الثلاثة الكبار

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 20 ديسمبر 2017 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

تكاد لا تفارق مخيلتى هذه الأيام صورة استحقت أن توصف بالتاريخية منذ أن تصدرت صفحات عديدة فى صحف الأربعينيات من القرن الماضى وصفحات أخرى فى كتب التاريخ الدبلوماسى والعلاقات الدولية، صورة زينت العديد من صالونات بيوت السياسيين وسفارات أوروبا وأمريكا خلال الشهور الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، صورة جمعت جوزيف ستالين وفرانكلين روزفلت وونستون تشرشل فى لحظة من أهم لحظات التحول فى النظام الدولى من حال القطبية المتعددة إلى حال القطبية الثنائية دون المرور بتجربة القطب الواحد، وهى التجربة التى كانت الولايات المتحدة مرشحة لقيادتها لولا أن الاتحاد السوفييتى عجل بإعلان امتلاكه السلاح النووى.

حدثت خلال الأسابيع الأخيرة تطورات عادت بذاكرتى إلى صورة الثلاثة الكبار وبصفة خاصة إلى مغزى نشرها فى ذلك الوقت على نطاق واسع. حملت الصورة من وجهة نظرى أكثر من مغزى وبعثت بأكثر من رسالة إلى شعوب العالم وإلى المسئولين فى الدول المستقلة وإلى المناضلين فى الأقاليم الخاضعة للاستعمار. المغزى الأهم كان فى الإيحاء بقرب انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء على دول المحور، أما الرسالة الأهم فكانت عن النية المتوافرة لدى الحلفاء لصياغة نظام دولى جديد يعتمد المبادئ التى بشر بها الحلفاء خلال الحرب ووضع الأسس الكفيلة بمنع نشوب حرب عالمية ثالثة. لا أظن أنه فات على كثيرين استجلاء ما لم تكشف عنه الصورة. لم تكشف الصورة التاريخية عن حقيقة أن الهنود والصينيين والمصريين وعربا آخرين كانوا قد أدركوا بالفعل أن بريطانيا العظمى التى مثلها فى الصورة رئيس حكومتها المستر ونستون تشرشل لن تكون، ولا يمكن أن تكون حتى لو شاء تشرشل وحزبه، طرفا فى الصيغة الجديدة التى ينشغل بإعدادها الخبراء الأمريكيون والسوفييت وتحت رقابة ومشورة خبراء بريطانيين، صيغة تلائم النظام العالمى الجديد. لقد كشفت الحرب، منذ بدايتها فى واقع الأمر، عن حقيقة ضعف بريطانيا العظمى ثم كشفت مباحثات السلم التى جرت بين الكبار عن المدى الكبير الذى تدنى إليه هذا الانحدار. 

***

أقارن بين صورة تاريخية منشورة وصورة تصنعها خيالاتنا. الصورة التى يصنعها خيالى هى بالمثل لثلاثة رجال، كل من الثلاثة رئيس دولة. أحدهم رئيس دولة عظمى تنحدر، والثانى رئيس دولة كانت عظمى وانحدرت، بل وسقطت، والآن تنهض، والثالث رئيس دولة صاعدة إلى مرتبة الدولة العظمى. أتحدث هنا على التوالى عن دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة وفلاديمير بوتين رئيس الاتحاد الروسى وشى جين بينغ رئيس جمهورية الصين الشعبية، ثلاثة سوف يقررون فيما بينهم مصير النظام الدولى الراهن وشكل النظام الجديد. 

الثلاثة، فيما نعلم، باقون معنا لسنوات قادمة. ترامب تنتهى مدته الدستورية بعد ثلاث سنوات ويحق له أن يرشح نفسه لولاية ثانية مدتها أربع سنوات. بوتين تنتهى مدته الربيع القادم وقد قرر ترشيح نفسه لولاية رابعة تمتد ست سنوات أخرى. يبقى شى وقد بدأ منذ أسابيع ولايته الثانية لمدة خمس سنوات وينص المبدأ الذى استنه الزعيم دينج شياو بينج على عدم جواز المد بعد الولايتين. معنى هذا أننا سنعيش فى كنف الرؤساء الثلاثة معا مدة قد لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد نظريا عن خمس سنوات. يجب أن نعترف للحق والتاريخ أن الثلاثة، رغم كل مظاهر الخلاف ووصف ترامب لبلديهما كمنافستين لأمريكا، تعاونوا مع بعضهم البعض تعاونا وثيقا وطيبا إلى حد غير معروف سلفا فى تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين أقطاب دول عظمى. 

***

تابعت، أنا وغيرى، تطور العلاقة بين الولايات المتحدة والصين منذ كان الرئيس باراك أوباما فى السلطة وكان الرئيس شى يعمل حثيثا لتوطيد علاقة سلم وتعاون اقتصادى مع العالم الخارجى وإعادة تنظيم الدولة الصينية وإعدادها من الداخل لتكون جاهزة لتولى مهامها كدولة عظمى. حرص الرئيس الصينى على الالتزام بوصية الرئيس دينج أن يكون الصعود الصينى إلى القمة متدرجا وهادئا وبطبيعة سلمية تفاديا للنبوءة قديمة العهد قدم الإمبراطوريات الإغريقية والرومانية بحتمية الصدام العسكرى بين قوة عظمى صاعدة وقوة عظمى منحدرة. لفت نظر أغلبية المراقبين المدى الذى ذهبت إليه الولايات المتحدة فى الاعتماد على الصين اقتصاديا لتفادى اتساع الفجوة التى تفصل بين البلدين وتزيد من احتمالات الصدام. أفلح الطرفان. استمرت الصين تصعد فى ظل أبواب مفتوحة فى السوق الأمريكية وعجز متزايد فى نظام المدفوعات الأمريكى. لم تخش إقدام أمريكا على فرض عقوبات حمائية تحد من معدل الصعود الصينى. ولم تخش أمريكا إقدام الصين على إحراجها بإثارة متاعب عسكرية لها فى مياه تايوان. كلاهما احترم مبدأ «صين واحدة» ولكن بدولتين.

جدير بالذكر أن شكوكا نشأت حول هذا الفهم لتطور العلاقة الصينية الأمريكية عندما هدد الرئيس أوباما بتحويل بؤرة اهتمام الاستراتيجية الأمريكية من الشرق الأوسط لتصبح شرق آسيا. لم تنفذ أمريكا التحول لسببين بسيطين هما: أن الرئيس ترامب لم يقتنع، وظل يفضل سياسة الانسحاب المتدرج والمكلف، أما السبب الثانى فيتعلق فيما أظن باكتشاف المؤسسة العسكرية الأمريكية صعوبة تحقيق هذا التحول بينما القوة العسكرية الأمريكية مجمدة والقوة العسكرية الصينية متطورة. واقع الأمر يكشف لنا بكل الوضوح الممكن عن أن وجود الرئيس ترامب فى الحكم يمثل ضرورة حيوية لاستمرار الصين فى الصعود المتدرج والهادئ، وبدون هزات عنيفة فى العلاقة. 

***

يبدو الأمر لى واضحا أيضا على الجبهة الأخرى، جبهة العلاقة بين الرئيسين بوتين وترامب. لا أظن أننى، وأمام الأنباء العديدة المتدفقة حول اتهامات فى الكونجرس والإعلام الأمريكى لحكومة الرئيس الروسى بالتدخل فى السياسة الأمريكية إلى حد مساعدة الرئيس ترامب على تحقيق الفوز فى الانتخابات التى أتت به رئيسا للولايات المتحدة، فى حاجة لمزيد من الإثباتات على المدى الذى يمكن أن يذهب إليه الرئيس ترامب فى اعتماده على الرئيس بوتين. إنما نحن فى الحقيقة نتحدث عن علاقة تبدو على القرب أشد تشعبا وأخطر عاقبة. نقرأ عن اختراق روسى فى عمق الحياة السياسية الأمريكية وليس مجرد تدخل عادى. إن صحت الاتهامات يكون الرئيس بوتين قد حقق بعضا من حلم الزعماء السوفييت ببدئه تفكيك أمريكا سياسيا وإفقارها إيديولوجيا وإخراجها من معادلة القيادة الدولية. ترامب مستفيد من علاقة الحب القائمة مع بوتين وبوتين أيضا مستفيد. لا مبالغة كبيرة فى الرأى القائل بأن المؤسسة الحاكمة فى أمريكا فى حال متردية من الانقسامات والشكوك بل والكراهية المتبادلة كتلك التى تفصل الطبقة الحاكمة عن أجهزة الإعلام والإعلاميين عموما. لا يوجد بعد ما يؤكد وجود دور روسى ولكن السائد الآن فى واشنطن وفى أوروبا أيضا أن حربا سرية تكاد تطيح بالاستقرار السياسى فى أكثر من دولة أوروبية وجميع أصابع الاتهام متجهة نحو موسكو. 

لدينا أكثر من دليل على أن ترامب أعتمد على بوتين فى سوريا أو على الأقل سهل له حلم إقامة إمبراطورية نفوذ ومصالح لروسيا فى الشرق الأوسط تبدأ من سوريا وتتمدد فى أنحاء الإقليم. كذلك ساهمت روسيا البوتينية فى تحقيق حلم الرئيس ترامب بتخفيف العبء الأوروبى الملقى منذ نهاية الحرب العالمية على أكتاف أمريكا. فى الوقت نفسه لم يتردد ترامب فى الاعتماد على الرئيس شى لأنه الزعيم الذى حافظ على الاستقرار العالمى فلم يتسبب لترامب وحكومته فى أزمات محرجة. يعلم ترامب أيضا أن لا حل ممكنا لمشكلة كوريا بدون مساهمة بكين ولا أمن فى بحرى الصين الشرقى والجنوبى إلا بوجود قوة عظمى فى الصين. كلاهما، بوتين وشى يوفران أموالا طائلة على الخزينة الأمريكية بالأدوار التى يقومان بها فى سوريا والشرق الأوسط من ناحية وجنوب شرقى آسيا من ناحية أخرى.

يبدو ترامب للكثيرين فى واشنطن وعواصم أوروبية كمن يترنح ضعفا أو كرئيس لن يتمكن من إتمام ولايته الأولى. إلا أنه لا يبدو هكذا لكل من بكين وموسكو، أو على الأقل، لن تتركه أى منهما ليسقط فيخسر ثلاثتهم الرهان ويترك منصبه لنائبه بنس، شخص غير معروف للدولتين الأعظم وغير مأمون الجانب بسبب تطرفه الدينى والسياسى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved