بعد الخطوط الحمراء

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 25 ديسمبر 2016 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

بالمصادفة التقت شخصية دبلوماسية، لها صلاتها وصداقاتها الدولية، بوزير الخارجية الأمريكى «جون كيرى» فى «كافيه ميلانو» بواشنطن ودار بينهما حوار غير رسمى حول بعض تطورات الإقليم ومستقبل الدور المصرى فيه.

كان الوزير الأمريكى يتناول العشاء فى غرفة منفصلة وعندما علم أن صديقه القديم فى المكان نفسه طلب من أحد العاملين أن يسأله إذا كان يريد أن يراه.


فى اللقاء طرح الرجل القادم من القاهرة سؤالا واحدا: «جون.. أخبرنى على أى أساس تشركون أو تستبعدون دولا مهمة فى الإقليم من مباحثات الأزمة السورية؟».


كان قصده: «لماذا تستبعد مصر؟».


وجاءت الإجابة مثيرة فى نصها ورسالتها: «بقدر ما يمكن أن يقدموه».

وكان قصده: «إن مصر ليس لديها ما تقدمه».

 

استلفت نظر الدبلوماسى المصرى أن ما سمعه من «كيرى» هو نفس ما سمعه من وزير الخارجية الروسى «سيرجى لافروف» عندما التقاه فى موسكو بصحبة شخصية دبلوماسية مصرية أخرى لها اعتبارها الإقليمى والدولى.
فى الحوارات غير الرسمية يتبدى النظر الحقيقى، بلا رتوش أو مجاملات، إلى حقائق السياسات والمصالح وموازين النفوذ والقوة.

 

القدرة على المبادرة وكفاءة الأداء الدبلوماسى وفق رؤية تلتزم مصالح بلادها الاستراتيجية من متطلبات أى دور إقليمى فاعل ومؤثر.

لمرتين متتاليتين بدا الأداء الدبلوماسى المصرى فى مجلس الأمن متخبطا على نحو فادح، لا يقنع أحدا ولا يجلب احتراما.

فى المرة الأولى، صوت المندوب المصرى الدائم على مشروعى قرارين متضادين فى الأزمة السورية والصراع على حلب.. أولهما روسى والآخر فرنسى.

لم يكن أحد فى العالم مستعد أن يصدق التبريرات التى سيقت لتفسير موقف لا يمكن تفسيره.

بالمعايير الدبلوماسية كانت هناك بدائل مفهومة مثل الامتناع عن التصويت على مشروعى القرارين، أو التصويت لصالح أحدهما دون الآخر.


وكانت النتائج كارثية على صورة الدبلوماسية المصرية على الجانبين الدوليين والإقليميين فى الحرب السورية.


بتعبير «لافروف»: «هذا تخبط» كما قال فى لقاء غير رسمى مع صديقين مصريين قديمين.


فى المرة الثانية، لم يكن الأداء الدبلوماسى المصرى قبل وبعد التصويت على قرار يدين ــ لأول مرة منذ ستة وثلاثين سنة ــ الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية وينزع عنها أية شرعية مقنعا لأحد ولا جديرا باعتبار هنا ولا فى أى مكان آخر بالعالم باستثناء إسرائيل.


قصة ما جرى بمجلس الأمن تلخص تخبطا فى إدارة الملفات الإقليمية الحساسة وتجاوزا لأى خط أحمر عند النظر إلى حقائق المصير المصرى.


فالقضية الفلسطينية مسألة أمن قومى قبل أى شىء آخر، فأمن مصر موصول عند الجذور بالمشرق العربى.


والقضية الفلسطينية ــ رغم التراجعات الفادحة التى لحقت بها ــ هى ميزان الأحجام والأوزان والأدوار فى العالم العربى.


بالحقائق المؤكدة، لا المشاعر الغاضبة، فإن مصر اهتزت صورتها على نحو يصعب ترميمه بتبريرات دبلوماسية مراوغة، وتراجعت على نحو فادح أية ثقة.


لم يكن طلب مندوب مصر فى الأمم المتحدة إرجاء التصويت على مشروع قرار إدانة المستوطنات «رؤية عميقة»، على ما قال بيان رسمى، حتى يتسنى التوصل إلى تسوية شاملة للقضية الفلسطينية عند تولى الرئيس الأمريكى المنتخب «دونالد ترامب» مهامه.


فـ«ترامب» يؤيد المستوطنات ويتبنى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وهذا تدمير كامل لأية فرصة لحل الدولتين، بينما يؤكد القرار الصادر عن مجلس الأمن عدم شرعية ما بنته إسرائيل من مستوطنات فى الأراضى المحتلة منذ عام (١٩٦٧)، بما فيها القدس الشرقية، داعيا إلى تحديد إطار زمنى للمفاوضات بآلياتها ومرجعياتها.


ولم يكن سحب مشروع القرار أمرا اختياريا، فقد تلقى المندوب المصرى ما اسماه هو نفسه بـ«الإنذار»، إما أن يجدد طلب التصويت الآن، وإما أن يسحبه حتى يمكن لدول أخرى أن تعرضه كما هو فى نفس الليلة.


ولم يكن التصويت المصرى لصالح القرار، الذى وصف دوليا عن حق بالتاريخى، أمرا اختياريا آخر، فلا يمكن الامتناع ولا الرفض، وإلا فإنه الانتحار بالتماهى الكامل مع المشروع الصهيونى.


ولم يكن الادعاء الرسمى أن الهدف من سحب مشروع القرار التأكد مما إذا كانت الولايات المتحدة ستستخدم حق الفيتو أم لا له أى ظل من الحقيقة.


العالم كله يعرف القصة الكاملة ولا شىء خافيا الآن.


كانت المعلومات شبه معلنة فى أروقة الأمم المتحدة، فإدارة «باراك أوباما» عزمت أمرها على الامتناع عن التصويت، ولا يستبعد أن تكون قد أوعزت لأطراف دولية حليفة أن تمرر القرار حتى يظل مشروع التسوية متاحا وحل الدولتين ممكنا.


وكانت هناك أسباب جوهرية دعت الدول الكبرى، كل من موقعه ولحسابات أمنه، لتمرير القرار خشية أن يفضى تشدد حكومة «بنيامين نتنياهو» إلى إنهاء أية فرصة للتسوية مما قد يصب مزيدا من الزيت فوق النيران المشتعلة فى الإقليم ويزكى تيارات العنف والإرهاب داخل مجتمعاتها.


بحسب رواية إسرائيلية فإن «نتانياهو» اتصل بـ«جون كيرى»، لكنه لم يحصل على أية إجابة تطمئنه أن الولايات المتحدة سوف تستخدم الفيتو لإجهاض مشروع القرار، كما جرت العادة فى مرات سابقة من إدارة «أوباما» نفسها.
بدا الحصار الدبلوماسى شاملا، وإسرائيل معزولة، ولم تجد حكومة «نتانياهو» غير الاستعانة بالرجل الذى تعول عليه القاهرة لسحب مشروع القرار.


وكان الرئيس الأمريكى المنتخب «دونالد ترامب» جاهزا، ولم يجد أمامه أية ممانعة.


وذلك قد يرجح مستقبلا تقبل ضغوطا مماثلة فى ملفات حساسة أخرى.


أرجو أن نلتفت إلى السياق الذى جرت فيه عملية التصويت التاريخى بمجلس الأمن.


هناك بيقين قيمة أخلاقية فى نصرة القضية الفلسطينية وما يتعرض له أهلها من تنكيل وتشريد واستيلاء على الأراضى والاستهتار بأبسط قواعد القانون الدولى.. غير أن المصالح الاستراتيجية وراء ذلك الإجماع النادر فى تمرير القرار التاريخى بإدانة المستوطنات الإسرائيلية.


بعد حسم معارك حلب ساد تصور بالأوساط الدبلوماسية المتداخلة فى الملف السورى أن الرئيس الروسى سوف يتوقف لبعض الوقت عن أى تصعيد عسكرى نحو إدلب، أهم قلاع الجماعات المسلحة، حتى يتسنى له بناء موقف استراتيجى أكثر تماسكا يخاطب المخاوف الغربية ويساعد على تثبيت مراكز قوته قبل أى ذهاب للمفاوضات وفق حقائق القوة على الأرض.


زكى ذلك أن الرئيس الأمريكى المنتخب «دونالد ترامب» سيتولى مهامه فى البيت الأبيض عند حلول الـ(٢٠) من يناير المقبل، وأنه قد يكون من الأفضل لـ«بوتين» أن ينتظر ويرى كيف ستمضى العلاقات معه فى ظل إشارات متضاربة من داخل فريقه.


بحسب تقديرات تطل على الكواليس وما يجرى فيها من حسابات فإن «بوتين» و«ترامب» كلاهما يميل من مداخل مختلفة إلى «الواقعية السياسية» ويبحث فى الكلفة والعوائد قبل اعتماد المواقف.


«بوتين» تعنيه اعتبارات الأمن الروسى وتعظيم مصادر قوته.. و«ترامب» يميل خطابه إلى المصالح الاقتصادية وأن كل موقف عسكرى أو أمنى بحساب.


فيما يتمتع «بوتين» بثبات فى رهاناته وسياساته فإننا نحتاج وقتا لاستكشاف الطريقة التى سوف يتصرف بها «ترامب» فى الأزمة السورية.


«ترامب هو ترامب» لكنه لا يعمل وحده، ومن أهم الاختبارات المنتظرة مدى دور ونفوذ المؤسسات الاستخباراتية والعسكرية والنيابية على قراراته.


باسم تلك الواقعية شرع «بوتين» فى التوظيف السياسى لاغتيال سفيره فى أنقرة.


وباسم تلك الواقعية سوف يسعى «ترامب» إلى الانقضاض على ما تبقى من حقوق فلسطينية.


هناك فارق بين الواقعية السياسية، التى تحكمها المصالح العليا لأى دولة، وبين واقعية أخرى تتجاوز الخطوط الحمراء فى الأمن القومى دون تحسب للأثمان الباهظة التى سوف تدفع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved