هذه الفرق الحربية على الإطلاق داخل المكتب السياسى.

 

 

 

بقى أن أقول إن هناك فارقا ضخما بين موقف الاتحاد السوفييتى الداعم للحق العربى فى أكتوبر 1973، وموقف القيادة الروسية الحالى الداعم للموقف المشين للقيادة السورية تجاه شعبها. فهل يعود الرشد، مرة أخرى يوما، إلى القيادة الروسية؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved