الأشياء الجميلة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الإثنين 23 مارس 2009 - 5:14 م بتوقيت القاهرة

 جاءت إلى مقر «الشروق» لتشكو سوء المعاملة التى تلقاها منطقة وسط البلد على أيدى الحكومة والمحافظة والناس، وعرضت خطة وشكلت جمعية غير حكومية وحذرت من نوايا غير طيبة، وقالت إن هدف الخطة والجمعية أن تعود القاهرة، أو منطقة الوسط فيها على الأقل، «جميلة» كما كانت.

خطر لى عند نطقها بكلمة «جميلة» أننى منذ فترة لم أسمع أحدا يصف شيئا أو شخصا فى مصر بأنه جميل. لم يعد كثيرون كما كنا نحكى عن جمال بقعة أو أخرى من بقاع مصر. تأملت فى هذا الخاطر وإذا بى أتيقن من أننى، أنا نفسى، لم أعد أصف شاطئا من شواطئ مصر بأنه شاطئ جميل. تذكرت كيف كنا نرى شاطئ سيدى بشر جميلا. كانت جميلة أيضا شواطئ مرسى مطروح والعجمى وشواطئ الغردقة والعين السخنة، وكان جميلا الطريق الصحراوى عندما كان صحراويا بحق. وكان طريق الكورنيش فى الإسكندرية جميلا قبل أن يصبح طريقا سريعا بسرعة واتساع الطرق التى تصل المدن بعضها البعض أو بقبح الحزام الذى يحيط بالقاهرة تحت اسم الطريق الدائرى.

أشياء كثيرة كانت جميلة. من الذى تغير؟ نحن تغيرنا أم الأشياء؟ أم أن الجمال نفسه هو الذى تغير؟ هل كانت مدينة البندقية جميلة لأنها بالفعل كانت جميلة أم لأننا كنا ذواقة جمال قبل أن نفقد الذوق أو على الأقل حاسة التذوق مع أشياء أخرى فقدناها. ألقى باللوم أحيانا على الجمال، واتهمته أكثر من مرة بأنه خان عهودنا فتغير، أما أنا فلم أتغير ولا تغيرت مدينة البندقية الجميلة. لم نتغير ولم تتغير البندقية. على العكس من البندقية أعرف مثلا أن شاطئ دبى وشواطئ أخرى قريبة من دبى كانت مواقع جميلة بالنسبة إلى الذين يقدرون روعة الطبيعة فى بدائياتها وطيبتها وسذاجتها. لا أنكر أن دبى، فى نظر كثيرين، مدينة جميلة. هؤلاء بالتأكيد لا يضعون فى اعتبارهم عنصر الطبيعة. ففى دبى كما فى مواقع أخرى كثيرة اختفت الطبيعة وراء الأبراج وناطحات السحاب أو غطست تحت جزر من الأسمنت المسلح تغطى ما كانت يوما مساحات حرة من المياه والأمواج والزرقة الرائعة.

كنا فى عهود سابقة نصف امرأة فنقول «يا الله ما أجملها». نسمع الآن من يصفها فيقول جذابة أو رشيقة أو خفيفة الظل أو ناعمة. ونسمع آخرين يصفون المرأة بأنها مثيرة بوحشيتها، أو مثيرة ببراءتها، قليلون الذين ما زالوا يصفون امرأة أو مدينة أو بلدا بأنها جميلة.

لماذا وقع هذا التغير؟ أعتقد أنه لا توجد إجابة واحدة. فكرت أنه ربما كان الازدحام السبب. فالناس لم تعد تجد مساحة «فراغ» كافية تسمح لها بأن تتأمل على راحتها شخصا أو شيئا يقف عند مسافة قريبة أو بعيدة. كنا نرى الشواطئ من بعيد لا تحجبنا عنها عمارات شاهقة أو آلاف مؤلفة من بشر ومئات الشماسى والمقاعد البلاستيكية. كنا نرى البحر ساكنا وجميلا من مواقعنا فوق تلال وجبال ونرى التلال والجبال خضراء أو يكسوها الثلج من مواقعنا قرب البحر. حدث هذا قبل أن يبنى الأثرياء قصورا ألوانها زاعقة ومداخنها كئيبة وقبل أن يبنى المستثمرون الجدد بنايات شاهقة حجبت رؤية التل من البحر ورؤية البحر من التل واختفى كل جميل.

إنه التكدس وبالتالى الاقتراب، فالشىء الجميل البعيد أجمل من الشىء «الجميل» الملتصق أو القريب. الأول ترى جماله، الثانى قد لا تراه، أو بالكاد تراه، وإن رأيته فسترى تفاصيل قد لا يكون بعضها جميلا. كانوا على حق أهلنا ومعلمونا عندما كانوا يمنعوننا من الاقتراب من الزهور أو المشى فوق النجيل وكانوا ينصحوننا بأن نبتعد خطوات عن اللوحات المعروضة فى المعرض لنراها على البعد جميلة.

قالوا، ويقولون، إنها الأخلاق تدهورت فتدهورت معها قيمة الجمال وتدهورت القدرة على تقدير الجمال. ويقولون إن الشخص أو الشىء الجميل لم يعد يتحمل البيئة الفاسدة، وإن تحملها بعض الوقت لن تتحمله هى لأى وقت.

كذلك لن ينتج الجشع شيئا جميلا أو ينشئ إنسانا جميلا. ويقولون إن أغلب المتزمتين أو المتعصبين ينأون بأنفسهم عن الإنسان الجميل وعن الشىء الجميل، بعضهم يخشى الفتنة فى جمال البشر وجمال الطبيعة.

لا شىء يستحق ما يستحقه الجمال من إعجاب باعتدال أو إعجاب بانبهار. ما أطيب وأحلى اللغة الجميلة والكلمة الجميلة والإنسان الجميل والطبيعة الجميلة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved