القصة الكاملة لمعركة الجمعية التأسيسية (2-2)

وحيد عبدالمجيد
وحيد عبدالمجيد

آخر تحديث: الخميس 21 يونيو 2012 - 8:48 ص بتوقيت القاهرة

كان حكم محكمة القضاء الإدارى الصادر فى 10 أبريل 2012 بوقف قرار الاجتماع المشترك لمجلسى الشعب والشورى الخاص بتشكيل الجمعية التأسيسية بداية المرحلة الثانية فى جهود حل أزمة هذه الجمعية. فقد انتقلت جهود الحل من محاولة ترميم الجمعية التى وُلدت متصدعة آيلة للسقوط إلى السعى لإعادة بنائها بعد أن أسقطها عدم التوافق عليها قبل أن يجمدها الحكم القضائى.

 

وبالرغم من أن هذا الحكم فتح الطريق إلى إعادة انتخاب الجمعية، فإنه رفع سقف مطالب الأحزاب التى اعترضت على تشكيل هذه الجمعية فى الانتخابات التى أُجريت فى 24 مارس على نحو استلزم المزيد من الجهود فى أجواء ملبدة بغيوم كثيفة وفى غياب حد أدنى من الثقة المتبادلة.

 

ولذلك اقتضى الأمر أكثر من عشرة أيام إلى أن تيسر عقد أول اجتماع ضم حزبى الحرية والعدالة والنور وأحزابا ليبرالية ويسارية فى فندق سوفيتيل بالقاهرة فى يوم 22 أبريل 2012.

 

فقد شهدت الفترة بين إصدار حكم القضاء الإدارى، وهذا الاجتماع جهودا يومية لترتيب لقاء للحوار حول الأسس الضرورية التى ينبغى توفيرها لوضع معايير موضوعية للجمعية التأسيسية الجديدة، وكانت هناك محاولات عدة بدأت بالسعى إلى عقد اجتماع مساء الخميس 12 أبريل 2012 فى مقر حزب الوفد، ولكن أحزاب المصرى الديمقراطى الاجتماعى والمصريين الأحرار والتحالف الشعبى الاشتراكى طلبت تأجيله إلى أن يتم التشاور بينها أولا.

 

واستمرت الاتصالات فى الاتجاه نفسه سعيا إلى عقد هذا الاجتماع يوم الثلاثاء 17 أبريل. لكن الأحزاب نفسها اعتذرت. ولذلك اقترح د. وحيد عبدالمجيد عقد لقاء مصغر فى ذلك اليوم يضم رؤساء أحزاب تقوم بدور إيجابى عادة فى أجواء الاستقطاب، وفى مقدمتهم د. السيد البدوى رئيس حزب الوفد. هذا وعُقد اللقاء فى مقر الوفد مساء 17 أبريل وضم د. البدوى والمهندس أبوالعلا ماضى رئيس حزب الوسط، وعبدالمنعم الصاوى أحد قادة حزب الحضارة، والمهندس محمد سامى رئيس حزب الكرامة، ود. وحيد عبدالمجيد.

 

 

 

بحثا عن معايير

 

وكان هذا الاجتماع هو البداية الحقيقية لعملية وضع المعايير التى تم الاتفاق عليها أخيرا بعد نحو شهر ونصف الشهر فى الاجتماع الطويل الذى حضره قادة تسعة أحزاب، وبدأ مساء الأربعاء 6 يونيو، وامتد إلى ما بعد فجر الأربعاء 7 يونيو فى مقر حزب الوفد، وأعقبه اجتماع المجلس العسكرى بعد ظهر اليوم نفسه مع رؤساء هذه الأحزاب وغيرها. وهو الاتفاق الذى لم يلبث أن انهار بعد ساعات بسبب خلاف على تفاصيل سنعود إليها لاحقا.

 

فقد شهد اجتماع 17 أبريل 2012 فى حزب الوفد الصياغة الأولى لتقسيم الجمعية التأسيسية إلى ممثلين للأحزاب السياسية والنقابات المهنية واتحادات العمال والفلاحين ورجال الأعمال والمؤسسات الدينية والهيئات القضائية والسلطة التنفيذية ورجال قانون وشخصيات عامة. وهذه هى الصيغة التى حدث بعض التعديل فى تفاصيلها خلال الأسابيع التالية، ولكن ليس فى هيكلها الأساسى.

 

وفى اليوم التالى (18 أبريل) عُقد اجتماع فى مجلس الشعب ضم عددا من النواب من أحزاب مختلفة ومستقلين. وكان هو الأول الذى ضم أحزابا إسلامية وأخرى ليبرالية منذ إصدار الحكم بوقف تشكيل الجمعية المنتخبة فى 24 مارس. فقد شارك فيه د. أسامة ياسين ود. محمد البلتاجى (الحرية والعدالة) ود. يونس مخيون وطلعت مرزوق (حزب النور ومعهما قيادى آخر من غير أعضاء المجلس هو د. بسام الزرقا)، ود. أحمد سعيد (المصريين الأحرار) ود. زياد بهاد الدين (المصرى الديمقراطى)، وكل من حاتم عزام ود. وحيد عبدالمجيد. وكان أهم ما فى هذا الاجتماع أنه انتهى باتفاق على أن يعود الحاضرون إلى أحزابهم للتفاهم على عقد اجتماع موسع فى بداية الأسبوع التالى، وأن يقوم حاتم عزام ود. وحيد عبدالمجيد بالاتصال بالأحزاب الأخرى للمشاركة فى هذا الاجتماع. واقترح أن يكون اجتماعا مغلقا يعقد طوال يوم السبت 21 أبريل بمنأى عن الإعلام فى فندق بعيد عن وسط القاهرة، وتطوع الزميل حاتم عزام بحجز قاعة فى أحد الفنادق.

 

غير أنه لم تمضِ دقائق على انتهاء هذا الاجتماع حتى أعلن رئيس مجلس الشعب فى الجلسة المسائية بشكل مفاجئ أنه يكلف اللجنة التشريعية بعقد جلسات استماع حول تشكيل الجمعية التأسيسية تمهيدا لإعداد مشروع قانون بشأنها. وأحدثت تلك المفاجأة حالة من البلبلة أنتجت أزمة جديدة نتيجة الشعور بأن شيئا يتم تدبيره فى الخفاء، الأمر الذى فاقم أزمة عدم الثقة الهائلة أصلا.

 

وسيطر هذا الشعور على الاجتماع الذى عُقد فى اليوم التالى (19 أبريل) فى حزب الوفد وضم الأحزاب الليبرالية واليسارية، حيث ساده خطاب يدين محاولة حزب الحرية والعدالة للانفراد، مجددا بتشكيل الجمعية التأسيسية، وإصدار قانون لتحصينها ضد الطعن القضائى عليها، وانتهى إلى إعلان «جبهة وطنية» لمواجهة هذه المحاولة، وأثر ذلك التطور على الجهود التى كانت مبذولة لعقد لقاء موسع يضم الأحزاب الإسلامية والليبرالية الأساسية وفق ما سبق الاتفاق عليه بين عدد من النواب فى مجلس الشعب يوم 18 أبريل.

 

ولذلك بادر د. وحيد عبدالمجيد وحاتم عزام بالسعى إلى احتواء تلك الأزمة، واتصل عبدالمجيد بالسيد رئيس مجلس الشعب، موضحا عواقب أى حديث عن مشروع قانون للجمعية التأسيسية بمعزل عن الحوار بين الأحزاب والقوى السياسية واتفاقها، فأكد د. سعد الكتاتنى أنه لا يمكن عمل شىء غير متفق عليه وأن الأمر سيأخذ وقتا فى اللجنة التشريعية لأنها ستعقد جلسات استماع. فطلب د. عبدالمجيد منه إصدار تصريح لتوضيح ذلك، وهو ما حدث فعلا، إذ أصدر ما يفيد عدم وجود مشروع قانون بشأن الجمعية التأسيسية فى الوقت الراهن (نُشر التصريح فى صحف يوم 21 أبريل)، وأنه كلف رئيس اللجنة التشريعية (لعقد جلسات استماع لممثلى القوى الوطنية والأحزاب السياسية والهيئات والمؤسسات الدينية والاجتماعية وممثلى المجتمع المدنى والنقابات المهنية وكل طوائف الشعب المصرى واتجاهاته السياسية والفكرية وأساتذة القانون الدستورى من أجل التوافق على معايير اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية بحيث تتوافق مع المادة 6 من الإعلان الدستورى وفى ضوء الحكم الصادر من محكمة القضاء الإدارى، وضرورة وجود توافق بين جميع القوى والاتجاهات السياسية والفكرية على معايير تشكيل هذه الجمعية قبل مناقشتها فى مجلس الشعب).

 

وتمكن الوسطاء من احتواء الأزمة، أو بالأحرى عبورها بشكل مؤقت، على النحو الذى يسر التفاهم على عقد اجتماع موسع يوم الأحد 22 أبريل واستثمار الجانب الإيجابى فى اجتماع الأحزاب الليبرالية فى حزب الوفد يوم 19 أبريل وهو البدء فى مناقشة الصيغة الأولية لمشروع معايير الجمعية التأسيسية والتى سبق طرحها فى الاجتماع المصغر فى الوفد أيضا قبله بيومين (17 أبريل).

 

ولأن المجلس العسكرى كان قد دعا إلى اجتماع يوم 22 أبريل لمحاولة استغلال الانقسام الآخذ فى الازدياد بين الأحزاب الإسلامية والليبرالية، فقد أدى التفاهم على عقد اجتماع لهذه الأحزاب فى اليوم نفسه إلى اتفاقها على طلب تأجيل موعد الاجتماع مع العسكرى حتى الخميس 26 أبريل، ثم إلى السبت 28 أبريل.

 

وكان الاجتماع الذى عُقد يوم الأحد 22 أبريل فى فندق سوفيتيل المعادى، بدعوة كريمة من النائب حاتم عزام الذى شاركنى الجهد فى إدارة حوار شاق فى أجواء يسودها انعدام الثقة، بداية سلسلة من الاجتماعات اليومية طول ذلك الأسبوع فى المكان نفسه.

 

وبالرغم من البداية الصعبة التى ظهرت فى محدودية المشاركة، فقد تواصل الحوار على نحو أدى إلى تراجع شعور بعض الأطراف باليأس من إمكان حدوث أى توافق. فقد شارك فى الاجتماع الأول (22 أبريل) ستة أحزاب هى الحرية والعدالة (د. أسامة ياسين وحسين إبراهيم ود. محمد البلتاجى ود. فريد إسماعيل)، وحزب النور (د. بسام الزرقا، ود. يونس مخيون)، وحزب البناء والتنمية (صفوت عبدالغنى)، وحزب الوسط (عصام سلطان)، وحزب المصريين الأحرار (كامل صالح)، وحزب المصرى الديمقراطى (نجيب أبادير). كما ضم محمد سامى رئيس حزب الكرامة فى الجزء الأخير من الاجتماع.

 

وكانت مشاركة صالح وأبادير للمرة الأولى فى حوار من هذا النوع، وغياب القياديين والنواب الأكثر دراية بالموضوع وملفاته مثيرة للتساؤل.

 

 

 

بعيدا عن الأضواء

 

ومع ذلك، وبالرغم من أجواء عدم الثقة، فقد بدا أن استمرار الحوار ضرورى ليوم أو أيام أخرى. وتوسعت المشاركة فى اليوم التالى (23 أبريل) الذى غاب فيه د. محمد البلتاجى لشعوره بآلام فى الصدر خلال توجهه إلى مقر الاجتماع، فنُصح بالتوجه إلى قصر العينى حيث بقى هناك لإجراء فحوص حتى نهاية الأسبوع. وحضر د. أحمد دياب إلى جانب حسين إبراهيم ود. أسامة ياسين، ود. محمد سعد من حزب النور إلى جانب د. يونس مخيون ود. بسام الزرقا، وظل كل من كامل صالح ونجيب أبادير ممثلين لحزبى المصرى الديمقراطى والمصريين الأحرار، وكذلك عصام سلطان وصفوت عبدالغنى ومحمد سامى بالنسبة إلى أحزاب الوسط والبناء والتنمية والكرامة. كما أحدث حضور د. السيد البدوى وفؤاد بدراوى ود. أيمن نور نقلة فى الحوار عبر سعيهم إلى مد الجسور والحد من أزمة عدم الثقة. وشارك فى ذلك الاجتماع أيضا سامح عاشور نقيب المحامين ود. عبدالجليل مصطفى القيادى فى الجمعية الوطنية للتغيير وهانى الحسينى القيادى فى حزب التجمع.

 

وأخذ الحوار يدخل، فى ذلك اليوم، فى العمق على صعيد معايير تشكيل الجمعية التأسيسية، خصوصا الفئات والمؤسسات الواجب تمثيلها والنسبة الملائمة لكل منها. وبدأ الاتجاه إلى استقرار نسبى فى كثير من هذه الفئات، مثل الهيئات القضائية (بين 5 و6%) ورجال القانون (بين 9 و10%) والنقابات المهنية (بين 7 و8%) واتحادات العمال والفلاحين (فى حدود 4%) واتحادات المستثمرين (بين 2 و3%) والمؤسسات الدينية (بين 8 و9%). ولكن الأمر ظل بعيدا عن الاستقرار بالنسبة إلى الأحزاب السياسية التى طالب البعض بأن يكون تمثيلها فى أقل الحدود، بينما رأى البعض الآخر أنها الأساس فى العمل السياسى ــ الدستورى. كما ظل هناك خلاف على الأحزاب التى يمكن تمثيلها ونسبة تمثيل كل حزب.

 

ولكن المشكلة الجوهرية التى خيمت على (اجتماعات سوفيتيل) كلها حتى نهايتها كانت هى نسبة التصويت على مواد الدستور داخل الجمعية التأسيسية بعد تشكيلها. فقد جاء حزبا المصرى الديمقراطى والمصريين الأحرار بموقف محدد وصارم هو إعطاء أولوية كاملة لحسم هذه النسبة قبل كل شىء والاتفاق على أنها لا تقل عن الثلثين (67%)، فى الوقت الذى أصر حزبا الحرية والعدالة والنور على 50% + 1.

 

وكانت هذه المشكلة وراء عودة الأجواء إلى التوتر فى اجتماع اليوم التالى (الأربعاء 25 أبريل) الذى انضم فيه فريد زهران وأحمد فوزى إلى كامل صالح ممثلون للحزب المصرى الديمقراطى، وانضم أحمد خيرى إلى نجيب ممثلين لحزب المصريين الأحرار، وجاء جمال قريطم بدلا من صفوت عبدالغنى عن حزب البناء والتنمية، وبقى تمثيل باقى الأحزاب كما هو. كما حضر للمرة الأولى والأخيرة محمد أنور السادات رئيس حزب الإصلاح والتنمية.

 

ويحسب لرئيس حزب غد الثورة د. أيمن نور أنه أول من طرح فكرة التدرج فى التصويت على مواد الدستور فى ذلك الاجتماع، حيث اقترح أن يُجرى الاقتراع على أكثر من مرحلة بحيث تكون الأولوية للتوافق ثم الثلثين، فإذا لم يتيسر هذا أو ذاك يُعاد الاقتراع بنسبة أقل مثل 60%.

 

ولكن إصرار حزبى الحرية والعدالة والنور على خفض نسبة الاقتراع فى المرة الثانية إلى أقل من 60% لم يلقَ قبولا لدى المتمسكين بنسبة الثلثين. كما لم تكن أجواء عدم الثقة ملائمة للتداول جديا فى اقتراح توافقى آخر هو التزام الجميع عند تشكيل الجمعية التأسيسية بالتوافق على كتلة وسطية تضم شخصيات غير محسوبة على الأحزاب الإسلامية أو الليبرالية لتكون هى رمانة الميزان عند التصويت.

 

ولذلك توترت الأجواء فى نهاية هذا الاجتماع، ولم تفلح محاولات تأجيل مسألة التصويت والعودة إلى المعايير وطرح أسماء وتداولها عسى أن يساهم ذلك فى بث شىء من الاطمئنان المتبادل. وأصر حزبا المصرى الديمقراطى والمصريين الأحرار على حسم نسبة التصويت بأغلبية الثلثين أو التزام الأحزاب الإسلامية بعدم حصولها على أكثر من 50 فى المائة من أعضاء الجمعية، بينما اعتبر حزبا الحرية والعدالة والنور الإصرار على نسبة الثلثين محاولة لضمان «الثلث المعطل» المعروف فى التجربة اللبنانية.

 

وبالرغم من أن تلك الليلة انتهت بصورة غير مبشرة، بقى لدينا إصرار على إكمال الطريق انطلاقا من أنه لا بديل عن التوافق إلا أن يحارب بعضنا بعضا. ولذلك اقترحت وزميلى فى إدارة «حوارات سوفيتيل» حاتم عزام إعطاء فرصة للأحزاب للتشاور داخليا فى اليوم التالى على أن يُعقد الاجتماع التالى يوم الجمعة 27 أبريل، وأن يبدأ فى الخامسة بدلا من السابعة، وأن نحاول التداول فى أسماء الشخصيات العامة ورجال القانون باعتبارههما الفئتين المكونتين من أفراد ليسوا مرشحين من جهات أو مؤسسات أو ممثلين لها.

 

غير أن اليوم التالى جاء بنبأ غير سار، إذ اعتذر حزبا المصرى الديمقراطى والمصريين الأحرار عن اجتماع الجمعية 27 أبريل، ولم تفلح محاولاتى لاستغلال علاقتى الوثيقة بالزميل فريد زهران وتاريخنا المشترك فى الحركة اليسارية فى التوصل إلى اتفاق على بذل مزيد من الجهد لمواصلة الحوار.

 

ومع ذلك، واصلنا «حوارات سوفيتيل» فى اجتماع الجمعة 27 أبريل بدعوة كريمة من د. السيد البدوى الذى يرجع إليه كثير من الفضل فى استمرار العمل من أجل التوافق، وبحضور حزب الحرية والعدالة (د. أسامة ياسين ود. فريد إسماعيل ود. أحمد دياب) وحزب النور (د. بسام الزرقا) وحزب غد الثورة (د. أيمن نور) وحزب البناء والتنمية (صفوت عبدالغنى) وحزب الوسط (د. طارق الملط).

 

وكانت هذه هى المرة الأولى التى يحدث فيها عصف ذهنى مركز وطويل بشأن الشخصيات العامة ورجال القانون. وكان لهذه العملية أثر معنوى إيجابى لأنها أظهرت أن التوافق لن يكون مستحيلا، وأن الاستقطاب الحاد لن يحول دون حل المشاكل التى تواجه التفاهم على مسألة الجمعية التأسيسية.

 

 

 

انقطاع.. وتراخٍ

 

قبل أن يغادر المجتمعون فى «حوارات سوفيتيل»، جاء نبأ تحرك آلاف من المعتصمين فى ميدان التحرير إلى ميدان العباسية، الأمر الذى أثار مخاوف الجميع. وبالرغم من أن الساعات التالية حملت بشرى حل أزمة نسبة التصويت فى الجمعية التأسيسية خلال الاجتماع الذى عقده المجلس العسكرى مع رؤساء الأحزاب صباح السبت 18 أبريل، فقد انغمس الجميع خلال ذلك الأسبوع بأحداث العباسية التى انتهت نهاية دموية مفجعة يوم الجمعة التالى 5 مايو. ولم يكن للمجلس العسكرى فضل فى حل مشكلة نسبة التصويت، لأن الاتفاق الذى حدث على إعلاء قيمة التوافق أو الاقتراع على مرحلتين (بنسبة 67% ثم 57% بعد 48 ساعة) كان نتيجة النقاش الذى حدث بمبادرة د. أيمن نور عندما طرح فكرة التصويت المندرج كما سبقت الإشارة. فقد أبدى حزبا الحرية والعدالة والنور مرونة عندما طُرحت نسبة 57% فى الاقتراع الثانى بدلا من نسبة 60% التى اقترحها نور فى «حوارات سوفيتيل» وتحديدا يوم الأربعاء 25 مايو. كما أبدى حزبا المصرى الديمقراطى والمصريين الأحرار مرونة عندما نزلا من سقف الثلثين (67%) الذى تمسكا به من قبل.

 

وبخلاف شهر أبريل الذى حفل بعمل شبه يومى فى أزمة الجمعية التأسيسية، شهد مايو الماضى انقطاعا ربما يجوز اعتباره ــ على سبيل النقد الذاتى ــ نوعا من التراخى. غير أن ذلك الشهر (مايو) حفل بتطورات كبرى، بدءا بأحداث العباسية ثم الجدل حول إصدار إعلان دستورى مكمل وانشغال الأحزاب والوسطاء بينها بهذا الموضوع. فعندما بدا أن المجلس العسكرى فى سبيله إلى إصدار إعلام دستورى مكمل أو إعادة العمل بدستور 1971 مضافا إليه تعديلات استفتاء 19 مارس 2011، رأى بعض الأحزاب عدم ترك الأمر لهذا المجلس منفردا وإجراء حوار حول صيغة معقولة لذلك الإعلان المكمل والإصرار على عدم تجاوزها.

 

واستغرق هذا الأمر وقتا واستنفذ جهدا، قبل أن تفعل أزمة عدم الثقة بين الأحزاب فعلها وتدفع إلى صرف النظر عن الموضوع برمته، فى الوقت الذى كان موعد الانتخابات الرئاسية (23 و24 مايو) قد حل فانشغل الجميع بها.

 

ولذلك كان الاجتماع الجزئى الذى عُقد فى حزب الوفد برعاية د. السيد البدوى مساء السبت 6 مايو وبحضور أحزاب الحرية والعدالة (حسين إبراهيم ود. أسامة ياسين ود. محمد البلتاجى ود.فريد إسماعيل) والنور(د. يونس مخيون وسيد مصطفى ود. محمد سعد) والوسط ( المهندس أبوالعلا ماضى وعصام سلطان) والغد (د. أيمن نور) والكرامة (محمد سامى وكمال زايد) هو الأخير حتى آخر مايو الماضى. ولم يشهد ذلك الاجتماع جديدا، إذ أجريت فيه مداولة جديدة للمعايير من حيث الفئات الممثلة فى الجمعية ونسبة تمثيل كل منها بدون الوصول إلى صيغة نهائية.

 

وربما يكون هذا التراخى هو الذى أدى إلى إثارة أزمة قبيل نهاية مايو عندما أضيفت إلى جدول أعمال مجلس الشعب يوم الاثنين 28 مايو بشكل مفاجئ مناقشة مشروع قانون كانت اللجنة التشريعية قد أعدته بشأن الجمعية التأسيسية. فقد أثار ذلك التطور رد فعل سلبى من جانب بعض الأحزاب الليبرالية التى تجددت مخاوفها من أن يكون هناك تدبير خفى من جانب حزب الحرية والعدالة فى هذا المجال. ولذلك أسرعت إلى الاتصال بالسيد رئيس المجلس وأبلغته أن ما حدث يخلق أزمة لا مبرر لها وأن هناك اتفاقا على عدم طرح أى أمر يتعلق بالجمعية التأسيسية فى البرلمان بدون توافق عام عليه، فاقتنع وعالج الأمر فى الوقت الذى تواصلت مع د. أحمد سعيد الذى كان قد هاتفنى مبديا قلقه واتفقنا على عقد لقاء فى المجلس فى اليوم نفسه بحضور عدد من زملائنا، وهم د. محمد البلتاجى ود. زياد بهاء الدين ود. عماد جاد وعصام سلطان وباسل عادل.

 

وكنت قد انتهيت من إعداد تصور مستمد من مجمل الحوارات الطويلة التى أجريت منذ 17 أبريل تولى معايير الجمعية التأسيسية، متضمنا ما اعتبرته حلا وسطا للمسألة التى ظلت معلقة وهى نسبة تمثيل الأحزاب السياسية، سعيا إلى إنهاء هذه المسألة لأن تراخى الجهود فى الأسابيع الثلاثة السابقة كان مثيرا لتساؤلات بل لهواجس. وتم الاتفاق على عقد اجتماع فى مكتبى بعد يومين (الأربعاء 30 مايو) وآخر فى مكتب د. زياد بهاء الدين فى اليوم التالى (الخميس 31 مايو).

 

ولكن ارتباكات عدة حالت دون ذلك، فلم يعقد الاجتماع إلا مساء السبت 2 يونيو الجارى فى مكتبى بالدقى بمشاركة أحزاب الحرية والعدالة (د. فريد إسماعيل ود. أحمد دياب وخالد محمد) والنور (سيد مصطفى) والوفد (حسام الخولى) والمصرى الديمقراطى (د. زياد بهاء الدين ود. أيمن أبوالعلا) والمصريين الأحرار (د. أحمد سعيد وباسل عادل) والكرامة (سعد عبود). وظل الخلاف قائما حول نسبة تمثيل الأحزاب السياسية، فى الوقت الذى كان المجلس العسكرى قد دعا إلى اجتماع رؤساء الأحزاب يوم الثلاثاء 5 أبريل سبقه اجتماع للأحزاب الليبرالية واليسارية والقوى المدنية فى حزب الوفد مساء الاثنين 4 أبريل. وقد شاركت فى هذا الاجتماع وقمت بعرض الموقف وفقا لآخر ما بُذل من جهود وحضره إلى جانب د. السيد البدوى رئيس الوفد رؤساء أحزاب المصرى الديمقراطى د. محمد أبوالغار ومعه د. عماد جاد، والمصريين الأحرار د. أحمد سعيد، وغد الثورة د. أيمن نور، والكرامة المهندس محمد سامى والوسط المهندس أبوالعلا ماضى، إلى جانب نبيل زكى وسيد عبدالعال (التجمع) وطلعت فهمى (التحالف الشعبى) وناصر عبدالحميد (ائتلاف شباب الثورة). كما حضره سامح عاشور نقيب المحامين الذين كان قد شارك فى اجتماع عقده المجلس العسكرى مع المجلس الاستشارى صباح اليوم نفسه، واقترح إصدار إعلان دستورى مكمل يحدد معايير تشكيل الجمعية التأسيسية.

 

وقد أثار هذا الطرح خلافا، إذ ارأى بعض المشاركين (المهندس أبوالعلا ماضى وطلعت فهمى ووحيد عبدالمجيد) أنه يفتح الباب لتدخل المجلس العسكرى، فضلا على عدم وجود حاجة إليه لأن الجهود المبذولة على مدى أكثر من شهرين للتوافق على المعايير أوشكت على الانتهاء. واتخذ د. محمد أبوالغار موقفا محترما عندما امتنع عن حضور اجتماع 5 يونيو مع المجلس العسكرى، عندما علم أن أحزاب الحرية والعدالة وغد الثورة والوسط ليست مشاركة.

 

ولذلك كان موقفه قويا فى الاجتماع الحاسم الذى استضافه حزب الوفد مساء الأربعاء 6 يونيو عندما طالب ومعه ممثلو حزبى المصرى الديمقراطى والمصريين الأحرار بالتوافق على أسماء أعضاء الجمعية التأسيسية مناصفة بين الأحزاب الإسلامية والأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية، منطلقا من أنه لا مشكلة لدى القوى المدنية فى نسبة تمثل الأحزاب والعدد الذى سيحصل عليه حزبا الحرية والعدالة والنور، لأن الحل فى هذه الحالة هو الاتفاق على عدم وجود غلبة عددية لتيار على آخر بحيث يكون لكل من التيارين الإسلامى والليبرالى ــ اليسارى (المدتى) نصف المقاعد. ورفق العدول عن هذا المطلب خشية تكريس الانقسام معترفا بوجود استقطاب ورافضا إغفال الأمر الواقع.

 

وامتد الاجتماع حتى فجر الخميس 7 يونيو فى ظل مفاوضات ومساومات مضنية حول المحاصصة التى طرحها الحزب المصرى الديمقراطى وسانده فيها حزب المصريين الأحرار، ولم تفلح محاولات حزبى الحرية والعدالة والنور لتعديلها بدءا من أن يكون للأحزاب الإسلامية 55%، ووصولا إلى قبول 53%. وكان ممكنا التوصل إلى اتفاق نهائى على 52% لو أن المصرى الديمقراطى والمصريين الأحرار قبلا ذلك باعتباره لا ينطوى على مخاطرة مادامت نسبة التصويت لم تقل عن 57%، خصوصا فى ظل عدم اعتراض حزبى الحرية والعدالة والنور فى ذلك الاجتماع على إخراج ممثلى هيئات الدولة (السلطة التنفيذية والهيئات القضائية والأزهر والكنائس) من حصة الفريقين.

 

بالرغم من مغادرة ممثلى الحزبين (د. محمد أبوالغار ود. أحمد سعيد ود. عماد جاد وفريد زهران)، فقد واصل باقى المجتمعين البحث عن مخرج وسجلوا ما تم الانتهاء إليه بشأن المعايير ونسبة التصويت والاتفاق على مبدأ عدم وجود غلبة عددية لتيار على آخر، لكن دون حسم ما إذا كان المقصود غلبة فى عدد الأعضاء (أى محاصصة كاملة) أم فى اتخاذ قرار وبالتالى عدم حصول أى تيار على نسبة 57% من عدد الأعضاء أو نسبة قريبة منها.

 

وظل هذا هو الموضوع الوحيد المعلق فى اجتماع المجلس العسكرى الذى عُقد بعد ساعات على اجتماع الوفد الذى انتهى بعيد فجر الخميس 7 يونيو. وبدا أن الخلاف الباقى وجد طريقه إلى الحل عندما قدم رئيس حزب البناء والتنمية د. صفوت عبدالغنى مبادرة وتنازل عن مقعدين مخصصين لحزبه ومحسوبين ضمن حصة الأحزاب الإسلامية، على أن يشارك فى اختيار عضوين معبرين عن التيارات الأخرى.

 

ولكن مبادرة د. عبدالغنى لم تكتب كلمة «النهاية» مساء 7 يونيو 2011، ولم تسدل الستار على أكبر أزمة سياسية ــ وليست ميدانية ــ شهدتها مصر بعد ثورة 25 يناير، وهى أزمة تشكيل الجمعية التأسيسية. فسرعان ما ظهرت «الشياطين» الكامنة فى تفاصيل الاتفاق على المحاصصة لأنه جاء فضفاضا غير محدد وشفوى غير مكتوب، ولم يحدد بشكل قاطع كيفية حساب المقاعد المخصصة لمؤسسات الدولة (18 مقعدا) وموقعها فى هذه المحاصصة. فقد ظهرت روايتان تقول إحداهما إن هذه المقاعد ستكون ضمن الخمسين مقعدا المخصصة للتيارات الدينية، وتبناها حزب الحرية والعدالة والنور وأكدها حزبا الوفد وغد الثورة، بينما تؤكد الثانية أن مقاعد تلك المؤسسات ليست ضمن حصة أى من الفريقين. ولم يكن هناك وقت كافٍ لحوار جديد لمعالجة هذا الخلاف، حيث كان رئيس المجلس العسكرى قد وجه الدعوة إلى عقد الاجتماع المشترك لانتخاب الجمعية التأسيسية الثانية يوم الثلاثاء 12 يونيو. وهذا هو ما حدث فى ظل انقسام جديد يثير سؤالا كبيرا عن مستقبل جمعية 12 يونيو وهل تلقى المصير الذى انتهت إليه جمعية 24 مارس؟

 

 

 

القصة الكاملة لمعركة الجمعية التأسيسية (1-2)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved