يا أهل مصر.. انتبهـوا

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 20 ديسمبر 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

عائد من الخارج. رحت إلى هناك عندما ألحت ضرورة الاقتراب من الثورات العربية الأخرى فى محاولة جديدة لتلمس جوانب التفاعل بين الثورات العربية والتعرف بشكل خاص على ما يمكن أن يكون قد طرأ على مكانة الثورة المصرية خارج مصر. كان الاقتراب واجبا أيضا، فى محاولة أخرى، أتحسس من خلالها عمق الندوب والشقوق التى أحدثتها هذه الثورات جميعا فى النظام العربى ككل وأبحث فى صحة ما يتردد فى دهاليز العمل العربى المشترك عن دبلوماسية دولة قطر ودورها فى صنع توازنين جديدين فى الإقليم: توازن للقوة وتوازن للثورة.

 

لم أخطئ باتخاذ قرار السفر، ولكن ربما قصرت فى إعداد النفس وتأهيلها لتتلقى صدمة بعد أخرى، صدمة فرح وابتهاج تعقبها صدمة نكد وأسى. كان يجب أن أتوقع أن الناس هناك كالناس هنا يستيقظون فى الصباح على حال ويعودون إلى مضاجعهم فى الليل على حال مختلفة. تفاؤل فى الصباح وتشاؤم بالليل أو العكس. كان يجب أن أعرف أن المصير المشترك صار حقيقة ملموسة بعد أن كان شعارا أو وهما وأسطورة. يسألون جميعا، الصغار قبل الكبار، عن مصير مصر فى السنوات القليلة القادمة. يريدون أن يكونوا متأهبين لمواجهة كافة الاحتمالات وفى مقدمتها الاحتمالان الأهم: يبقون أم يرحلون.

 

●●●

  أجواء الإقليم تشى بحالات فشل حاصل أو محتمل على المستوى القطرى، أى فشل دولة بعد أخرى، وتشى بحالة فشل مؤكد على المستوى الإقليمى، أى فشل النظام العربى. حديثى عن النظام الإقليمى يطول ليس فقط لأن الأسس تصدعت ولكن أيضا لأن العمل الإقليمى فى العالم كله لم يحقق للشعوب ما طمحت إليه ولم يلب تطلعات علماء السياسة والتكامل الذين وضعوا الخطط لمستقبل زاهر فى ظل عالم من التكتلات الإقليمية. العمل الإقليمى المشترك لم يحقق للعرب إلا أقل القليل وتباطأت مسيرته فى أوروبا ولم يوفر لشعوب افريقيا الأمن والسلام. على كل حال الحديث فى أمره يطول ولكن فى موعد آخر.

 

●●●

 

 أصداء الثورات تتردد فى كل بقاع المنطقة. الإجماع قائم على أن مستقبل المنطقة مختلف عن الحاضر ماديا وحضاريا وديموغرافيا. أغلبية بين المفكرين المتخصصين والسياسيين لديهم شعور يعكس اقتناعا متزايدا بأن الثورات العربية إن كانت قد أفلحت فى شىء، فهو أنها كشفت عن ضخامة الفشل الذى منيت به تجربة بناء الدولة القومية الحديثة فى العالم العربى. أذكر أن هذه النتيجة كان يمكن أن تدخل السعادة إلى قلوب قوميين وشيوعيين وفوضويين فى عقود الخمسينيات والستينيات حين كانت الدولة القطرية الخصم اللدود للمتطرفين من دعاة الوحدة العربية والأممية الاشتراكية. اليوم أراهم مشفقين على حالها والبعض ممن رأيت مهووس بهاجس سقوط الدولة وصعود الأممية الإسلامية. آخرون لا يخفون سعادتهم بقرب زوال الدولة القطرية لصالح دولة الخلافة الاسلامية.

 

تفرض الدقة توخى الحذر قبل تعميم الفشل وعند تعريفه. فالثورة فى مصر مثلا لم تكن إعلانا بفشل «الدولة» فى مصر، إنما كانت تعبيرا عن فشل طبقة حاكمة ونظام حكم، كان هذا هو الاعتقاد الذى ساد بين الكثيرين من المفكرين فى مصر وخارجها لمدة، للأسف الشديد، لم تطل. كان الظن على امتداد الشهور الأولى للثورة ان «الدولة فى مصر» استثناء من نظرية صعود الأمم وانحدارها. الدولة فى مصر محصنة لا تمس.

 

ثم جاء يوم رأينا فيه المكونات الثلاثة الرئيسية للدولة المصرية تنقسم على ذاتها أو تكاد تنفرط أو تهان أو يفرض عليها الانزواء والتخلى عن أداء وظائفها. جاء يوم أغبر رأينا فيه المؤسسات التشريعية معطلة أو مشلولة بالقصد أو بالخديعة، والمؤسسات الأمنية فاقدة الهيبة والمكانة وعاجزة أو ممتنعة عن اداء مهامها كذلك بالقصد أو بالخديعة وربما، وهو ما لا نريد أن نواجهه، بالرغبة المتوحشة فى الانتقام . رأينا أيضا أحزابا ليست بأحزاب، ومن ادعى منها حقه فى هذه الصفة لا يستطيع انكار انه لم يمارس الحكم ولا يعرف أصوله ولم يتدرب عليه، ظنا منه أو اقتناعا بأن كراسى الحكم هى التى تحكم وليس الجالسين فوقها.

 

●●●

 

دولتنا تفقد مؤسساتها أو تتعطل واحدة بعد الأخرى. دولتنا «تعيش» بدون عقيدة سياسية تشد قطاعات المجتمع وطوائفه وطبقاته إلى بعضها البعض. أعرف، وأظن أن أغلب مفكرينا يعرفون أيضا، اننا نعيش مرحلة هى فى واقع الأمر امتداد لمرحلة سابقة غاب فيها هذا العقد، أى هذه العقيدة. اعرف أيضا أن هناك من سيقول ان الدين السياسى حل محل العقيدة السياسية بل هو العقيدة بامتياز، فهو بحكم تعريفهم له، ينفع دينا وينفع سياسة فى آن واحد.

 

أقول لهؤلاء، وبدون تردد، اخطأتم وأسأتم. اخطأتم حين قررتم رفع شعار الإسلام هو الحل، وأخطأتم حين أسقطتم هذا الشعار بعد ان تأكدتم أنه فى غير مصلحتكم. عرفتم أن السياسة مآرب ومصالح وقرارات ونفاق وكذب واتفاقيات ظالمة وقواعد عسكرية ومميزات خاصة للدول العظمى فى أرض الإسلام بعضها مناف للدين الاسلامى، بعضها وربما أغلبها أفعال لا يجوز ان تمارسها حكومة تعتنق الإسلام دينا وعقيدة سياسية. اخطأتم وأيضا أسأتم إلى هذا الدين العظيم، تماما كما أساء إليه وإلى غيره من الأديان حكومات عديدة فى عهود الامبراطوريات الدينية التاريخية كالامبراطورية الرومانية المقدسة وامبراطورية المغول فى آسيا والامبراطورية العثمانية فى أوروبا والشرق الأوسط وامبراطوريتى المايا والانكا فى أمريكا الوسطى. تسىء إليه أيضا حكومات استخدمته فى أفغانستان وباكستان وتستخدمه الآن فى دول عديدة فى عالمنا العربى.

 

●●●

 

 سقطت أو انقسمت أو انفرطت مؤسسات ومنظومات فكر وأخلاق قامت على أساسها واستقرت الدولة فى مصر عبر السنين. يأتى فى الصدارة ما وقع من ظلم وتجن على مكانــــة الدين فى هـــــذه الدولة باعتباره أحد أهم هذه المؤسسات والمنظومات.

 

عشت سنوات عمرى لم أشهد يوما تعرض فيه الدين الاسلامى لمثل هذا التشويه الذى يتعرض له الآن من أفواه أكثرها تزعم انها الوحيدة المكلفة بحراسة المعبد وتفصيل الفتاوى واطلاق الأحكام وتولى شئون الإدارة والتشريع، كله باسم الدين وحرصا عليه حتى صار الدين قضية للنقاش السياسى واحيانا الغوغائى بين من لا يفقهون فيه، فكما استخدمه السياسيون من الاسلاميين لخدمة أغراضهم فى الحكم والسلطة صار يستخدمه بالنقد اللاذع السياسيون من غير الاسلاميين.

 

●●●

 

تدفعنا هذه الحالة إلى خانة تفكير لم يخطر على الذهن أن يوما سيأتى فنهتم بها أو أنها ستحتل حيزا من تفكيرنا فما بالنا وقد هيمنت. نسأل، وبخوف شديد، إن كانت الدولة المصرية تقترب وبسرعة من وضع تستحق عنده أن توصم بالفشل. نسأل ان كانت مصر قابلة للتصنيف «دولة شبه فاشلة»، بمعنى أن مؤسسـاتها مهددة بالانفراط أو التوقف لفقدانها ثقة الشعب أو لنقص وتشويه أصابا هيبتها واحترامها.

 

أجيب، بتلقائية مستمدة من العادة والتجربة السابقة، بأن البيروقراطية المصرية لن تتوقف عن تسيير المرافق العامة، ومع ذلك يجب أن اعترف بأن الإجابة التى كثيرا ما رددناها مصحوبـــــة بحكاية دولة الخمســــة آلاف ســــــنة، لم تعــــد مرضية أو شافية.

 

فالطاعة التى كانت على مدى القرون سمة البيروقراطية المصرية تفسخت تحت ضغط الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وساد منطق الاحتجاج مزودا بطاقة «تسييس» هائلة. يشهد الواقع، وبخاصة واقع ما بعد الثورة، أن البيروقراطية المصرية بدأت تحطم اسار الالتزام والانضباط وعدم الانحياز، يحدث هذا بينما حلت فى منظومة القيادة السياسية قاعدة الطاعة العمياء لأوامر وتوجيهات نخبة حاكمة جديدة. بمعنى اخر حرمت الدولة المصرية من طاعة كانت ضرورية فى جهازها البيروقراطى وأصيبت بطاعة فى منظومة الحكم، هى أخطر على الاستقرار والتقدم من أى تحولات أخرى.

 

●●●

 

نتمنى ألا تتدهور أحوال مصر إلى الحد الذى يسمح للآخرين ولنا، تصنيفها كدولة فاشلة، مثل الصومال ومالى، أو كدولة أقرب جدا إلى الفشل مثل ليبيا، وكدول عربية أخرى لم يعلن فشلها لأسباب تتعلق باستراتيجيات دول عظمى، ولكنها فاشلة بحكم معايير أخرى متعددة، ومنها اليمن وسوريا والكنغو ونيجيريا وأفغانستان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved