قمة المناخ والفقر المائى

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 20 نوفمبر 2017 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

أخذت «دونا نيمر» مديرة بورصة جوهانسبرج تمسح القاعة بعينين شاخصتين، ربما خذلها ضعف الحضور الذى لا يقارن بجلسات العام الماضى، أو هى ترقب بإشفاق جريان نهر الراين، الذى أطلت عليه قاعة الفندق الهادئ فى مدينة «بون» بألمانيا، تلك المدينة الوادعة التى شهدت فاعليات قمة المناخ خلال الفترة من ٦ إلى ١٧ من نوفمبر الحالى. وكما جرت العادة السنوية، فقد أقيم على هامش القمة حوار نظمته مبادرة بورصات الأوراق المالية المستدامة SSE التابعة للأمم المتحدة، وهو الحوار الذى شاركت فيه البورصة المصرية، وبورصات يورنكست ــ باريس، وشنغهاى، ولوكسمبورج... وعدد محدود من البورصات الأخرى ومنها بورصة چوهانسبرج.

عندما أمسكت «دونا» الميكروفون قالت: إن مدينة كيب تاون فى بلدها جنوب إفريقيا أصبح رصيدها من مياه الشرب صفرا... ثم تابعت محدثة الحضور من ممثلى أسواق المال والبنوك وبعض المؤسسات الأخرى عن واقعة مؤلمة، مفادها أن شخصا أخبرها كم يتمنى لو حظى بحمام تام فى مدينة كيب تاون! لأنك قد تخرج من حمامك مغطى بالصابون بعد أن تنقطع عليك المياه قسرا بعد مرور ١٢٠ ثانية فقط، حرصا من الدولة على حتمية التوفير فى استهلاك المياه! هنا تابعت «دونا» بحسرة كيف يمضى المرء إلى بلد آخر حيث المياه تملأ الشوارع بعد حصول السيارات على حمام معتبر بجالونات من الماء العذب، لا يملك الكثيرون رفاهية الاستمتاع به فى بيوتهم (يمكنك عزيزى القارئ أن تتكهن عن أى بلد تتحدث). بالتأكيد سوف يسيطر على الإنسان شعور غريب، شعور بالفقر المائى المدقع. هكذا تحولت دفة الحوار من بدائل تمويل الاقتصاد «الأخضر» عبر أدوات مالية غير مصرفية مثل السندات الخضراء، إلى أهمية إصدار ما أسماه المشاركون السندات «الزرقاء» للتغلب على مخاطر الفقر المائى المحيط بالقارة السمراء على وجه الخصوص. 

***

وعلى الرغم من كون أزمة الفقر المائى لا تصنف ضمن مجالات حماية البيئة المتضمنة فى الأحرف الثلاثة المعبرة عن مجالات الاستدامة ESG وهى الأحرف الأولى من كلمات البيئة ــ المسئولية الاجتماعية ــ الحوكمة باللغة الإنجليزية. وعلى الرغم من تصنيف أدوات حلول تلك الأزمة ضمن مجال المسئولية الاجتماعية للمحافظة على المياه، فقد انتبه الحضور بشدة إلى خطاب تلك السيدة، وثمن ممثل بورصة شنغهاى الصينية تجربة بلاده فى إصدار سندات لتمويل جهود حماية الأنهار، التى تحقق عائدا دوريا لأصحابها نظير حماية مجراها من التلوث، وهو العائد الذى يتحول لاحقا إلى عائد على الاستثمار بالنسبة للمكتتبين فى تلك السندات ومشتريها، ممن يمثِّلون جانب الطلب فى تلك المعادلة الاستثمارية.

الفقر المائى لم يعد بعيدا عن مصر، فى ظل التراجع المستمر فى نصيب الفرد من المياه الصالحة للشرب، وصور الهدر المائى المستفزة فى مختلف استخداماتنا، وتهديدات سد النهضة الإثيوبى التى باتت أكثر خطورة خاصة مع فشل المفاوضات الفنية الأخيرة، ومن قبلها فشل الكثير من المساعى الدبلوماسية. تكلفة معالجة مياه البحر ومياه الصرف كبيرة للغاية. والعديد من الدول الأغنى من مصر تستهلك غالبية مواردها المالية ومصادر الطاقة الأحفورية لديها فى محاولة يائسة للتغلب على فقرها المائى، وما المملكة السعودية منا ببعيد. حروب المياه المرتقبة قد تتحوَّل إلى حروب أكثر حدة على موارد الطاقة، إذا لم يعد هناك بد من معالجة المياه للتغلب على الشح المائى المخيف.
***
التعدى على نهر النيل ــ بالفعل لا بالقول، كما انشغلنا أخيرا بواقعة إساءة إحدى المطربات للنيل ــ يجب أن يعامل باعتباره جريمة خطيرة فى القانون المصرى، لا تقل عقوبتها عن جرائم القتل غير العمد. وأى قتل أشد إثما من تعريض الأرض والبشر لمخاطر الجفاف.

تهون إذن كل المؤشرات الاقتصادية والمالية، وتتحول شاشات البورصات فى العالم إلى مزحة سخيفة إذا لم يتم ترجمة قراءاتها إلى واقع ملموس فى الاقتصاد الحقيقى، وهو مسعى مبادرة البورصات المستدامة الأصيل. مجالات التمويل الأخضر والأزرق أصبحت احتياجاتها تقدر بالتريليونات (٩٠ تريليون دولار مطلوبة لتحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ والموقعة فى الاجتماع الحادى والعشرين للقمة COP21). وعلى الرغم من تواضع هدف القمة الرئيسى والرامى إلى عدم ارتفاع حرارة الأرض بأكثر من درجتين مئويتين بنهاية القرن ــ مقارنة بنحو ١٫٥ درجة مئوية فى عصر ما قبل الثورة الصناعية ــ فإن هذا الهدف لم يتحقق، وهو ما تم رصده بكثير من الأسف فى قمة مراكش العام الماضى. ضاعف من صعوبة تحقيق ذلك الهدف إعلان الولايات المتحدة «الترامبية» اعتزامها الانسحاب أخيرا من اتفاقية باريس، وهى تمثل منفردة أكثر من ٢٠٪‏ من مصادر ارتفاع الحرارة، الأمر الذى ألقى بظلال كئيبة على قمة الأطراف المعروفة بقمة المناخ هذا العام، وانعكس سلبا على تمويل الفاعليات ومستوى الحضور فى كثير من الاجتماعات وورش العمل المنعقدة، وأعطى إشارة سلبية للغاية إلى جهود الحفاظ على الكوكب من دمار محتم، لو استمر الاحتباس الحرارى يسير بمعدلاته الراهنة. 

تتضاءل أية قيمة للمنظمات الدولية، بل وللمجتمع الدولى أمام إرادة دولة كبيرة واحدة. خاصة إذا اختزلت تلك الدولة المسيطرة والممولة للنشاط الأممى فى إرادة شخص واحد! تذوب إذن المؤسسات والمنظمات وتبقى شريعة الأباطرة. ثم إنك إذا تابعت بعض وسائل الإعلام الأمريكية المهمة هذه الأيام، تشعر أنك بصدد دولة مختطفة، أو محتلة من قبل إدارتها! 

أهداف الاستدامة والتنمية المستدامة التى تراوحت بين أهداف بيئية وأخرى مجتمعية وثالثة تتعلق بالحوكمة فى اتصالها باحتياجات الاقتصاد، لم تعد مجرد شعارات يتشدق بها خبراء المؤسسات الدولية وبنوك الاستثمار الكبرى، من أجل الحصول على امتيازات ضريبية وتسهيلات تمويلية.. فقد بات من المؤكد أن استمرار الوضع الراهن لن يكون ممكنا، وأن الحفاظ على مستويات معيشة آمنة وعلى اقتصاد مستقر، بل وعلى كوكب صالح للحياة، لن يتحقق إلا ببذل جهود مشتركة على مختلف الأصعدة، لتحقيق أهداف محددة بعناية بالغة وقابلة للقياس الدقيق.

***

إذا كانت رؤية مصر للتنمية المستدامة ٢٠٣٠ قد تطرقت إلى تلك المسائل، فقد غابت المشاركة المجتمعية عن استشعار أهمية تلك الرؤية. كذلك غابت حملات التوعية المتصلة بأهداف التنمية المستدامة، والمنبثقة من الأهداف السبعة عشر التى وضعتها الأمم المتحدة عام ٢٠١٥ تحت ذات الاسم. متلازمة الغرق فى التفاصيل والتعقيدات والأوراق هى بالضبط ما حذر منه ممثل «البنك الأوروبى للاستثمار» فى الحوار المشار إليه، وعلينا فى مصر أن ننتقل من خانة الدعاية إلى خانة العناية. 

بقى أن ألفت الانتباه إلى كون عدد من الشركات فى مصر ملزمة بتخفيض الانبعاثات الكربونية بها بحلول عام ٢٠٢٠ بنِسَب متفاوتة، وأن شركة وطنية مثل مصر للطيران إذ يتعذر تحولها لاستخدام البيوجاز وفقا لمصادر رسمية، ستكون مضطرة للبحث عن نقاط ائتمان كربونية carbon credit لشرائها وفاء بالتزامات تخفيض البصمة الكربونية والتى يشار إليها بالإنجليزية carbon footprint وإلا فقد تمنع مصر للطيران من دخول عدد من المطارات التى هددت دولها بذلك، ونكون بصدد أزمة حقيقية لا حل لها. فإذا نجحنا فى خلق سوق محلية أو إقليمية نشطة لتداول تلك النقاط، سيمكننا الاستفادة من انخفاض أسعارها حاليا، وسيمنحنا ذلك بعض الوقت للامتثال البيئى على جميع الأصعدة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved