حصاد 2009: العيد الأول لباراك أوباما رئيسا

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 23 ديسمبر 2009 - 1:06 م بتوقيت القاهرة

 فى مثل هذه الأيام من العام الماضى كان أهل النظام العربى قد انقسموا إلى معسكرين متواجهين: من كانوا من الموالين للرئيس المنتهية ولايته جورج بوش يرفعون أصواتهم مؤكدين الولاء لمرشح المحافظين من الجمهوريين خليفة له، فى حين يندفع بعض المغامرين من أهل ذلك النظام إلى تأييد المرشح الاكتشاف باراك أوباما مراهنين على وسامته وبراعته الخطابية وبعض جذوره الأفريقية وبعض «الدماء الإسلامية» فى عروقه.

أما فى فلسطين المحتلة فقد واجه الإسرائيليون محطة التغيير فى موقع الرئاسة الأمريكية بالاندفاع إلى حرب غزة لفرض أمر واقع جديد لن تستطيع «الإدارة الميتة» فى واشنطن منعه،خصوصا أن المنافسة بين المرشحين كانت محتدمة للغاية بما يعطى إسرائيل الفرصة لكى تضرب غزة بالقنابل الفسفورية والقنابل العنقودية ومختلف أنواع الصواريخ والقذائف الحارقة، فتهدم البيوت والمدارس ودور العبادة وحضانات الأطفال ومقارات وكالة الغوث والمستشفيات، مستفيدة من انشغال أهل النظام العربى بمراهناتهم وتجنبهم اتخاذ أى موقف قد يزعج الإدارة الجديدة ويسىء إلى مستقبل علاقاتهم معها.. وهى المستقبل!

كان أهل النظام العربى يميلون ــ عاطفيا ــ إلى أوباما، برغم أنهم لم يكونوا يعرفون عنه إلا أقل القليل. تكفى السمرة دليلا على صحة التوجه السياسى!

وكان إن أغرقت إسرائيل غزة فى دماء أبنائها،أطفالا ونساء وعجائز ورجالا، بينما أهل النظام العربى يتحاشون أن تصدر عنهم «مواقف حادة» قد يرى فيها الرئيس الجديد إحراجا له بينما هو يتقدم بخطى واثقة نتيجة التأييد الشعبى العارم فى بلاده، معيدا ومستعيدا الذكريات الدموية العطرة لتحرك الزنوج طلبا للمساواة التى قادها مارتن لوثر كينج قبل أربعة عقود.

واكتشف أهل النظام العربى أن مطلب المساواة هو للداخل الأمريكى فقط ولا ينطبق على حال الفلسطينيين فى بلادهم التى يحتلها الإسرائيلى، ويقطع أوصالها ويفرق بين أهلها بتصنيفهم درجات بحسب احتياجات استعماره: فمنهم إسرائيليون من الدرجة الثانية داخل «أراضى 1948»، ومنهم فلسطينيو المنطقة (أ)، وفلسطينيو المنطقة (ب)، وفلسطينيو المنطقة (ج)، وليس الكل سواء، وليس من حق هذه «الشعوب» أن تتلاقى، وليس حق ابن منطقة فى الأرض كمثل حق المستقدم إليها من موطنه الأصلى ليتخذها وطنه!

كانت الحرب الإسرائيلية على غزة الامتحان الأول للإدارة الأمريكية الجديدة، وهو الامتحان الذى حدد لها مستقبل علاقتها بأهل النظام العربى وليس فقط بالسلطة الفلسطينية التى لا سلطة لها على أى شبر فى فلسطين بما فى ذلك مقارها فى رام الله، ناهيك بحرية حركتها فوق ما سلمت إسرائيل بأنها ستكون أرضها (مستقبلا!)، بل إن هذه الحركة محكومة بإذن المرور الذى لا يناله إلا الشخصيات لمصنفة فى.آى.بى(VIP)

وعلى امتداد العام الأول من الرئاسة الأمريكية تناقصت قيمة أهل النظام العربى فى العين الأمريكية حتى كادت تتلاشى: لم يعد مضمونا أن يستجاب لطلب أى حاكم عربى بتجديد موعد للقاء الرئيس الأسمر، بل ولم تعد مقبولة حكما الشفاعات التى يبذلها وسطاء نافذون من أجل استقبال هذا المسئول العربى أو ذاك.

انتبه أهل النظام العربى، متأخرين، إلى أنهم قد فقدوا اعتبارهم، وإن الإدارة الأمريكية لم تعد بحاجة إليهم، خصوصا أنهم قد فوضوها فى شئونهم جميعا: عهدوا إليها بقضيتهم التى كانت «مركزية» ذات يوم، فلسطين تقرر فيها ما تشاء.. ثم إنهم أناطوا بها، سواء كقوة احتلال كما فى العراق، أو كقوة هيمنة وسلطة وصاية، شئونهم فى مختلف دولهم المتهالكة على طلب الدعم أو المساعدة أو حتى الحماية.

ثم انتبهوا إلى أساس الموضوع: لم يعد أهل النظام العربى يمثلون بلادهم وشعوبهم باعتبارها مشروع وحدة، أو مشروع اتحاد، أو أعضاء فى جامعة تستمد قوتهم من تلاقيهم على أهداف مشتركة كأمة واحدة أو كدول مؤتلفة يتلاقى قادتها فى قمم يمكن تلخيصها بصورة تذكارية.. غالبا ما تكون ناقصة، فضلا عن كونها مضحكة أحيانا ومبكية دائما!
لقد تفرقوا وتنازعوا واشتبكوا فى حروب، وباتوا يتهمون بعضهم بعضا بما كان حقا حصريا للإمبريالية والعدو الإسرائيلى والاستعمار القديم: كل منهم يرى الآخر متآمرا عليه! العراق يتهم سوريا مبرئا الاحتلال الأمريكى والقاعدة من التفجيرات والمجازر، واليمن المشتعلة الأطراف بالفتن والمعارضات والخروج على نظام الحاكم المطلق تتهم إيران ومن معها لتمد الاتهام ضمنا إلى«حزب الله» فى لبنان، والسودان يتهم الجميع بالتخلى عنه بل ويكاد يتهم بعض «أشقائه» بمناصرة الخارجين على وحدته ضد نظامه، ومصر مشتبكة مع الجزائر فى حرب الكرة إلى يوم الدين، والجزائر مشتبكة مع المغرب حتى آخر جبة رمل فى الصحراء.. إلخ

خاب الأمل فى أوباما: لم يساعدنا على لجم التطرف الإسرائيلى، بل هو تراجع أمام نتنياهو وكأنه واحد من حكام المصادفات فى الدنيا العربية، وابتلع تعهداته العلنية بقيام دولة فلسطينية على بعض أرض أصحاب الأرض فى فلسطين خلال أمد معلوم، بل إنه قد ندم على إطلاق تهديده لحكومة إسرائيل بوقف العمل فى المستوطنات واستقدام المزيد من وحوش المستوطنين، ثم ارتضى أن يمن عليه نتنياهو بكلمات ملتبسة توحى بوقف البناء الجديد بينما إشادة البيوت الجديدة تستمر متجاوزة الحدود التى كانت مرسومة للقدس العربية، أو الشرقية، بما يجعل من المسجد الأقصى جزيرة محاصرة من جهاته جميعا، ومعاول الهدم تفتك بأساساته، قبل أن يمنع آذان الفجر فيه حتى لا تزعج «الله اكبر» آذان من يعتبرون الله مساوما يعمل فى خدمتهم.

بالمقابل فإن إسرائيل قد أكدت سيطرتها على البيت الأبيض ومنعت أن يدخله أى موظف يراودها شىء من الشك فى ولائه لها.. وبحسب صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية ــ تاريخ 4/12/2009 ــ » يجب أن يمر كل شخص يعين فى الحكومة الأمريكية بفحص كثيف وشامل لخلفياته، والذى تجريه اللجنة الأمريكية ــ اليهودية».. وأى أمريكى يقترحه رئيس الولايات المتحدة للتعيين فى حكومته يكون موضوعا لموافقة اللوبى الإسرائيلى الذى يستطيع أن يمتحن المرشحين للتعيين كما يريد. وتقدم الصحيفة مثال تشارلز فريمان الذى كان الرئيس الأمريكى ينوى تعيينه رئيسا لمجلس الاستخبارات الوطنى فحال اللوبى الإسرائيلى دون تعيينه مستشهدا بما دعاه «ثقافة فريمان المعادية لإسرائيل». كذلك فقد انتهت المحاولة التالية لتعيين مساعد لشئون الاستخبارات تشاك هاجل بالتعرض لنقد واسع، لأنه لا يملك سجلا مؤيدا لإسرائيل. والآن تتعرض حنة روزنتال، وهى ابنة يهودية لأحد الناجين من الهولوكوست لحملة تستهدف منع تعيينها رئيسة للمكتب الأمريكى لمراقبة معاداة السامية ومحاربتها. وكانت روزنتال رئيسة للمجلس اليهودى للشئون العامة بين سنتى2000 و2005. أما النقطة السوداء فجاءتها من خدمتها فى المجلس الاستشارى للوبى «جيه.ستريت» المنظمة الأمريكية اليهودية المعارضة للوبى الإسرائيلى التقليدى(ايباك).

خرج النظام العربى من دائرة التأثير على القرار الدولى عموما، والأمريكى خصوصا فى كل ما يتصل بالشئون العربية، برغم تخليه عن الطموح إلى لعب دور فى السياسات الدولية.
ومفهوم أن كل ما ينقص من قيمة العرب يضيف إلى رصيد إسرائيل، دوليا.

ومن حق المواطن العربى أن يسأل أهل النظام العربى، بعنوان السلطة الفلسطينية، عن هدر فرصة ثمينة لإعادة شىء من الاعتبار إلى الدم الفلسطينى المسفوح غيلة فى غزة على يد الجيش الإسرائيلى، وهى الفرصة التى وفرها تقرير جولدستون (وهو اليهودى الصهيونى من جنوب أفريقيا) الذى تصرف كقاض، فرفض العرب شهادته فى إدانة إسرائيل وجيشها حتى لا يؤاخذوا على تطرفهم!!

وخطورة هذه الواقعة أنها تؤشر على احتقار النظام العربى لشعوبه وتجاهله لأهمية الرأى العام العالمى، وجبنه فى مواجهة عدوه الإسرائيلى الذى يرفضه ندا ويصر على التعامل معه كتابع.
وكيف لا يتآكل الوزن الدولى للعرب والنظام العربى يتصرف كملحق بالأقوى.. ثم إن كل حاكم عربى يسعى لتأكيد مكانته على حساب دولته كما على حساب «أشقائه» الآخرين!

فأهل النظام العربى يتقربون من واشنطن على حساب فلسطين. بل إن رئيس السلطة الفلسطينية (والمطروحة شرعيته للبحث) يتقرب من تل أبيب وليس من واشنطن وحدها، على حساب قضيته المقدسة وحق الشعب الفلسطينى فى أرضه. وليس فرضا واجبا على الضعيف أن يوقع صك استسلامه حيا، وبإرادته. قد تكون البطولة أحيانا فى رفض التوقيع، وترك الصراع مفتوحا لمن يقدر على حسمه فى ظروف أخرى قد تكون أفضل.

إن أهل النظام العربى يحاولون التقرب من واشنطن على حساب قضاياهم: فى الأصل فلسطين، ومن ثم العراق، ومن قبل العراق على حساب سوريا ولبنان، والآن اليمن والسودان، وغدا الجزائر والمغرب وربما مصر التى لا تزال تهديدات وزير الخارجية الإسرائيلى بضرب السد العالى ترن فى الآذان العربية..

كل حاكم عربى يحرض على الحاكم الآخر مفترضا أنه بذلك يزداد قربا من مركز القرار.. وهو قد يزداد قربا بالفعل، ولكنه يكون قد تحول من صاحب قضية إلى تابع، ومن صاحب قرار إلى منفذ ردىء لقرار معادٍ لشعبه يصدره الأقوى باعتباره صاحب الحق بالقرار.
وليس السلاح مصدرا للقوة.

إن جبخانات بعض الدول العربية، تحوى من أصناف السلاح ما لا تملكه الدول العظمى، لكن هذا السلاح قد تم شراؤه بالأمر ولا يمكن استخدامه إلا بالأمر ووفق مصالح من أعطاه ــ بالثمن الفاحش ــ وهو بالضرورة لن يستخدم ضد العدو الوحيد لهذه الأمة: إسرائيل.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن ثلاثاُ من الدول العربية قد اشترت خلال ولاية جورج بوش من السلاح بما قيمته أكثر من خمسين مليار دولار. وعلى وجه الدقة فإن دولة الإمارات العربية المتحدة قد اشترت أسلحة أمريكية بقيمة تناهز العشرة مليارات دولار، بينما اشترت السعودية بما قيمته 35مليار دولار تقريبا، واشترى المغرب بما قيمته 2،5 مليار دولار، ومصر بما قيمته6،11مليار دولار.
هذا فى حين أنفقت الصين2،16 مليار دولار، والهند5،13 مليار دولار.

خلال زيارة قامت بها وزير الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون مؤخرا إلى إسرائيل، وجهت كلامها إلى اللوبى الإسرائيلى قائلة: «من الرائع أن أكون هنا معكم جميعا، وبين كل هذا العدد من الأصدقاء، وأنا أشعر بأن هذا الحفل هو لم شمل عائلى عملاق، وأشعر وكأننى بين أفراد عائلتى. إن لدى التزاما مبدئيا بأمن إسرائيل..ليبارك الله إسرائيل!!»

لو كان لأهل النظام العربى حساب لدى أصدقائهم الكبار فى واشنطن لما تجرأت هيلارى كلينتون على التفوه بمثل هذه الكلمات.. وهى على أرض عربية محتلة، حتى بمنطق الرئيس الأمريكى الأسمر باراك أوباما.

بالمقابل فقد وجه البيت الأبيض التهنئة إلى النظام اليمنى على إنجازه الأخير، عبر المذبحة المنظمة ضد من وصفهم بمقاتلى «القاعدة».. علما بأن هذه المذبحة ليست إلا دليلا إضافيا على تورط الإدارة الأمريكية فى هذه الحرب التى باتت تهدد بتمزيق اليمن دويلات مقتتلة إلى يوم الدين، خصوصا أن بعض اليمنيين يجد من يموله ومن يسلحه، وبعضهم الآخر يجدون من يقطع لهم تذاكر الذهاب مباشرة إلى الجنة.

أما الجحيم فهو مخصص للعرب الذين يستظلون أعلام النظام العربى المقيم!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved