حتى لا نكون «مثل سوريا والعراق»

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الإثنين 21 نوفمبر 2016 - 12:43 ص بتوقيت القاهرة

بداية، ومع كل الاعتزاز «بأهلنا» هناك، فلا أحد يريد لنا أن نصل إلى النقطة التي وصل إليها الحال في القطرين الشقيقين، بمعنى أن لا أحد يريد لنا أن نكون «مثل سوريا والعراق»؛ كما تقول لنا الآلة الإعلامية الجبارة لكل الأنظمة المستبدة في شرقنا العربي. ولكن، هل سألنا أنفسنا مرة وبهدوء (وبعيدا عن ضجيج الصارخين بطبول الزار): كيف كان ما كان في سوريا والعراق؟ أو بالأحرى ما هي معالم الطريق الذي أخذ البلدين إلى ما أخذهما إليه؟

فنان العود العراقي نصير شمه

إلي الذين نسوا مذبحة حلبجة، وغزو الكويت، هل سمعتم الفنان نصير شمة يحكي قصة الحكم بإعدامه؟

في ثمانينيات القرن الماضي حين لم تكن نسائم الربيع العربي قد هلت بعد، كما لم تكن قوات جورج دبليو بوش قد دنست أرض الرافدين بعد، جرت أحداث هذه القصة، التي عرف جيلنا مثلها مئات المرات، وحكاها لنا الفنان العراقي المثقف «نصير شمة» في حوار مع الزميلة منى الشاذلي على قناة CBC (٥ مارس ٢٠١٥)

كان الفنان الرقيق المتميز في عَمّان حين جرى اختطافه تحت تهديد السلاح، ليتم نقله مكبلا (وعن غير الطريق الرسمي) إلى بغداد، ليصدر عليه الحكم بالإعدام (دون محاكمة، كما هو المعتاد تلك الأيام). قبل أن ينجو وهو في طريقه إلى حبل المشنقة «بوساطة» عشائرية، تقرر بعدها فيما يبدو الاكتفاء باغتيال شقيقته يوم الإفراج عنه (تحذيرا، وإنذارا، وإرهابا).

«بوشاية» أخذ الفتى العشريني طريقه إلى الإعدام، «وبوساطة» نجت رأسه من حبل المشنقة. هكذا كان الحال تحت حكم صدام، وهكذا يعرف العراقيون جميعهم، حتى أولئك الذين أنستهم ردة فعل النظام الطائفي الذي حكم بعد سقوطه ما عاشوه أيامها من خوف وذل وإرهاب.

المفارقة، أن الحال لم يكن يختلف كثيرا في عاصمة العرب الأخرى «دمشق»؛ رفيق بغداد البعثي اللدود. حيث رسم الحكم «العسكري» لرفاق هذه الأيام في غير قطر عربي ملامح بيئة مهدت الطريق لكل ما نشهده اليوم من تطرف، وعنف، وإرهاب.. ونزاعات تقوم (مع غياب مزمن للمواطنة) على العصبيات الطائفية، والإثنية، والعشائرية.

***

لأسباب مفهومة، ولعامين كاملين حظيت صور الفظاعات التي يرتكبها متطرفو تنظيم الدولة ISIS بتغطية إعلامية تكاد تماثل ما جرى مع صور فظاعات النازي في معتقلات الهولوكوست، وهو الأمر الذي يكاد يكون قد غاب (نسبيا) عن التغطية الإعلامية لفظاعات جرت في سجون صدام أو جرت، وتجري في معتقلات بشار الأسد أو غيرهما من مستبدي الشرق الأوسط. رغم أن الصور التي جرى تسريبها على يد مصور سابق بالشرطة العسكرية السورية وجرى عرضها في معرض خاص بمقر الأمم المتحدة في نيويورك العام الماضي (مارس ٢٠١٥) قد لا تقل بشاعة بحال عن تلك «الأيقونية» لمعتقلات «أوشفيتز». أو عن تلك «الدعائية» لفظاعات داعش. إذ يبدو، في التحليل النهائي أن بشار الأسد قد نجح، ــ تحت لافتة «الحرب على الإرهاب» ــ في أن يبيع بقاءه للعالم «الخائف». بالضبط كما نجح آخرون في أن يبيعوا لمواطنيهم البضاعة ذاتها تحت لافتة «حتى لا نكون مثل سوريا والعراق».. يالها من مفارقة.

قبل أسابيع نشرت منظمة العفو الدولية Amnesty International (وهي منظمة حقوقية تُعنى بحقوق الإنسان، وتحظى كغيرها من المنظمات الحقوقية بكراهية «المسئولين» العرب والإسرائيليين على حد سواء) تقريرا مفصلا يكشف النقاب عن تجارب مروِّعة لمعتقلين تعرضوا للتعذيب في السجون السورية. ويشير إلى أن ما يزيد على ١٧ ألفا قد لقوا حتفهم أثناء احتجازهم في المعتقلات السورية منذ اندلاع الأزمة في مارس ٢٠١١. يصور التقرير تجارب آلاف المعتقلين من خلال استعراض حالات ٦٥ من المعتقلين السابقين في «سجن صيدنايا العسكري» على أطراف العاصمة دمشق، والذين كتبت لهم النجاة بطريقة أو بأخرى.

نجح بشار في أن يبيع استبداده تحت لافتة «الحرب على الإرهاب»، بالضبط كما نجح آخرون في أن يبيعوا البضاعة ذاتها تحت لافتة «حتى لا نكون مثل سوريا والعراق»

أعلم أن الذين يعادون كل المدافعين عن حقوق الإنسان (هنا وهناك) سوف يشككون في تقرير المنظمة «الدولية»، كما سيتهمون القائمين عليها بـ«المؤامرة»، والشهود السوريين بالكذب والادعاء «والخيانة»، ولكن أذكرهم بكتاب يوثق، (أكرر: «يوثق») تلك الفظائع كان قد صدر قبل حوالي العام (أكتوبر ٢٠١٥)، ويحمل عنوان «عملية سيزار» Opération César. وقيصر هذا هو الاسم المستعار لشاب في العشرينات من عمره، كان يعمل مصورا في قسم التوثيق في الشرطة العسكرية السورية، قبل أن يهرب إلى أوروبا في يوليو ٢٠١٣. كانت مهمة الشاب السوري تصوير الجثث وأرشفتها. قبل أن يهرب ومعه ما يزيد عن ٤٥ ألف صورة، للتعذيب والانتهاكات التي تحدث في السجون التي كان مع زملائه يتولى أرشفة جثث ضحاياها. ورغم أن الرئيس السوري كان قد نفى «لفورين أفيرز» في يناير ٢٠١٥ وجود «قيصر» هذا من الأساس، إلا أن الرجل «بشحمه ولحمه» كان قد مثل (مع صوره) أمام جلسة استماع خاصة في الكونجرس الأمريكي صيف ٢٠١٤، حضرها (كشاهد) رجل القانون «المصري» المعروف دوليا، والخبير في المحاكم الجنائية الدولية (د. شريف بسيوني). كما أنه، وللتأكد من صدقية رواية وصور اللاجئ (الجندي السابق) كانت الصور قد خضعت على مدى عام كامل لفحص من مختصين بجرائم الحرب وخبراء الطب الشرعي وتحليل الصور، والذين كشفوا في حينه عما اعتبروه «أدلة مباشرة» على جرائم ضد الإنسانية قام بها لسنوات مسئولو النظام، وتتمثل في عمليات التعذيب والتجويع القسري والقتل الممنهج. وحسب أحد المحققين فإن حالة الهزال الشديد الذي بدت عليها جثامين الضحايا ذكرته بالصور التي اشتهرت ومازالت تصدم الضمير الإنساني لضحايا معسكرات الاعتقال النازية.

***

لم تكن صور «قيصر» ــ التي لم أرغب لفظاعتها في نشر أيها هنا ــ الوحيدة التي تحكي لنا (توثيقًا) ملامح الطريق الذي أوصل سوريا (الوطن) إلى ما وصل إليه، ففي عدد ١٨ أبريل الماضي خصصت دورية The NewYorker الشهيرة (توزع ما يزيد على مليون نسخة أسبوعيا) عددا من صفحاتها  يتجاوز العشرة آلاف كلمة لتحقيق موسع عن العملية المثيرة والخطرة لتهريب (ومن ثم توثيق) أكثر من ستة آلاف وثيقة من السجون والمراكز الأمنية للنظام السوري. توثق لوحشية النظام وجرائم مسئوليه.

التحقيق الذي عكف عليه لأشهر الصحفي الشاب Ben Taub يحكي لنا تفاصيل العملية الخطرة لتسريب مثل تلك الوثائق من القبضة الأمنية المحكمة «والشرسة» لنظام مثل النظام السوري. وكيف فقد عدد من النشطاء السوريين الذين عملوا على تسريب الوثائق حياتهم. وكيف كانت رحلتهم الخطرة لتهريب الوثائق تصطدم تارة برجال النظام وعيونه، وتارة أخرى بغباء رجال الجماعات الإسلامية المسلحة. إذ تبقى من المفارقات المؤلمة في منطقتنا تلك ما يحكيه تقرير النيويوركر عن كيف تقع العدالة (والباحثون عنها) دائما بين مطرقة النظام «المستبد» وسندان الجماعات «المتطرفة» التي تروج بينها مقولات التشكيك في كل ما يأتي من الغرب «الكافر». فضلا عن الغياب المفترض في أدبياتها التراثية للمفهوم المعاصر العدالة الدولية.

***

كريس إنجلز وبيل ويلي يفحصان أدلة إدانة النظام السوري

في التفاصيل كيف كان «حديث المؤامرة» هو الحل الذهبي لخداع الناس، وغسيل عقولهم، عسى أن ينسوا واقعهم المعيشي الصعب .. وكان الأسد السباق في رفع «اللافتة»

في التحقيق «المهني» الموسع تفاصيل لن تتسع لها بالطبع سطور هذا المقال، ولكن في «ثنايا التفاصيل»، ما يظل لافتا وجديرا بالانتباه:

ففي التفاصيل كيف أن الأسد (مثله مثل كل السلطويين في المنطقة «وفي التاريخ») اعتمد اعتمادا كاملا على أذرع «الأمن السورية» وعلى إطلاق يدها بلا حساب، وهي التي كانت قد نجحت لعقود في الإبقاء على عائلته في السلطة منذ ١٩٧١.

وفي التفاصيل، كيف خصصت الأجهزة الأمنية ذراعا خاصة لمقاومة ظاهرة «الجرافيتي»، وكيف كان «الشباب» هم هاجسها الأول.

وفي التفاصيل كيف تتماهى أجهزة النظام مع ما تقوله القيادة السياسية بغض النظر عما فيه من منطق. إذ تحكي قصة النيويوركر، أو تحديدا «الوثائق المسربة» كيف كان مسئولو الاستخبارات المحليين في البداية (مارس ٢٠١١) يصفون الاضطرابات في تقاريرهم على أنها «بتأثير بعض البلدان العربية التي انفجرت فيها ثورات شبابية تطالب بالتغيير وإرساء الديمقراطية والحريات وإجراء إصلاحات لتوفير فرص العمل للشباب وتحسن مستوى المعيشة ومكافحة الفساد». إلا أن الشهر لم ينته، إلا وكان أولئك المسئولون أنفسهم قد تبنوا في تقاريرهم لغة «المؤامرة، والخيانة، والتحريض، والاختراق الأجنبي، والمشروع الصهيوني ــ الأمريكي». واللافت أن ذلك التغير كان بعد ساعات فقط من خطاب الرئيس (٣٠ مارس ٢٠١١) والذي كان تبنى فيه تلك المقولات.

وفي التفاصيل كيف كان «حديث المؤامرة» هو الحل الذهبي لخداع الناس، وغسيل عقولهم، عسى أن ينسوا واقعهم المعيشي الصعب. فمبكرا جدا، كان الأسد السباق في رفع «اللافتة» ففي خطابه هذا (مارس ٢٠١١) وفي أول تعليق له على مطالبة مواطنيه بالمساواة «والعيش والحرية»، لم يلتفت الرئيس السوري إلى كل ذلك، بل وقف أمام البرلمان ليعلن أنها «المؤامرة» التي تقف خلفها قوى خارجية تريد تدمير البلاد. فكان أشبه بمريض تأكل الخلايا السرطانية جسده، إلا أنه يكتفي بأن يمد إصبع الاتهام إلى الأدوية التي يراها تعمل على إنهاك هذا الجسد.

وفي التفاصيل ماذا يفعل «غسيل الدماغ» الإعلامي بأدمغة الناس؟

يحكي لنا التقرير عن ممرضين (رجالا ونساءً) لم يترددوا في ضرب معتقلين محتجزين في المستشفى بأحذيتهم بعد نعتهم بالإرهابيين. هل تذكرون قصة أمين الشرطة الذي أطلق النار على محتجز مربوط في سريره بمستشفى إمبابه (فبراير ٢٠١٥) بدعوى أنه «إرهابي» استفزه بحديثه.

وفي التفاصيل أن الحكومات «البوليسية» تخشى تقليديا ناشطي المجتمع المدني، لأن جهدهم في كشف الحقيقة قد يمهد الطريق للمحاكم الجنائية الدولية. خاصة وقد تغير العالم، وتغيرت معه المفاهيم التقليدية «للسيادة».

كما قرأنا في التاريخ، تعلمنا سوريا والعراق كيف فشلت العصا الغليظة للأجهزة الأمنية في حماية النظام، فضلا عن الوطن

يبقى أنه (هذه المرة، مع اختلاف التفاصيل)، يذكرنا ما يحكيه تقرير النيويوركر عن إقدام العاملين بالأجهزة الأمنية السورية على تدمير الملفات والوثائق، بالقضية رقم (١٧٦ لسنة ٢٠١١) والخاصة بإتلاف ملفات أمن الدولة في مصر، وكذلك بقضية اقتحام مبنى أمن الدولة التي زجوا فيها باسم رئيس نادي القضاة؛ وقت كانوا يطالبون باستقلالهم (القاضي زكريا عبدالعزيز).

كما تبقى نقطة الضوء في تقرير النيويوركر المؤلم والجالب للغثيان أنه في سوريا «العزيزة»، كما في غيرها هناك دائما رغم ظلام الاستبداد قضاة يعرفون الحق والعدل. وكان أحدهم سببا في إنقاذ «مازن الحمادة» والإفراج عنه لينجح في وقت لاحق في الهرب مع الهاربين من الجحيم السوري ليحكي لنا جانبا من القصة.

ثم يبقى ثالثا أن نشير إلى أن الحكومة السورية ردت على كل التقارير «والوثائق» ببيان رسمي للبعثة السورية في الأمم المتحدة يقول: «ليس لدينا مساجين تم القبض عليهم خارج القانون»!

هل سمعتم عبارة مثل ذلك من قبل؟

***

باختصار تحكي القصة كيف أوصلت «الأجهزة الأمنية» سوريا الحبيبة إلى ما وصلت إليه. ثم كيف عجزت رغم كل القسوة والتعذيب وآلاف المعتقلين عن أن تحمي النظام (فضلا عن الوطن) وعن أن تصل به إلى هذه الدرجة من الاستباحة الدولية.

وباختصار، نتعلم من القصة كم يخدعنا المروجون للاستبداد ولمزيد من التجاوزات (الجرائم) الأمنية، حين يقولون لنا إن هذا هو السبيل (الوحيد) لتجنب أن نصبح «مثل سوريا والعراق». إذ على العكس تماما تقول حقائق عقود من الديكتاتورية والسطوة الأمنية أن هذا الاستبداد، وهذا القمع هو ما أوصل سورية والعراق إلى ما وصلا إليه. وإن أردتم التفاصيل اقرأوا الوثائق (٦٠٠ ألف وثيقة) التي جمعتها لجنة العدالة والمساءلة الدولية the Commission for International Justice and Accountability والتي عرض لها تقرير النيويوركر.

***

عبر السنوات الخمس، لم تكف الأسطورة «الدعائية» عن التلويح في وجوه الباحثين عن الأمن والاستقرار بفزاعة «سوريا والعراق». وقد يكون مثيرا أن نعرف أن Bill Wiley الذي يقف على رأس «لجنة العدالة» تلك التي نجحت في تهريب الوثائق التي تدين النظام السوري بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية»، والحاصل على الدكتوراه في القانون من جامعة York والذي يبدو أنه وهب حياته من أجل عالم أكثر عدلا. وانحيازا إلى فكرة القانون المجرد، كان قد انضم في حينه (٢٠٠٥) إلى فريق الدفاع عن صدام حسين أملا في أن يجعل محاكمة «الديكتاتور» الذي لم يعرف العدل أكثر عدلا، إلا أن الإرث كان ثقيلا، والثقافة المتوارثة كانت غالبة. ومشاعر الثأر كانت الحاكمة. فكان مشهد التشفي الذي شاهدناه صادما على يوتيوب صبيحة عيد الأضحى في الثلاثين من ديسمبر ٢٠٠٦؛ والذي لا يساويه ربما في مجافاته للإنسانية، غير ما ارتكبه الرئيس «المحكوم عليه بالإعدام» وقت أن كان في السلطة.

ربما لم يفهم «ويلي» المشهد يومها، لأنه ربما لا يعرف ما نعرفه نحن الشرقيين الصحراويين من أن «الدم لا يورث غير الدم» وأن عقودا من الاستبداد والتهميش لفئة ما من المجتمع، لن تأتي غير باستبداد مقابل، وتهميش بديل، وتطرف.. فإرهاب.

هذه هي باختصار عناوين «قصة العراق» التي سبق وأن حاولت تفصيلها في مقال سابق قبل عامين (١٥ يونيو ٢٠١٤)

علينا أن نتذكر بداية أن ما جرى في العراق لا علاقة له بما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، فبغداد سقطت، وضرب العراقيون تمثال صدام بالأحذية في أبريل ٢٠٠٣ أي قبل أن تهب أولى نسائم ذلك الربيع بسبع سنوات كاملة.

وعلينا أن نتذكر ثانية أن كل الحكومات التي تتهم دعاياتها الربيع العربي بأنه المسئول عما جرى لسوريا والعراق، شاركت بقوات عسكرية في الحرب الأمريكية ــ العربية «عاصفة الصحراء» ضد صدام، بعد حماقة غزو الكويت (أغسطس ١٩٩٠)

لا أحد بإمكانه أن ينكر أن ما فعله جورج دبليو بوش وتوني بلير كان جريمة، بإقدامهما على غزو العراق اعتمادا على ترويج أكاذيب حول امتلاكه أسلحة دمار شامل، بالرغم من أن تقارير وكالة الطاقة الذرية التي كان يترأسها وقتها محمد البرادعي كانت تقول بعكس ذلك. ولكن، بمنطق أن «الجريمة لا تبرر جريمة»، فلا أحد أيضا بإمكانه أن ينكر أن جريمة بوش / بلير لا تنفي جرائم نظام صدام حسين ضد مواطنيه؛ استبدادا، وتهميشا طائفيا، وقمعا لمواطنيه (وصل إلى حد إذابة خمسة آلاف منهم بالأسلحة الكيماوية في «حلبجة» ١٩٨٨) فضلا عن تمييز معلن وصارخ لجماعة الحكم «البعث». وهو الأمر الذي حرث أرض الرافدين لما جرى بعد ٢٠٠٣ من تمييز وتهميش مضاد، كان أن استدعى، مع حسابات حمقاء لقوى إقليمية، كل الثأرات الطائفية القديمة، فدارت «دائرة الدماء» التي نعرف في شرقنا المثقل بثقافة «داحس والغبراء» أنها قد لا تنتهي أبدا.

لن نفهم أبدا ما جرى في العراق، إلا إذا أدركنا حقيقة أن «الدولة» عندما تفشل في إدارة التنوع الصحي بين مواطنيها، يصبح الانتماء للطائفة أو للجماعة أعلى من الانتماء للدولة / الوطن. فيكون ذلك نواة للتناحر / الاقتتال الداخلي. الذي يزداد أواره اشتعالا في مجتمعات مثل مجتمعاتنا، عندما تسكب على النار زيتا مستخلصا من مقولات «دينية مطلقة» يسهل بها حشد البسطاء ليضحوا بأنفسهم «على الطريق إلى الجنة».. هل تذكرون أدبيات «الحروب الصليبية»؟

***

الطريق إلى سوريا والعراق يبدأ باهتزاز ميزان العدالة، وازدياد الشعور بالتمييز والتهميش وغياب المساواة والمواطنة

كما أنه في العلاقات الدولية لا يوجد جديد في الحديث عن حقيقة أن كل الدول لا توفر جهدا دبلوماسيا أو استخباراتيا في العمل على مصالحها، لا يحتاج المرء إلى أكثر من دراسة التاريخ، ونظرة منصفة لما يجري حوله ليدرك أن الطريق إلى «الحالة السورية العراقية» لا تمهده «الأفاعيل الميتافيزيقية» لأهل الشر. ولا «المؤامرات الدولية» التي ذهبنا بنظرياتها بعيدا، فلم نتردد في الحديث عن «مجلس سري لإدارة العالم»، وتهجين الأجيال المتتالية من الحروب، وعن ترويج أكذوبة أن الغرب «الأمريكي» يتآمر علينا، عبر أجهزة استخباراته ليل نهار، متغافلين عن حقيقة أن رئيس الجمهورية التقى مدير الاستخبارات الأمريكية أكثر من مرة «للحديث عن العلاقات الاستراتيجية … والتعاون الأمني والعسكري» كما قالت البيانات الرسمية للرئاسة المصرية.

• الطريق إلى سوريا والعراق لا تمهده المؤامرات الدولية، بل يبدأ «بغياب المواطنة» كما كان في الحالة العراقية، كما السورية لعقود. ثم بإحكام القبضة البوليسية الخشنة تحت ستار من الإفراط في الحديث عن «المؤامرات الدولية»، بالضبط كما فعل بشار الأسد في خطابه الشهير في البرلمان السوري (٣٠ مارس ٢٠١١)

• الطريق إلى انهيار الدولة (والذي جرى توصيفه إعلاميا بحالة «سوريا والعراق») يبدأ بحمق من لا يدرك خطورة العبث «بميزان عدالة» لو شاع بين الناس اهتزازه لما اطمأنوا أبدا للجوء اليه. ولعمد كل منهم إلى أن يأخذ حقه «أو ما يتصور أنه حقه» بيديه، ولسقطت «الدولة» التي هي بالتعريف مؤسسة لتنظيم حياة الناس.

• الطريق إلى سوريا والعراق يبدأ بخلق طبقة متميزة (متحكمة، ومحتكرة، وذات حصانة»، سواء كانت هذه الطبقة حزبا، أو طائفة، أومؤسسة عسكرية.

• الطريق إلى سوريا والعراق يبدأ بشرر رأينا نذره فيما حدث في أسوان (أبريل ٢٠١٤) وما جرى في الأقصر (نوفمبر ٢٠١٥) ثم ما شهدناه في الدرب الأحمر (فبراير ٢٠١٦)

• الطريق إلى سوريا والعراق يبدأ حين يصبح «الاختفاء القسري» بندا ثابتا في تقارير المجلس القومي (الرسمي) لحقوق الإنسان، وموضوع مقال لنائب رئيسه (الأستاذ عبدالغفار شكر) في «الأهرام»(٣ سبتمبر ٢٠١٦)

• الطريق إلى سوريا والعراق، يمر عبر سياسات اقتصادية «متخبطة» تزيد الفقراء فقرا، والفساد فسادا. وتؤدي إلى تدمير اقتصاد هذا البلد على المدى الطويل بانتهاج «الاحتكار» غير العادل الذي من شأنه أن يقضي على المنافسة الشريفة التي هي عماد أي اقتصاد حر. ثم باللجوء إلى الاقتراض «غير المسبوق» لتمويل مشروعات يشك المتخصصون في مكانها على سلم الأولويات.

• الطريق إلى سوريا والعراق، يمر عبر نهج حكم يتصور أن الاقتصاد لا علاقة له بالسياسة. أو أن بإمكانك أن تحكم سياسيا بطريقة «السوفييت» الستينية، في حين تطبق اقتصاديا سياسات الصندوق «النيوليبرالية»، كما أوضحنا تفصيلا في مقال سابق.

• الطريق إلى ما لم نكن نتمناه من انقسامات «مجتمعية» في سوريا والعراق، يمر منطقيا عبر حالة استقطاب هي أول الطريق إلى هيستريا مجتمعية لا تترك مكانا لعقل أو منطق.

***

الطريق إلى حالة «سوريا والعراق»، التي يُلوح لنا بفزاعتها كل يوم يمر عبر تكريس نظام لطالما أسهبنا هنا في شرحه:

نظام لا يدرك خطورة أن تجعل ظهر هذا أو ذاك إلى الحائط، أو ماذا يمكن أن تقود إليه إجراءات أمنية ظالمة أو عقيمة بشاب أضاعت مستقبله. نظام لا يدرك نتيجة ذلك كله على أمن الوطن والمجتمع.

النظام الذي لا يدرك أن «الشفافية» هي النقيض الموضوعي «للفساد»، فيدعي أنه يحارب الفساد بإجراءات تئد الشفافية. وتُعتم على البيانات والمعلومات ذات الصلة.

نظامٌ لا يكون فيه «المواطنون أمام الدولة والقانون سواء» رغم أنف الدستور، فيحرم شابا من وظيفة «يستحقها» لأن تقارير «أمنية» أشارت إلى أنه سلفي أو شيوعي أو شيعي أو بهائي أو منتم للإخوان المسلمين. كما يحرم آخر، رغم تفوقه من «الوظيفة المرموقة» لا لسبب إلا أنه «مسيحي» أو ينتمي إلى طبقة اجتماعية «مكافحة»، كما يحكي لنا المؤرخ الكبير رءوف عباس في مذكراته الصريحة الصادمة.

النظام الذي لا يحب ثقافة التفكير النقدي Critical Thinking، والذي قد يعلم الناس المعارضة، فتشيع فيه بدلا من ذلك ثقافة السمع والطاعة والتلقين والاتباع؛ تُربةً خصبة لثقافة مريضة تدفع هذا أو ذاك إلى أن يظن أن طريق الجنة يمر بتفجير يستهدف أبرياء.

***

يبقى أن على الذين يبررون قمعهم، وسياساتهم الصدئة، بالحديث الممل عن «مؤامرات» لتقسيم مصر، كما يجري في دول المنطقة، أن يقرأوا قليلا في التاريخ، وأن ينظروا حولهم في الجغرافيا. فمصر، التي يبدو لا يعرفون (رغم هتافهم المبتذل بحياتها) يمتد تاريخها (كدولة) إلى آلاف السنين. كما أنها «ديموجرافيا» ولأسباب ليس هنا مجال تفصيلها، تختلف عن دول المنطقة التي يتحدثون عنها بأنها لا تعرف نسبيا التمايز في القبائل أو الأعراق أو الطوائف  (في العراق... وفي سوريا). وبالتالي، فهي ليست عرضة لما تعرضت له دول الجوار من انشطار واقتتال عندما غابت دولة المساواة والمواطنة، وفشلت حكوماتها المتعاقبة في إدارة التنوع الطبيعي بين مواطنيها ليصبح عاملا للثراء، لا الانقسام. إذ تقول دروس التاريخ إن الدولة حين تفشل في إدارة التنوع، تبرز الهويات البديل، ويلوذ كلٌ بقبيلته أو طائفته أو جماعته العرقية بديلا يشعر فيه بالانتماء، وتصبح النزاعات الداخلية، التي قد تقود إلى حرب أهلية، ومن ثم إلى تقسيم أو انقسام ممكنة.

على الذين يبررون قمعهم، بالحديث الممل عن «مؤامرات» لتقسيم مصر، أن يقرأوا قليلًا في التاريخ، وأن ينظروا حولهم في الجغرافيا.. فمصر غير مؤهلة أصلًا للتقسيم

في مصر الأمر يختلف. إذ لا توجد لدينا نسبيا هذه التربة القلقة / الثرية من التنوع القبلي أو الطائفي أو العرقي. ولهذا لم تعرف مصر طوال تاريخها هذه الانقسامات. ولكن، يبقي المثير والمؤسف أن الذين يحذروننا ليل نهار من «مؤامرات التقسيم» هم الذين يبدون وكأنهم يعملون بدأب على «تقسيم المصريين» بآليات الإقصاء والظلم والغبن.. وغياب المواطنة، فضلا عن دعوات «التطهير» وإعلام التصنيف القائم على ثنائية بوش العقيمة: «من ليس معنا، فهو ضدنا».

كما يبقى على الذين يظنون أن مطالب «الربيع العربي»، بالحرية والمواطنة هي التي أتت لنا بداعش أن يتذكروا أن بواكير داعش ظهرت ١٩٩٩ (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين)، ثم نضجت مع أبي مصعب الزرقاوي في ٢٠٠٣، وأن يعودوا إلى كتاب Charles Lister, The Syrian Jihad ليعرفوا كيف نشأ التنظيم، وأن يعودوا إلى روايات Simon Speakman Cordall الموثقة عن كيف أطلق بشار سراح المتطرفين الإسلاميين من السجن بعد أشهر من الثورة «السلمية» لتأخذ الأمور في سوريا مسارها إلى ما نعرفه جميعا الآن

***

وبعد..

فقد يكون مثيرا في عالم يحتفي بوصول سفينة فضاء إلى كوكب المشتري (على بعد ٦٢٨ مليون كيلومتر عن الأرض) أن نسمع في «مهد الحضارة» حديثا ميتافيزيقيا عن «أهل الشر»، وأن نسمع من المسئولين من يعلق على حادث الطائرة المصرية القادمة من باريس بأن «مصر عليها العين».. لا بأس. ولكن باللغة ذاتها، أو بالأحرى بلغة محفورة أبجديتها في ثقافتنا الدينية «إسلامية كانت أو مسيحية»، أسأل أولئك الباحثين عن الرخاء والاستقرار والرزق، هل سمعتم عن «البركة». وهل قرأتم في مرجعياتكم «عما يذهب الرزق». أو هل سمعتم بمقولة ابن خلدون الخالدة «الظلم منذر بخراب العمران».

على الذين يخشون أن نكون مثل سوريا والعراق أن يدرسوا تجارب الاستبداد والقمع في البلدين جيدا. وأن يدركوا خطورة أن تتسع «دائرة الثأر»، وأن يكون هناك «تحت جلد الوطن» آلاف من المظلومين. ثم عليهم أن يتدبروا مقولة آينشتين الشهيرة: «المقدمات ذاتها، تؤدي منطقيا إلى النتائج ذاتها».

وإلى كل من أخافتهم دعاية «حتى لا نكون مثل سوريا والعراق». أو بالأحرى ــ تدقيقا للمعنى واللفظ ــ إلى كل من لا يريدون أن نسير في طريق يوصلنا إلى ما وصلت إليه سوريا والعراق (العزيزتين) من إرباك ودماء، أرجوكم أعيدوا قراءة المقال .. والحكاية، ثم أرجوكم تمهلوا وفكروا مرتين: ما الذى أوصل البلدين العزيزين إلى ما وصلتا اليه؟ إنه «الظلم» أكرر: الظلم.

وقانا الله وإياكم شر الطريق وشر المآلات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ــ العراق.. فى القصة تفاصيلٌ أخرى

ــ وفي سوريا أيضا 

ــ تقرير التحقيق في مزاعم التعذيب داخل السجون السورية

ــ كيف تحولت الثورة السلمية في سوريا إلى كل هذا العنف

ــ من يحرس العدالة .. والوطن؟

ــ  صناعة الإرهاب

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved