المحــــور اللوجيستى العـــــربى.. تحديات استراتيجية حاسمة

أيمن النحراوى
أيمن النحراوى

آخر تحديث: الخميس 25 أبريل 2024 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

يبدو أن ما تعلمناه من أستاذنا جمال حمدان عن مصر وعبقرية المكان، بات الآن عرضة لتحديات الزمان، الذى يأتى إلينا فى كل يوم بمتغيرات جديدة باتت هى سمة عالمنا المعاصر القائم على التنافسية الشديدة والعلاقات الدولية شديدة التعقيد، حيث باتت ساحات الاقتصاد معتركا ضروسا لا يقل فى شراسته عن معترك السياسة والعلاقات الدولية، وحيث تلتقى المنافع وتتصالح المصالح.

مصر بموقعها الفريد هى متوسطة الدنيا وقلب الأرض كما وصفها المقريزى، قبل علماء الجغرافيا السياسية بمئات السنين، وكما وصفها جمال حمدان بأن أرضها تجمع بين قارتى إفريقيا وآسيا وبحرها المتوسط المطل على قارة أوروبا، وهى الأرض الوحيدة التى يجتمع فيها البحران المتوسط والأحمر، الأول قلب البحار وبحر الأنهار، والثانى بحر بلا أنهار ولكنه بطوله وامتداده وموقعه كالنهر بين البحار، وبهذا اللقاء مع التحام القارتين وتقارب البحرين، فكأنما الطبيعة تشير إلى عبقرية موقع مصر، وكأنها خطة إلهية قد رتبها الخالق الأعظم لتجعل منها قطبا جغرافيا فريدا.

اليوم تأتى متغيرات جديدة وتظهر مخططات جديدة، كل منها تسعى متجردة لتحقيق مصالح دولها، والغاية إذ تبرر الوسيلة دون التفات إلى أى اعتبار آخر، وهذه المتغيرات سواء كانت عالمية أم إقليمية فهى جديرة بالرصد والتحليل العميق، لأن المسألة هى تحدٍ واستجابة، فعل ورد فعل، لا مجال فيها للتجاهل أو التباطؤ فى مواجهتها.

•  •  •

ارتباط حركة التجارة العالمية بمصر الذى بلغ ذروته منذ أكثر من 150 عاما متمثلا فى قناة السويس شريان التجارة العالمية الأهم والأكبر، متمثلا فى العبور السنوى لأكثر من 23 ألف سفينة تشكل ما يصل إلى 20% من حركة التجارة العالمية، هو خير معبر بأرقامه عن أهميتها الاستراتيجية. لكن الساحة العالمية بمتغيراتها ترسم الآن مخططات جديدة منها ما هو جارٍ تنفيذه ومنها ما هو مخطط تنفيذه، ولعل أهم تلك المتغيرات يتمثل فى مبادرة الحزام والطريق الصينية لفتح ممرات استراتيجية برية وبحرية انطلاقا من الصين إلى كل الأسواق العالمية، ومن أهمها الأسواق الأوروبية والإفريقية، وبذلك فهى تلتقى فى جانب منها مع دائرة اهتمامات مصر وقناة السويس وتتقاطع معها.

من جهة أخرى، تسعى الصين لتطوير وتنمية الخط اللوجيستى العملاق للطرق والسكك الحديدية من شمال غرب الصين مرورا بجمهوريات آسيا الوسطى ومنها إلى تركيا ثم إلى أوروبا، وهو الخط الذى يعمل بالفعل بطاقة عشرة قطارات نقل يوميا تحمل البضائع والحاويات فى الاتجاهين فى حركة لا تهدأ، بل وتتكامل مخططاتها مع المخططات الروسية عبر ممر لوبيتو،  وممر تشيناى ــ فلاديفوستوك، وخطط سكك حديد سيبيريا.

•  •  •

من جهتها طرحت الولايات المتحدة رؤيتها للنقل واللوجيستيات فى المنطقة من خلال عرض فكرة مشروع ممر الهند ــ الخليج ــ أوروبا، الذى يضم ممرين منفصلين؛ الممر الشرقى ويربط الهند بالخليج العربى، فيما الجزء الثانى منه وهو الممر الشمالى سيربط الخليج بأوروبا عن طريق إسرائيل.

ويبدو أن ذلك المشروع هو بمثابة وعد بلفور اقتصادى جديد لإسرائيل، وقد حظى على الفور بالرعاية الأمريكية والمساندة الأوروبية، حيث أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أن هذا المشروع من شأنه جعل وصول البضائع إلى وجهتها أسرع بنسبة 40% من الوضع الحالى بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، وهى بالطبع تعنى الوضع الحالى عبر قناة السويس.

ولإعطاء الزخم لهذا المشروع وقع رؤساء الولايات المتحدة والهند وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبى ودولتين عربيتين خليجيتين على مذكرة تفاهم للعمل للبدء فى إنشاء الممر الاقتصادى الجديد.

•  •  •

من جانبهم، أبدى مسئولو الكيان الإسرائيلى ترحيبهم بالمشروع، فالمشروع يلتقى تماما مع طموحاتهم المتجذرة للهيمنة السياسية والاقتصادية على المنطقة والتغول فيها بكل السبل، حيث كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت فى تقرير لها، عن مخطط قطار سريع للربط من بيت شان بالبحر المتوسط إلى إيلات على البحر الأحمر، وذكر التقرير صراحة أن المخطط سيدخل حيز التنفيذ قريبا لمنافسة قطار مصر السريع الذى تدشنه القاهرة حاليا لربط البحر الأحمر من العين السخنة إلى العلمين الجديدة على البحر المتوسط.

أيضا ذكر التقرير أن هذه المخططات تأتى فى إطار رؤية الكيان لتعزيز دور شبكات الطرق والموانئ ضمن مبادرة مشروع الهند الخليج أوروبا، لافتا إلى أن ميزانية بناء الخط ستأتى من اتفاقيات دولية واستثمارات عربية وأجنبية مع عدة دول بسبب ربط المسار بـخط قطار السلام المزعوم، الذى سيمتد من الخليج إلى إسرائيل.

•  •  •

فى ذات الإطار، كان وزير الاستخبارات والمواصلات الإسرائيلى قبل 7 أكتوبر قد اقترح إعادة إحياء وتطوير مشروع قطار الحجاز الذى سيربط بين ميناء حيفا ودول الخليج مرورا بالأردن، حيث ستقوم إسرائيل بإكمال خطوط السكك الحديدية من حيفا إلى معبر الحدود البرى بينها وبين الأردن، وسيكون على الأردن إكمال الخطوط من منطقة إربد والمفرق إلى الحدود مع السعودية لتلتقى بخطوط السكك الحديدية فى المملكة، التى ستمتد إلى موانئ الخليج العربى، ولا مانع لدى إسرائيل من امتداد وربط تلك السكك الحديدية بالكويت والعراق فى مرحلة لاحقة.

تتضح خطورة ذلك المخطط مع إشارة الوزير الإسرائيلى إلى أن ذلك سيسهل تكلفة وصول البضائع القادمة من أوروبا إلى الخليج، مشيرا إلى أن 25% من التجارة التركية الخليجية فى الوقت الراهن تمر عبر ميناء حيفا إلى دول الخليج مرورا بالأردن.

ولإضفاء المشروعية والقبول على مخططات إسرائيل، فقد تم الزعم بأنه فى إطار هذا المشروع، تريد إسرائيل منح الجانب الفلسطينى ميناء برى فى منطقة الجلمة قرب جنين يكون متصلا بشبكة السكك الحديدية الإسرائيلية بحيث يتيح لهم نقل بضائعهم من وإلى المناطق الفلسطينية عبر ميناء حيفا إلى أوروبا، كما يمكنهم كذلك من النقل إلى الأردن ودول الخليج.

بالنسبة للأردن فقد زعمت إسرائيل أن المشروع سيكون له عوائد كبيرة، بحيث سيكون الأردن هو الرابح الأساسى باعتبار أن جزءا رئيسيا من الترتيبات والنقل ومنطقة التشغيل ستكون فى الأردن الذى خصص موقعا فى منطقة المفرق لهذا الغرض وفق المزاعم الإسرائيلية.

•  •  •

لم يكن قطاع غزة بعيدا عن المخططات الإسرائيلية، فقبل الحرب الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة فى السابع من أكتوبر، روجت إسرائيل لمشروع إنشاء جزيرة اصطناعية مقابلة لساحل قطاع غزة يقام عليها ميناء ومحطة شحن ومطار لربط قطاع غزة بالعالم الخارجى، على أن تكون السيطرة الأمنية عليه للجيش الإسرائيلى بحرا وبرا وجوا، وسيعمل المشروع فى إطار تعاون اقتصادى إسرائيلى فلسطينى أردنى خليجي، وفق الرؤى والمخططات الإسرائيلية، التى تضع نصب أعينها أيضا حقول الغاز الطبيعى فى البحر الإقليمى لغـزة.

•  •  •

المخططات والمشروعات الإسرائيلية تفوح منها رائحة الجشع والطمع فى الهيمنة على مقدرات منظومة النقل الدولى واللوجيستيات فى المنطقة والتحكم فى اقتصادها، بتقديم نفسها كجسر وقاعدة للنقل الدولى متعدد الوسائط بين آسيا والخليج وأوروبا، عبر الأراضى الفلسطينية المحتلة، لتعزز وجودها وبقائها من خلال ربط مصالح الآخرين بمصالحها، وربط مخططات التنمية فى الدول العربية الخليجية بمخططاتها ومساعيها لاجتذاب التجارة العالمية والإقليمية لتنقل من خلالها وبواسطتها وتحت تحكمها وإشرافها.

كان فهم مصر لكل تلك التحركات والمخططات واستيعابها لها فهما عميقا، فتحركت لاحتوائها ومواجهتها، واليوم أدرك كل ذى عقل وفكر لماذا توجهت مصر لعمل مشروع قناة السويس الجديدة، ولماذا أنفقت مصر المليارات لتطوير شبكات الطرق ومحاور النقل وخطوط السكك الحديدية والمطارات والموانئ البحرية؟

اليوم المحور اللوجيستى العربى والتباحث بشأن إنشائه وتفعيله مع الأشقاء فى الأردن والعراق سيكون أساسا لتوسيع نطاقه ليضم أشقاءنا فى الخليج العربى وبقية الدول العربية، وسيكون منطلقا لفرض معادلة التحدى والاستجابة لما يحيط بنا من متغيرات وما يحاك لنا من مخططات.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved