كلفة الانكشاف الدستورى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 23 أغسطس 2017 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

بقدر اختراق القواعد والأصول تتبدى النذر والمنزلقات عند منعطفات الطرق الحادة.
لكل اختراق واسع كلفته السياسية فى ارباك المشهد العام سحبا من رصيد الاستقرار والثقة فى المستقبل وانتقاصا من فرص التعافى الاقتصادى والقدرة على مواجهة التحديات المستعصية وتقويضا لأى أمل فى التحول إلى دولة دستورية حديثة.
ما يحدث الآن من دعوات متواترة لإدخال تعديلات جوهرية على الدستور تنزع عنه روحه وفلسفته فى التوازن بين السلطات وضمان أوسع حقوق وحريات عامة يؤشر على أزمة دستورية تضرب فى جذر الشرعية وتؤذن بكلفة باهظة يسددها المجتمع كله.
إن ارتفاع أصوات برلمانية فى عام الانتخابات تطلب تعديل الدستور لتمديد الفترة الرئاسية من أربع إلى ست سنوات يطرح احتمال تأجيلها لعامين.
أقل ما يوصف به هذا الاحتمال أنه خرق لأية شرعية يستحيل بعده أن تمضى الأمور على نحو شبه طبيعى وكل بوابات الجحيم سوف تفتح على مصراعيها.
بلا احترام للدستور فلا شرعية.
الدساتير ليست أوراقا تطوى بالهوى ونصوصا تعدل باستخفاف ــ خاصة إذا ما صيغت أعقاب ثورات ووفق أهدافها.
إذا ما تحولت إلى مادة تلاعب فى نصوصها كل عامين أو ثلاثة فإنها تفقد جدارتها وشرعيتها.
وإذا ما انطوت التعديلات على قصد تفصيل النصوص على الأشخاص فإن الكلام كله يفقد حرمته واحترامه.
هكذا باسم «تثبيت الدولة» يضرب أى تطلع للتحول إلى دولة حديثة ــ دولة دستور وقانون ومؤسسات؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ تعلو الأفراد.
وهذه ردة كاملة إلى ما قبل الثورة ــ كأنها حقيبة متفجرات عندما تنفجر لا يعود شىء إلى ما كان عليه.
القضية ليست استبدال نص بآخر بقدر ما هى ضرب «الشرعية الدستورية» فى مقتل.
لقد تضمن دستور (٢٠١٤) التوجهات والمطالب الرئيسية للثورة المصرية ــ وهذه قيمته التاريخية وإذا ما كانت هناك ضرورة لتعديل بعض نصوصه فإن ذلك موضوع توافق لا فرض، ومسألة مصلحة عامة لا تفصيل دساتير.
الدساتير المعلقة فى الهواء بلا تطبيق على الأرض تفقد نصف قوتها غير أن النصف الباقى يظل ملهما لفكرة التصويب والتصحيح والحساب وفق قواعد والتزامات.
إذا ما ضربت قوة الدستور كليا يستحيل تأسيس أية أوضاع طبيعية على أسس مقبولة لا تستنسخ الماضى وتوجهاته وسياساته ووسائله فى الحكم.
وإذا ما تأجلت الانتخابات الرئاسية تنتهى فى اللحظة ذاتها أية شرعية دستورية ولا تصبح هناك سوى شرعية الأمر الواقع وقبضات السلطة ولا شىء غيرها.
ذلك وضع غير محتمل لا فى الداخل ولا أمام العالم.
بتوقيت مثير فى رسائله لما قد يحدث لو مررت التعديلات الدستورية على هذ النحو العشوائى جرى حجب (٢٩٠‪.‬٧) مليون دولار من المعونة الأمريكية لمصر على خلفية أزمة قانون «الجمعيات الأهلية».
كان مسئولون مصريون كبار قد تعهدوا للاتحاد الأوروبى بعدم التصديق على ذلك القانون والتقدم بمشروع جديد إلى البرلمان يلبى الحدود الضرورية لنشاط المجتمع المدنى بما يضمن حريته فى الحركة وسلامة الرقابة على التمويلات الأجنبية بالوقت نفسه، غير أن ذلك لم يحدث.
حيثيات الحجب عزته إلى الفشل فى إحراز أى تقدم بملفى الديمقراطية وحقوق الإنسان.
القضية ليست المعونة، فقد كانت عبئا على استقلال القرار المصرى بقدر ما تنذر بضغوطات أوروبية فى الملف نفسه.
إذا كانت إدارة «دونالد ترامب» تتجه لحجب جانب كبير من المعونة الأمريكية باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، رغم كل سجلها السلبى وآخره التورط فى تصريحات عنصرية عن تفوق الرجل الأبيض، فعلى أى نحو سوف تتصرف المستشارة الألمانية «انجيلا ميركل» وبقية قيادات الاتحاد الأوروبى؟
كان لافتا سؤالها لمصريين التقتهم فى القاهرة أثناء زيارتها الأخيرة دون أن تنتظر إجابة، كأنها تسأل نفسها: «أى الوضعين أفضل ــ الآن أم أثناء حكم محمد مرسى؟».
لم تبد تعاطفا مع الرئيس السابق الذى جرى عزله وقالت إنها صدمت فيه ولم تخف شيئا من الإعجاب بالرئيس الأسبق «حسنى مبارك» وصمتت تماما عن إبداء أى رأى فى الحاضر.
سؤال «ميركل» فى ترجمته السياسية كاشف لمدى الفجوات رغم لغة المصالح.
الفجوات مرشحة للاتساع إلى حدود يصعب تجاوز مخاطرها، ولا هو ممكن الاعتراف دوليا بأية شرعية فى مصر إذا ما جرى تأجيل الانتخابات الرئاسية.
التأجيل نفسه يسحب مما تبقى من شرعية (٣٠) يونيو ويؤكد صورا سلبية شاعت فى الميديا الغربية عن طبيعة ما جرى، ولذلك تبعاته الخطيرة على فرص جذب الاستثمارات الأجنبية.
لا أحد مستعدا فى العالم أن يغض الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان، ورغم المصالح الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية فإنها ليست مطلقة ولا بوليصة تأمين مضمونة.
الأخطر أن الأجواء المسمومة تقلص أى أمل فى مستقبل وتوفر بيئات حاضنة لتنظيمات العنف والإرهاب ترفع من كلفة الحرب معها، كما توفر بيئات حاضنة أخرى لمنظومة الفساد ومراكز القوى الجديدة تلغى أية فرصة للتحول إلى دولة مؤسسات ودولة القانون.
طالما الدستور يداس ويستهتر به فلا شرعية لأية سياسة ولا هيبة لأية مؤسسة.
تلك المحاذير الماثلة فى المشهد المرتبك استدعت سيناريو آخر للتداول بالغرف المغلقة يدعو لاستفتاء عام على تعديلات دستورية تقر مد الفترة الرئاسية لست سنوات دون أن يسرى ذلك على الدورة الحالية.
هناك استنتاجان رئيسيان فى استدعاء ذلك السيناريو.
الأول، أن فكرة التعديلات الدستورية شبه نهائية، القرار اتخذ والأوركسترا بدأ العزف لكن دون نوتة موسيقية حتى بدا المشهد كله نشازا.
الذين يتحدثون باسم التعديلات ليسوا هم صناع القرار ولا من اللاعبين الرئيسيين، لكن أدوار الهامش تمهد لمتن ما سوف يأتى تاليا.
لا أحد يعرف على وجه القطع أى نصوص بالضبط سوف تعدل، باستثناء توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية ومد فترة رئاسته لست سنوات.
عدم القطع من علامات خشية العواقب.
من هذه الزاوية قد يجرى تأجيل مشروع التعديلات الدستورية لوقت آخر، فالكلفة باهظة بأى حساب واقعى.
والثانى، أن الانتخابات الرئاسية سوف تجرى فى مواقيتها المنصوص عليها بالدستور والقانون بلا زيادة ليوم واحد تجنبا لشبهة عدم دستورية المقعد الرئاسى.
المعنى أن الذى سوف يستفيد من أية تعديلات فى مدة الفترة الرئاسية هو من يخلف الرئيس الحالى.
فهل يستحق عامان إضافيان فى الحكم المقامرة بالشرعية والانقلاب على الدستور؟
لا توضع الدساتير على مقاس الرجال وإلا فإنها تفقد شرعيتها.
إذا ما بدأت اللعبة لن تتوقف تداعياتها الخطيرة وما تستدعيه من انقسامات حادة وصدامات لا يمكن استبعادها.
تلك أوضاع منذرة بكلفة سياسية باهظة فى بلد منهك حلم ذات ثورة بدولة دستورية حديثة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved